الدوائر الخمس 9 2 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-01-01

 

‏استدعي الكهنة ساحراً من خارج "مصر" بأمر من الفرعون شخصياً وهذا الساحر أتى من أقصى بلاد "السند" وقد كان معروفاً في أواسط السحرة لدرجة أنه عندما وصل لــ "مصر" تهافت عليه السحار لتقبيل يده. دخل الــ (ساحر السندي) على الفرعون الذي أمره بالتحقيق في مقتل كبير السحرة ومعاونيه في أسرع وقت.

‏طلب (الساحر السندي) رؤية ما تبقى من جثث الكهنة المقتولين لفحصها وقد كان الأمر يسيراً لأن الجثث لم تدفن بل حنطت ووضعت في توابيت كما جرت العادة. بعد فحص الجثث طلب (الساحر السندي) أيضاً زيارة مقر الساحر الكبير فأعطاه الفرعون الإذن ولو أن ذلك كان ممنوعاً بل محرماً في ذلك الوقت لكن خوف الفرعون من هذا القاتل المجهول لم يترك له خياراً آخر. لم يمض (الساحر السندي) وقتاً طويلاً حتى خرج من قصر الساحر الكبير متوجهاً لقصر الفرعون وعندما دخل عليه رمى الخاتم الأخضر عند أقدامه وقال: "قاتل سحرتك داخل هذا الخاتم.."

 (الفرعون): وماذا يكون هذا القاتل؟

‏(الساحر السندي): شيطان معلق بين السماء والأرض لم يكمل مهمته ولن يكملها لذلك فهو في حالة أشبه بالجنون..

(الفرعون) بتجهم: دمره حالاً!

(الساحر السندي): تدميره سهل لكن لدي شرط قبله..

(الفرعون) بغضب: دمره وإلا قتلتك!

‏(‏الساحر السندي): البس تاج الحكمة وع عنك قرون الغضب.

غضب (الفرعون) غضباً شديداً من كلام (الساحر السندي) وقال: ومن تكون أنت كي تأمرني أيها الوضيع؟! نفذ أمري دون جدال!!

‏(الساحر السندي): الحلم عند الغضب رفاهية يحلم بها الجهلاء وينعم بها العقلاء..

(الفرعون) بصوت مرتفع وغاضب: أنا جاهل يا مأجور؟! كيف تتحدث مع الفرعون الأعظم بهذا الشكل يا نكرة؟!

(الساحر السندي): لا فائدة من الجدال معك فثباتك على الباطل لا يختلف عن الانقلاب على الحق..

‏أمر (الفرعون) حراسه بقتل (الساحر السندي) وانتزع الخاتم منه ولكن وفي لمح البصر اختفى الساحر ومعه الخاتم ذو الفص الأخضر. بعد تلك الحادثة استمر القتل بين صفوف السحرة حتى طال الفرعون نفسه وبعدها بسنوات عديدة هدأت موجات القتل حتى توقفت تماماً.

(ماجد): قصة غريبة..

‏(الباحث): هذه بداية الأسطورة فقط.. توقف هجمات (ديموس) في تلك الفترة كان سراً غامضاً وتقول الروايات إن هناك مجموعة تمكنت من حبسه في الخاتم بالاستعانة بالجعران الأسود لكن لا أملك تفاصل عن متى وكيف حدث ذلك أو حتى عن صحة الرواية من الأساس

‏(عمر): ماذا حدث بعد ذلك؟

‏(الباحث): هناك فجوة تاريخية بين فترة ظهور (د‏يموس) أول مرة قبل عدة قرون في عهد الفرعون وأول ظهور موثق له بعدها.. فالفترة الزمنية بينهما كبيرة وخلالها حبس وتحرر وتنقل الخاتم والجعران بين أياد ‏كثيرة لكن لا يوجد مخطوطات بين يدي لشرح تلك الفترة

 (ماجد): ماذا عن الكتاب الذي كان يقرؤه المستشرق الفرنسي؟

(الباحث): الكتاب استأنف القصة بظهور الخاتم الأخضر في عهد دخول الدولة الرومانية لــ "مصر"، وكان هذا في سنة ثلاثين قبل الميلاد تقريباً وكانت "مصر" وقتها مهمة جداً للإمبراطورية الرومانية وكانت الاسكندرية تعد ثاني أكبر مدن العالم أهمية بعد "روما" وتحتضن أكبر مكتبة عرفها الإنسان آنذاك.

‏كانت "روما" في ذلك الوقت حريصة على إبقاء "مصر" تحت ظل الإمبراطورية لذا تدفقت إليها الفيالق التي أوكلت بحماية أهم ولاية بعد العاصمة نظراً لكثرة ثرواتها والتي كانت شريان الحياة للإمبراطورية الرومانية. حاكم "مصر" أو مندوب الرومان في تلك الفترة لم يكن كبقية حكام الولايات الأخرى والذين كانوا يعدون نواباً للإمبراطور فقط تحت مسمى "قائم مقام قنصل". كان لقب "وال" أو "حاكم عام" هو اللقب الرسمي لمن كان يحكم "مصر" آنذاك وكان لقبه الرسمي هو "الحاكم العام للإسكندرية ومصر".

‏وضع الإمبراطور في تلك الفترة قانوناً يقضي بعدم جواز زيارة "مصر" من قبل أي أحد من عامة الشعب أو حتى أفراد الحكومة أو من طبقة الفرسان إلا بإذن خاص منه شخصياً مما أعطاها وضعاً خاصاً ومميزاً ميزها عن بقية الولايات الأخرى. كان من ضمن الذين ترددوا على "مصر" بحرية جنرال في الجيش الروماني يدعي (أتلموس) وهو أحد مساعدي حاكم "مصر" المنتدبين من قبل الإمبراطور وكان له من الحصانة والمكانة ما مكنه من الذهاب وقتما وأينما يشاء في البلاد وأخذ ما يريده دون سؤال أو مساءلة. وقعت أعين (أتلموس) يوماً وهو في جولة مع حراسه في أحد الأسواق المصرية على فتاة جميلة لم يتجاوز عمرها الستة عشر عاماً تبيع بعض القمح والكتان فأرادها لنفسه وأمر حراسه بإحضارها للقصر قائلاً:

"أحضروا تلك الفتاة التي تلبس ذلك الخاتم الأخضر لقصري الليلة.."

‏تم إحضار الفتاة التي كانت تدعى (نوريا) عنوة إلى قصر (أتلموس) الذي كان يستعد لقضاء ليلة من لياليه الحمراء التي يقيمها باستمرار ولكن عندها أدخل الحراس الفتاة عليه بدأت بالصراخ والاستنجاد وحاولت الهرب من براثن (أتلموس) بالاختباء في أرجاء تلك الغرفة الكبيرة لكن هذا لم يزد (أتلموس) إلا رغبة وإصراراً على افتراسها.

‏حاصر (أتلموس) الفتاة في إحدى الزوايا وقبل أن يهجم عليها تمزق إلى مجموعة كبيرة من القطع الدموية الصغيرة كما قالت بعض الروايات، في الصباح دخل الحراس ولم يجدوا الفتاة أو أي أثر للتعرف على (أتلموس) سوى ملابسه المعجونة مع لحمه المفروم والأرض المطلية باللون الأحمر الجاف جزئياً.

أعطى قائد حراس القصر والفيلق الخامس (سيرزيوس) أوامره‏ للجنود بالذهاب للمكان الذي أحضروا منه الفتاة للقبض عليها والتحقيق معها بشأن ما حدث لــ (أتلموس) وعندما وصلوا للسوق لم يجدوها حيث رأوها أول مرة وبعد سؤال الناس عنها علموا أنها ابنة لفلاح يملك مزرعة على ضفاف النيل فتوجه القائد لتلك المزرعة مع عشرين من الجنود الرومان للقبض عليها. وصل القائد ومن معه واقتحموا المزرعة وقلبوها رأساً على عقب ولم يجدوا الفتاة أو أباها فقرروا البقاء حتى يعودا.

‏حل الليل وخيم الظلام على المكان ولم تظهر الفتاة أو أبوها فقرر (سيرزيوس) إرسال فرقة استطلاعية مكونة من خمسة رجال للبحث في المنطقة حول المزرعة. خرج الرجال وغابوا ولم يعد أي منهم بالرغم من أن القائد أعطاهم وقتا محدداً للبحث والعودة فوراً إذا لم يجدوا شيئاً مما دفعه لإرسال خمسة جنود آخرين للبحث ‏عنهم ولكنهم لم يعودوا أيضاً. دب الرعب والخوف بين بقية الجنود لكن (سيرزيوس) لم يكن رجلاً عادياً بل كان قائداً فذاً ولا يهاب أعداءه لذا قرر الخروج مع من تبقى من الجنود العشرة للبحث عن الآخرين.

‏حمل الجنود بعض شعل النار التي أوقدوها في المزرعة للتدفئة ‏وتوجهوا غرباً باتجاه النهر ومع أن الليلة كانت منيرة بسبب اكتمال القمر إلا أنهم كانوا ممسكين بحرص بالشعل التي حملوها معهم خلال البحث وعند وصولهم لحافة النهر صرخ أحد الجنود قائلاً: "أيها القائد لقد وجدت شيئاً!"

صرخ (سيرزيوس) في استجابة للجندي: ماذا وجدت؟!

‏رد الجندي بصوت أقل صخباً وقال: لا أعرف..

‏أعطى القائد الإشارة للجنود بالتوجه لمصدر صوت الجندي وعندما وصلوا وجدوه يرتجف من الخوف وبشير بإصبعه لمكان قريب منه على الأرض. وجه الجنود مشاعلهم المتقدة للمكان الذي كان يشير إليه الجندي المرعوب ليدب الرعب فيهم أيضاً، فقد كان على الأرض كومة من الأشلاء المختلطة بالزي الروماني الممزق وكانت فيما يبدو لجنديين أو ثلاثة على الأقل. رفع (سيرزيوس) وجهه ‏الناظر مع جنوده لكومة اللحم الممزقة ووجهه للأفق قائلاً: "يبدو أننا وجدنا المجرم.."

‏رد أحد الجنود المرعوبين قائلاً: أي بشر يستطيع فعل ذلك يا سيدي؟

(سيرزيوس) بهدوء وعينه ما زالت تنظر للأفق: ربما لا يكون من البشر؟

‏زاد خوف الجنود بعد جملة (سيرزيوس) وبدأ بعضهم بالحديث عن العودة لكن (سيرزيوس) صرخ فيهم وقال: "من سيتراجع أو ينسحب فسوف يحاكم عسكرياً ويعاقب بالإعدام!!

‏سكت الجنود عن الحديث ثم قال (سيرزيوس) لأحد جنوده بنبرة حازمة: (ماركسس)‏! ألست مختصاً في تعقب الأثر؟!

‏(ماركسس): بلى يا سيدي!

‏(سيرزيوس) وهو يشير للأفق المظلم: ابحث لي عن أي أثر لهذا المجرم حول الجثث وابحث عن بقية الجنود أيضاً!

‏(ماركسس) حانياً رأسه قبل أن ينطلق في تعقب الأثر: حاضر يا سيدي!

‏جلس الجنود وأشعلوا ناراً ودفنوا ما تبقى من جثث زملائهم في ‏انتظار نتيجة البحث وبعد مدة لم تتجاوز الساعة عاد (ماركسس) للقائد (سيرزيوس) وقال:

"لم أجد أي أثر لبقية الفرقة فأثرهم ينقطع بشكل غريب ولم أجد أي آثار أخرى ذات أهمية حول الجثث فكلها آثار لبعض الحيوانات وبعض الحشرات بالإضافة لآثار الجنود أنفسهم بالطبع وهم قادمون من المزرعة."

‏(سيرزيوس) بعد لحظات من التفكير: ما هي الحيوانات التي وجدت أثرها؟

‏(ماركسس): وجدت أثراً لبعض الخراف وأثراً لثعلب وكذلك أثراً لجدي وبعض الطيور مثل مالك الحزين وبعض الحمام.

‏صمت (سيرزيوس) قليلاً ثم قال: تعقب أثر الجدي وأخبرني من أين أتى والى أين ذهب؟

‏رحل (ماركسس) وغاب لفترة ثم عاد وقال لــ (سيرزيوس) بنبرة خالطها القلق والتوتر: لا أعرف ماذا أقول يا سيدي..

‏(سيرزيوس) بغضب: تكلم يا (ماركسس) ولا تضيع الوقت!

‏(ماركسس): تعقبت أثر الجدي فوجدت أنه كان قادماً من المزرعة لكن أثره لم يبدأ كجدي..

(سيرزيوس) باستغراب: ماذا كان إذاً؟

‏(ماركسس) بتوتر: كانت أقداماً.. أقداماً صغيرة.. وكأنها لطفل بشري لكن مخالب أصابع أقدامه الطويلة حيرتني و..

‏قاطعه (‏سيرزيوس) وقال: وأين ذهب؟!

‏(ماركسس) مشيراً بإصبعه نحو النهر: استمر بالمشي بمحاذاة النهر ‏حتى اختفى الأثر.. وكأنه دخل الماء..

‏(سيرزيوس) بصوت مرتفع وهو يبدأ بالجري باتجاه النهر: أرني أين ‏انتهى الأثر!

توجه الجميع للمكان الذي انتهى فيه أثر أقدام الجدي ووقفوا ينتظرون أوامر (سيرزيوس) الذي كان يحدق بالنهر لكنه ظل صامتاً ‏لوهلة ثم قال بوجه مرتبك قليلاً:

‏"من يريد أن يرحل فليرحل ولن أطالب بمحاكمته ومن يريد البقاء ‏معي فليبق.."

 

‏قرر اثنان من الجنود العودة فحملا عتادهما وبدأا بالجري باتجاه المزرعة وبعد دقائق سمع الثمانية الجنود المتبقون مع (سيرزيوس) صراخهم على بعد مئة قدم تقريباً، التفت الجنود لــ (سيرزيوس) بحثاً عن إجابة لما كان يحدث لكنه لم يقل إلا شيئاً واحداً: "نحن لم نعد نطارد أحداً بل نحن المطاردون الآن.."

‏في صباح اليوم التالي دخل (سيرزيوس) على القائد العام لحفظ السلام في "مصر" والمنتدب من الإمبراطور فيها وهو يحمل خوذته المهشمة تحت ذراعه وعلى جسده ‏آثار قتال عنيف وجروح دامية وقدم التحية العسكرية له وقال:

‏هل تأذن لي أيها القائد بالتخلي عن الزي العسكري والعودة لــ "‏روما"؟

‏وقف القائد مندهشاً من منظر (سيرزيوس) والحالة التي كان عليها وقال: ماذا حدث لك؟!

‏(سيرزيوس) بوجه صارم ممتلئ بالجروح: لم يحدث شيء لكننا واجهنا بعض المشكلات مع بعض قطاع الطرق ولم ينج أحد من فيلقي سواي وأحسست أني لم أعد أملك الشجاعة أو القوة لإكمال مهامي في "مصر".

‏(القائد): ولكن يا (‏سيرزيوس) "مصر" مطلب جميع الضباط وأنت أول من ‏يطلب الانتقال منها وليس إليها.

‏(سيرزيوس): أرجوك يا سيدي حقق لي رغبتي..

‏(القائد): لن أسمح لك بالاستقالة لكن سوف أنقلك لـــ "روما" نظراً لخدماتك الجليلة وسجلك الحافل.. يمكنك الانصراف

‏انتقل بعدها (‏سيرزيوس)  لـــ "روما" وكتب في مذكراته عن أجداث المواجهة التي حدثت معه ومع جنوده في تلك الليلة على ضفاف النيل لكن أغلب عن قرأ تلك المذكرات اتهمه بالجنون أو التحجج  بهذه الأحداث المفبركة للانتقال لـــ "روما" بعد رفض قائده مبدئياً لطلبه ليكون بجوار زوجته وأطفاله لدرجة أن البعض قال إنه هو من قتل جنود الفيلق ليختلق قصة التعرض لقطاع الطرق لتسهيل قبول طلب انتقاله.

(ماجد): هل الشيء الذي كتب عنه ذلك الضابط الرومان في مذكراته هو نفسه الشيطان المعلق الذي كان مع الفرعون؟

‏(الباحث) وهو يشعل سيجارة: نعم.

‏(عمر): هل أنت واثق؟

‏(الباحث): الفتاة التي كانوا يبحثون عنها كانت تلبس خاتماً أخضر وهذه ليست مصادفة

 ‏(ماجد): بل من الممكن أن تكون مجرد ذلك

‏(الباحث): اسمها كان (نوريا)

(عمر): وماذا يعني ذلك؟

‏(الباحث) وهو ينفخ سحابة من الدخان: هذا الشيطان مفتون بالأسماء التي تشبه اسم الفتاة الأولى التي فشل في حمايتها.

‏(ماجد) : تقصد (نوارة)؟

‏(الباحث): نعم.. طريقة موت الجنود تشبه كثيراً الطريقة التي يفتك بها (ديموس) بضحاياه والأثر الذي وصف الأقدام الصغيرة.. كل هذه المعلومات المتواترة ليست مصادفة.

‏(عمر): هل كان هناك قصص أخرى عن هذا الــ (ديموس) في ذلك الكتاب الذي قرأه المستشرق الفرنسي؟

‏(الباحث): نعم فقد ذكر في الكتاب أنه ومع بداية ضعف "الدولة الرومانية" دخلت الديانة المسيحية رسمياً في "مصر" في سنة 100 بعد الميلاد تقريباً وبذل المسيحيون جهوداً كبيرة لطمس الوثنية ومعالمها في "مصر" والتي كانت منتشرة فيها وبشكل كبير وأسسوا أصول الرهبنة والانعزال الدنيوي للتفرغ للعلم والعبادة وفي خضم هذه التغيرات الديموغرافية والنقلة النوعية للمجتمع المصري ظهر الخاتم الأخضر مرة أخرى.

‏(ماجد): أين وكيف؟

‏(الباحث) مستأنفاً حديثه قائلاً: عاش في تلك الفترة راهب يدعى (أبرام) ركان يعمل في أول كنيس‌ تأسست في "مصر" على يد القديس (مرقس) وكان من المتحمسين لمكافحة الوثنية وترسيخ التعاليم المسيحية في قلب كل مصري لذلك كان يقوم بجولات من وقتٍ لآخر لدعوة الناس غير المهتدين للمسيحية ومحاورتهم وفي بعض الأحيان إجبارهم بالقوة على الامتثال لتعاليم الكنيسة. لم يكن (أبرام) شخصا سيئاً لكن حماسه الزائد في نشر التعاليم المسيحية قاده لبعض الأخطاء والتجاوزات التي كانت الكنيسة تغض النظر عنها للمصلحة العامة.

‏في إحدى الجولا‏ت اليومية للراهب (أبرام) في المدينة رأى امرأة عجوزاً تلبس خاتماً أخضر تبيع بعض التماثيل الفرعونية على قارعة الطريق فهجم عليها دون تفكير وحطم تماثيلها وشتمها واتهمها بأنها كافرة وثنية. لم ترد العجوز عليه وبدأت تجمه قطع التماثيل المحطمة من على الأرض لكن (أبرام) أبى أن يتركها وشأنها وأخذ يركل قطع التماثيل بعيداً عن متناول يدها مردداً:

 "كافرة وثنية!.. كافرة وثنية!"

رحلت المرأة العجوز مبتعدة عن (أبرام) المنتشي والمتحمس وتركته وهو في حالة شبه هستيرية يدوس فيها على الأصنام ويقذف العجوز بكل ما استطاع من سباب وشتائم، بعد ما هدأ (‏أبرام) أحس بتأنيب الضمير وقال في نفسه:

"‏هل كان المسيح ليفعل ذلك؟"

‏عاد (أبرام) لكنيسة (مرقس) وبدأ بالاستغفار والصلاة تكفيراً عما فعل مع تلك العجوز وخلال صلاته التي كانت بين مجموعة من الشموع ليلاً انطفأ نصفها دفعة واحدة وكأن ريحاً قوية قد دخلت المكان وتبعها بعض الهمسات المخيفة آتية من أحد جوانب الكنيسة.

‏التفت (أبرام) يمينا وشمالاً في هلع بحثاً عن مصدر تلك الهمسات ‏ولم يجد شيئاً لكنه كان لا يزال يسمع صوت شيء يزحف حوله على أرضية الكنيسة الخشبية. لم يجد (أبرام) حلاً غير النزول على ‏ركبتيه وضم كفيه وإغماض عينيه والصلاة متوسلاً طلباً للنجاة فاختفى الصوت بعدها بدقائق. نام (أبرام) تلك الليلة في الكنيسة وعندما استيقظ صباحاً وجد حال الكنيسة مقلوباً رأساً على عقب والصلبان مكسورة وقوارير المياه المقدسة مسكوبة فلم يخطر بباله إلا تلك العجوز التي حطم تماثيلها في السوق بالأمس ‏ وقال في نفسه بغضب: "تلك الوثنية يجب أن تعاقب!"

‏توجه (أبرام) للسوق بحثاً عن المرأة العجوز وبعد السؤال عنها علم أنها بائعة بسيطة للآثار الفرعونية تدعى (ناريا) ولم يمض وقت طويل حتى وجدها واقفة عند أحد المتاجر تبتاع بعض المنسوجات ‏وبدون تفكير دفعها (أبرام) للأرض وبدأ بمهاجمتها لفظياً بأبشع الصفات فتجمهر الناس حوله في حالة من الاستياء وساعدوا المرأة على النهوض التي لم يكن لها أي ردة فعل سوى التقدم نحو (‏أبرام) والمسح على رأسه بيدها التي كانت متجعدة وخالية من الجمال عدا الخاتم الأخضر الذي كانت تلبسه وهمست بصوت مخيف وقالت: "بخ.."

‏رحلت العجوز وتفرق الناس من حول (أبرام) الذي عاد للكنيسة وهو يعاني من بعض الألم في رأسه وبمجرد دخوله الكنيسة زال الألم ومنذ ذلك الوقت لم يستطع (أبرام) الخروج من الكنيسة لأنه كلما خرج منها أصابه صداع شديد يمنعه من الرؤية أمامه من شدة الألم ولم ينفع معه كل العلاجات والأدوية التي أخذها. مات (أبرام) داخل الكنيسة بعد حادثة السوق بسنوات في ظروف طبيعية ومنح منزلة القديس لاعتكافه طيلة تلك السنوات في الكنيسة.

 (عمر): القصص تزداد غرابة؟

 ‏(ماجد): وفى كل قصة يكون لذلك الخاتم الأخضر ظهور

(الباحث): الخاتم الأخضر و(ديموس) مرتبطان

‏(عمر): هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟

‏(الباحث): كان آخر ظهور موثق للخاتم الأخضر في ذلك الكتاب الذي قرأه المستشرق الفرنسي هو بعد دخول الإسلام لــ "مصر" وتحديداً في بداية قيام الدولة الفاطمية وبداية ضعف الدولة العباسية وهذا الظهور حدث بالقرب من الأرض التي كانت تحفر وتجهز ليقام عليها الأزهر الشريف. الرجال الذين عملوا في الموقع يحصلون على الماء من بئرة تبعد عنهم مسافة بعيدة لذلك أوكلت مهمة إحضار الماء لرجل يدعى (عزيز) وقد كان يحضر المياه للعمال طيلة فترة عملهم خلال النهار وفي نهاية اليوم يذهب وينام بجانب البثرة لأنه رجل فقير ولا يملك منزلاً أو أسرة ليعولها.

‏ذات ليلة وبينما كان (‏عزيز) جانب البئرة استيقظ وهو يشعر بالعطش فأنزل القربة في البئر ليحصل على بعض الماء ليروي ظمأه وعندما هم برفع القربة الممتلئة بالماء لم يستطع رفعها وظن أنها عالقة في أسفل البئرة فيحاول أن يشدها بقوة لكنه لم ينجح في تحريرها لذا قرر النزول للقاع وحل المشكلة قبل طلوع النهار وقدوم العمال. نزل (عزيز) مستعيناً بالحبل المربوط بالقربة وعندما وصل إليها وجد أنها ‏غير عالقة فصعد للأعلى وبدأ بسحب الحبل مرة أخرى لكنه ‏لم يستطع فزادت حيرته أكثر ولم يعرف ماذا يمكنه أن يفعل ليرفع تلك القربة للسطح. طلع النهار وبدأ العمال يتوافدون لموقع العمل لكن (‏عزيز) جلس بجانب البئر محتاراً حتى جاء أحد العمال الذي بدأ العطش يتمكن منه وعندما وصل للبئر سأل (‏عزيز) وقال: "ما بك يا (عزيز) لم لم تحضر الماء اليوم؟"

‏(عزيز) وهو يشير للبئر: حاول أن ترفع القربة لو استطعت.

حاول الرجل رفع القربة ولم يستطع فقال: ربما تكون عالقة؟

(عزيز): ليست عالقة لقد تحققت من ذلك.

(الرجل): ما المشكلة إذاً؟

(عزيز): لا أعرف

‏مع مرور الوقت تجمهر العمال الذين زاد عطشهم تحت حر الشمس حول البئر وبدؤوا بسحب القربة بشكل جماعي لكنهم لم يستطيعوا ‏رفعها فقرروا التوقف والإضراب عن العمل ذلك اليوم حتى يجد المسؤول عن البناء حلاً لتلك المشكلة. قبل حلول المساء بقليل رحل جميع العمال وحضر بعدهم مسؤول البناء لمكان البئر ووجد (عزيز) مستلقيا بجانبه فصرخ فيه وقال: "عزيز! لم لم تسق العمال اليوم؟!"

نهض (عزيز) مفزوعاً وأخبره بما حدث..

‏(المسؤول) بتجهم: انزل وحرر القربة وأنا سأسحبها للأعلى..

‏نزل (عزيز) في البئر حتى وصل للقربة التي لم تكن عالقة ثم صرخ للمسؤول وقال: اسحبها الآن!

‏بدأ المسؤول بسحب الحبل المربوط بالقربة وعندما بدأت بالظهور من فوهة البئر خرجت يد نحيلة بمخالب طويلة من وسط القربة وأمسكت بالحبل وسحبته للأسفل بقوة. بدأ (عزيز) بالصراخ والاستغاثة من داخل البئر والمسؤول يصرخ في (عزيز) بأن يخرج وهو يشد الحبل وقبل أن يرد (عزيز) عليه أفلت الحبل من ‏يد المسؤول وسقطت القربة للقاع مرة أخرى وسقط الشيء الممسك بها معها تبع ذلك صرخات مخيفة لــ (عزيز) توقفت بعد ثوان.

‏عم الهدوء المكان فبدأ المسؤول بسحب القربة مرة أخرى وبدأت بالصعود للأعلى وعم وصولها لفوهة البئر انقلبت على الأرض وانسكب منها ماء متعكر بالدماء. عندما رأى المسؤول الماء الدموي جرى مسرعاً نحو فوهة البئر ونظر داخلها وبدأ بالنداء على (عزيز) بصوت مرتفع لكنه لم يجبه. أخذ المسؤول القربة ليلقيها مرة أخرى في البئر ليسحب بها (عزيز) وخلال رفعه لها سقط منها خاتم أخضر لكنه لم ينتبه إليه وأنزل القربة وهو يصرخ: "(عزيز)! تعلق بالحبل كي أسحبك!"

‏‏لم يجد المسؤول إجابة فرفع القربة للأعلى وعندما وصلت إليه رماها على الأرض ليتدفق منها المزيد من المياه المختلطة بالدماء وبعض قطع اللحم. سقط المسؤول على الأرض من الخوف وخلال سقوطه انتبه للخاتم الأخضر فالتقطه وما أن أمسك به حتى سمع صرخة قوية ومخيفة قادمة من أسفل البئر ولم تكن الصرخة صوت (عزيز) بل كانت أشبه بصوت حيوان ثائر.

‏هرب المسؤول من المكان وقد كان الليل في أوله واستمر بالجري حتى وصل لمنزله ودخل بيته واختبأ في فراشه. ظل المسؤول يرتجف تلك الليلة من هول ما رآه حتى غلبه النوم. في صباح اليوم التالي نهض من فراشه وهو لا يزال يرتجف من الخوف وتوجه لموقع البناء ليجد العمال بانتظاره ومتوقفين عن العمل بانتظار حل لمشكلة البئر فأمرهم بردمه في الحال فنفذ العمال أمره باستغراب. بعد ما انتهى العمال من ردم البئر أمرهم المسؤول بالانصراف حتى يتم استدعاؤهم لاحقاً فانصرفوا جميعاً عدا عاملاً كان قلقاً على (عزيز) لأنه يحبه ويعطف عليه فقال له المسؤول: لم لم تنصرف مع رفاقك؟

(العامل): أين (‏عزيز)؟

‏(المسؤول) بتوتر: لا أعرف.

‏(العامل): كيف لا تعرف؟.. هو لا يفارق البئر أبداً وليس له زوجة أو أهل ليذهب إليهم.. ثم أخبرني لماذا أمرت بردم البئر؟

‏(المسؤول) بغضب: قلت لك إنني لا أعرف مكانه! والبئر تعرض للعبث وماؤه تلوث ولم يعد صالحاً للشرب لذلك ردمته!

‏سكت (العامل) قليلاً ثم قال: أنا واثق أن (عزيز) تعرض لمكروه وأنت لك يد في ذلك.

‏(المسؤول) وهو يصرخ: هل تتهمني بأني قتلته؟!

(العامل): لم أقل ذلك بل أنت من قاله..

‏نظر (المسؤول) لـــ (‏العامل) باستحقار قبل رحيله متوجهاً للمدينة وقال له: افعل ما تشاء!

‏بقي (العامل) بجانب البئر المردوم وهو يفكر ثم حاول حفره مرة أخرى بيده لكنه توقف بعد بضعة أمتار وعاد للمدينة مع اقتراب المساء وقرر التوجه لبيت المسؤول لمواجهته وأخذ معه مجموعة من العمال الآخرين الذين التقى بهم في طريقه وأبدوا اهتمامهم وقلقهم على (عزيز) أيضاً.

‏وصل العمال لبيت المسؤول وطرقوا الباب لكن لم يجب عليهم أحد فحاول أحدهم الدخول عنوة لكن بقية الرجال منعوه وقالوا له إن الرجل متزوج والمكان له حرمة واقترحوا العودة في الصباح.

‏خلال حديثهم خرج طفل لم يتجاوز العاشرة من المنزل وهو مغطي بالدماء وعانق مرعوباً أحد الرجال الواقفين عند الباب وبدأ بالارتجاف وكأنه يشر بالبرد لكنه لم يبكِ بل ظل يحدق بالباب المفتوح خلفه وهو يرتعد من الخوف. اندفع الرجال نحو المنزل وبدؤوا بالبحث في أرجائه حتى صرخ أحدهم وقال: يا الله!

‏توجه بقية الرجال نحو مصدر الصوت ليروا كومة من اللحم المقطع في غرفة تشربت جدرانها بالدماء. وقف الرجال مصدومين لفترة حتى قال أحدهم: لنبحث في بقية الغرف!

‏خرج الجميع عدا واحداً منهم كان يدعى (عبيدة) بقي أمام كومة ‏اللحم ينظر إليها وهو مصدوم، وخلال نظره لمح شيئاً يلمع بين قطع اللحم فاقترب منه وأخرجه فإذا به خاتماً بفص أخضر جميل، أخذ (عبيدة) الخاتم ووضعه في جيبه ثم لحق بمن كانوا معه. بعد هذه الحادثة بأيام قدم للمدينة شخص غريب وتوجه لموقع البناء وبدأ بالسؤال عن موضوع البئر و(عزيز) و (المسؤول) وكانت أكثر أسئلته موجهة للعمال الذين دخلوا بيت المسؤول. وعندما وصل الدور في السؤال لــ (عبيدة) نظر الرجل الغريب إليه وقال: هل كنت مع الرجال الذين دخلوا بيت المسؤول؟

‏(عبيدة): نعم

‏(الرجل الغريب): لماذا عيناك مختلفتان عنهم؟

(عبيدة) بتوتر: ماذا؟ لم أفهم قصدك؟

(‏الرجل الغريب) بتجهم: ماذا أخذت من المكان؟!

(عبيدة) بتوتر: لم آخذ شيئاً!

‏(الرجل الغريب): لا تعرض حياتك للخطر وأعد ما أخذته قبل أن تصاب بمكروه

‏أنكر (عبيدة) علمه بما كان يتحدث به الرجل الغريب وانصرف على عجالة..

‏عاد (عبيدة) لمنزله في المساء ودخل على زوجته وطلب منها إعداد العشاء له وبينما كان ينتظر عشاءه سمع صوت قطة تموء في المطبخ فقال لزوجته بصوت مرتفع: أخرجي هذه القطة من الطبخ كي لا تعبث بطعامنا!

‏لم ترد الزوجة بل زاد مواء القطة وتحول من مواء لفحيح وزمجرة غاضبة فقام (عبيدة) وتوجه للمطبخ ليطرد القطة بنفسه فوجد زوجته على الأرض مغمى عليها ويقف فوقها كائن كالرجل الصغير بشعر أسود طويل ومخالب حادة وطويلة ينهش في وجهها. صرخ (عبيدة) مرعوباً عندما التفت المخلوق بعينيه السوداوين الواسعتين نحوه فجأة وقفز بسرعة مخيفة باتجاهه. هرب (عبيدة) من المطبخ متوجهاً لخارج المنزل لكن وبمجرد أن فتح الباب هجم الشيء عليه من الخلف وأطاح به أرضاً وبدأ ينهش في عنقه. خلال ذلك الصرع دخل الرجل الغريب الذي تحدث مع (عبيدة) عند موقع البناء فاستنجد به وقال: "أغثني أرجوك!"

‏أخرج الرجل الغريب شيئاً أشبه بالحجر الأسود المنقوش على شكل جعران وبمجرد رؤية الكائن الغريب لذلك الحجر صرخ وفر من المكان في لمح البصر. ساعد الرجل الغريب (عبيدة) على الوقوف وقال له: "لم  كذبت علي بشأن أخذك الخاتم؟"

(عبيدة) وهو مشوش الذهن: لا أعرف.. كنت أريد بيعه والاستفادة من ثمنه

‏(الرجل الغريب): لكنك خسرت زوجتك بسبب طمعك.. أعطني الخاتم الأخضر

‏مد (عبيدة) الخاتم وأعطاه للرجل الغريب الذي خرج من المنزل بمجرد أخذه للخاتم ولم يعد أبداً..

‏(الباحث): ومن وقتها لم يدون التاريخ ظهوراً آخر للخاتم الأخضر..

‏(عمر): من كان ذلك الرجل الغريب؟

‏(الباحث): متنور..

‏(ماجد): ماذا؟

‏(الباحث): متنور من الطائفة الجنتية.. مجموعة لديها قدرات فوق العادة وأعضاؤها مهتمون بمثل هذه الأمور ولديهم قدرة عالية على تعقبها بهدف مصادرتها لخدمة أغراضهم الخاصة

‏(عمر): وهل هم من أرسل هذا الشيء وأطلقه في مدينتنا؟

(الباحث): أستبعد ذلك.. أعتقد أنهم فقدوا السيطرة على (ديموس) في مرحلة ما فالجعران الأسود الذي استخدمه للسيطرة عليه كان لابد وأن ينتقل لشخص آخر طال الزمن أو قصر

‏(عمر): وأين يمكن أن نجد هذا الجعران الأسود؟

‏(الباحث) متهكماً: هل تفكر بمواجهة (‏ديموس) بنفسك؟

‏(عمر): هذا هو الحل الوحيد الذي استخلصته من كل تلك القصص التي رويتها.. هل لديك حل أفضل؟

‏صمت الباحث ولم ويرد عليه..

‏(ماجد): ماذا حدث للمستشرق الفرنسي الذي اشترى الخاتم؟.. هل تعرض هو الآخر لخطر الخاتم؟

‏(الباحث): كما نقلت الروايات المتواترة فإن المستشرق أغلق الكتاب وخرج من المكتبة وتوجه مباشرة إلى ضفاف النيل ورماه ‏في مياهه.

‏(ماجد): ماذا؟.. رماه؟

(الباحث): هذا ما ذكره في مذكراته..

(عمر): مذكرات من؟

(الباحث): مذكرات المستشرق الفرنسي التي تعتبر إحدى الوثائق المهمة فيما يختص بأسطورة (ديموس).. معظم المهتمين بالأسطورة قرؤوها ويوجد منها نسخ مطبوعة كثيرة

(‏عمر): أنا مشوش..

‏(الباحث) وهو يشعل سيجارة: هل لديكما أسئلة أخرى..؟

(ماجد): نعم أنا لدي.. كيف تعرف أن الخاتم الذي سألتنا عنه هو ‏نفسه الخاتم الذي تحدثت عنه؟.. قد يكون خاتماً مختلفاً

(باحث): لو أحضرتماه لي يمكنني التحقق من أصالته ثم إن مواصفات المخلوق الذي رأيتماه تنطبق كثيراً على (ديموس)

‏(عمر): لكن الخاتم ليس بحوزتنا

‏(الباحث): أنا شبه متيقن أن الشيء الذي دهستماه بسيارتكما هو ‏(ديموس) وقد كان يطاردكما لأنكما إما تملكان الخاتم أو التقيتما بالشخص الذي يملكه حالياً

‏(ماجد): لا نعرف أحداً يملك خاتماً بتلك المواصفات

‏(الباحث): فكرا جيداً فكل ما ذكرتماه يتطابق مع نظرية أن (ديموس) موجود في مدينتكم وهو الآن يطاردكما لقتلكما

 (ماجد): ما زالت القصة غير واضحة

‏(الباحث): سوف أحاول إيضاح الصورة أكثر

‏(عمر): كنت أظن أنك لا تهتم إن صدقناك أو لا

(الباحث): اهتمام (ديموس) بقتلكما هو مصدر اهتمامي بكما وأنتم أول خيط أجده يتعلق به منذ سنوات لذا أنا مضطر لتحمل جهلكما في الوقت الحالي

‏(ماجد) بتوتر: هل تظن حقاً أنه سيقتلنا؟

‏(الباحث): لا أحد تعرض لهجوم (ديموس) من قبل وبقي على قيد الحياة مدة طويلة لذلك فأنتما الخيط الوحيد الذي قد يقودني للخاتم الأخضر فشيطان الهرم لا يهاجم سوى من يلبس الخاتم أو يتعرض لصاحبه.

‏(عمر): هناك ثغرة في كلامك..

(الباحث) مبتسماً: ما هي أيها المحقق؟

(اعمر): الفتيات والنساء في القصص التي قرأها المستشرق الفرنسي كن يلبسن الخاتم ولم يتعرضن لأي أذى بل على العكس كان (ديموس) يدافع عنهن فيما يبدو

 (الباحث) مبتسماً: (ديموس) شيطان استحواذي وثق أن كل من لبست أو لبس الخاتم سيموت في النهاية لكن في الوقت الذي يختاره هو والأمر الوحيد الذي أخر موتهن هو فقط أسماؤهن

‏(ماجد): أسماؤهن؟

(الباحث) وهو يشعل سيجارة: نعم أسماؤهن.. كلها مشابهة لاسم الفتاة الفرعونية التي تعلق بسببها.. ألم تلاحظا؟.. (نوارة).. (نوريا).. (ناريا).. لقد أخبرتك بذلك سابقاً.. ركز

‏(عمر): على العموم شكراً لك على وقتك.. نستأذن الآن

(الباحث): إلى أين؟

‏(عمر): نحن راحلان ونتمنى لك التوفيق في إيجاد الخاتم الأخضر

(الباحث): لا يمكنكما الرحيل

‏(ماجد) مبتسماً: سيارتنا بالخارج ويمكننا الرحيل

‏(الباحث): لكن (ديموس) سيقتلكما بلا شك

‏(عمر): سنقبل تلك المجازفة لا تقلق علينا.. سنحاول إيجاد ذلك الخاتم بأنفسنا

(الباحث): لن أستطيع منعكما من الرحيل لكن على الأقل تحققا من أصالة الخاتم عندما تجدانه

‏(ماجد): وكيف نتحقق من أصالته؟

(الباحث): من خلال النقش..

(عمر): أي نقش؟

‏(الباحث) وهو يسحب كتاباً قديماً من أحد رفوف مكتبته ويفتحه: لقد حاول الكثير تزوير الخاتم وبيعه على المهتمين بأسطورة (ديموس) لكن قلة من الباحثين الملمين بقصة الشيطان المعلق يستطيعون كشف الخواتم المزيفة بسهولة

‏(ماجد): كيف؟

‏(الباحث): وهو يقلب صفحات الكتاب القديم: هذه المخطوطة نادرة ولم يطلع عليها الكثير لكنها تحكي عن فترة بين حكم الفراعنة وبين حكم الإمبراطورية الرومانية خرج فيها الخاتم من "مصر" ثم عاد.. تقريباً بين 500 ‏ و 30 ‏قبل الميلاد.

‏(عمر): وما علاقة ذلك بالتفريق بين الخاتم الأصلي وبين الخواتم المزيفة؟

‏(الباحث) وهو يقرأ بتركيز من إحدى صفحات الكتاب: اسمعا ‏هذه الجزئية..: "الخاتم الأخضر انتقل لأسباب مجهولة للجزيرة العربية وتنقل بين مجموعة من ‏السحرة كان آخرهم ساحرة.."

(ماجد): ساحرة؟.. ما اسمها؟

(‏عمر): ما زلت لا أفهم علاقة هذا الكلام بمعرفة أصالة الخاتم

(الباحث) وهو يكمل القراءة:

"كان لهذه الساحرة ثأر مع ساحرة في بلاد "فارس" وقد استعانت بــ (ديموس) ليساعدها للأخذ بهذا الثأر واسم تلك الساحرة منقوش على الخاتم.."

‏(عمر): ومن نقشه؟.. ولماذا؟

‏(الباحث): الكلمة منحوتة على الخاتم باللغة الكنعانية والكلمة تقول (هنان) وهو اسم عربي معروف في تلك الفترة..

‏(ماجد) وهو يلقي نظرة على طريقة كتابة الاسم باللغة الكنعانية في الكتاب: ولم ينقش اسمها هي بالذات على الخاتم؟.. ومن نقشه؟

‏(الباحث): المصادر غير كافية لأعطيك إجابة دقيقة

(‏عمر): أعطنا إجابة غير دقيقة إذاً

‏(الباحث): بعض النظريات تقول إن (ديموس) هو من نقش اسمها لأنه أحبها سراً لكن ذلك مجرد تكهنات لبعض الباحثين  المتحمسين وأنا شخصياً لا آخذ بها أو أتفق معها

(ماجد): وماذا حل بالساحرة العربية وكيف انتهت علاقة (ديموس) بها؟

‏(الباحث) موجهاً نظره للكتاب الفتوح بين يديه: لا يوجد كلام مكتوب بهذا الشأن بعد هذه السطور.. لا عن الخاتم أو عن الساحرة.. المهم هنا هو أنه بعد سنين طويلة عاد الخاتم مرة أخرى لــــ "مصر" والقليل يعرف هذا السر لذلك كلما عرض علينا خاتم يدعي صاحبه أنه خاتم (‏ديموس) الأصلي استطعنا بنظرة بسيطة كشف أصالته إذا لم نر نقش اسم "هنان" عليه

‏(عمر): ما معنى كل هذا الكلام الذي أخبرتنا به؟.. لقد تهت

(الباحث): معناه أنكما يجب أن تتخلصا من هذا الخاتم وبسرعة عندما تجدانه قبل أن تلحقا بضحايا (ديموس) الذين لا حصر لهم

‏(ماجد): وكيف نتخلص من الخاتم ومن مطاردة ذلك الشيطان لنا وأنت لا تعرف السبيل للجعران الأسود؟

‏(الباحث): هذا الشيطان يحمي من تلبس الخاتم بقتل كل من ‏يتعرض لها بسوء أو يحاول الارتباط بها.. وهذا امتداد لجنونه وهوسه بــ (نوارة).. لن، تتخلصا منه ومن هوسه بكما حتى تربطاه بالجعران

‏ازدادت معالم التوتر والحيرة على وجه (عمر) و (‏ماجد)..

‏(الباحث): لقد تعرضتما لأحد يلبس الخاتم أنا متيقن من ذلك؟

(ماجد): لا.. لم نتعرض لأحد بتلك المواصفات ثم كيف نربطه كما تقول؟

(‏الباحث): لا أدري.. كل ما أعرفه أنه يربط بتميمة (الجعران).. تميمة صنعت في عهد الفراعنة وغالباً من صنعها هو (الساحر السندي) الذي استعان به الفرعون لكن خلافه معه منعه من استخدامها لمصلحة الفرعون

(‏عمر): وأنت لا تعرف أين يمكننا إيجادها..

‏(الباحث): نعم صحيح

‏(ماجد): هل يمكنك على الأقل أن تدلنا على شخص يمكنه مساعدتنا في إيجادها؟

‏(الباحث) يشعل سيجارة ويصمت لثوانٍ...

 (عمر): هل تعرف أحداً؟.. أخبرنا

‏(الباحث) وهو ينفخ سحابة من الدخان: الدكتور (محمود)

(ماجد): وأين يمكننا أن نجده؟

(‏الباحث): الدكتور (محمود) عالم كبير في الآثار ويعيش في "القاهرة"

(عمر): هل تملك عنوانه أو وسيلة للتواصل معه ٩ ‏كرقم هاتفه مثلاً؟

(الباحث): كل ما أعرفه عنه هو أنه محاضر في كلية الآثار بجامعة القاهرة وكان فحوى رسالته في الماجستير عن علاقة الحضارة الفرعونية بالفارسية وهو متعمق في تاريخ الخاتم الأخضر لأنه أحد اهتماماته الجانبية وقد استفدت كثيراً من علمه عندها كنت أبحث في تاريخ (ديموس)

‏(ماجد) موجهاً كلامه لــ (عمر): يبدو أننا يجب أن نتواصل مع الدكتور (محمود) هذا

‏(الباحث): هناك شيء آخر قد يساعدكما

(عمر): ما هو؟

‏(الباحث): بعض الكتب والمخطوطات وضعت وصفاً تقريبيا لشكل (نوارة) وذكر في تلك الكتب أن (ديموس) لا يحمي من يلبسن الخاتم من النساء إلا إذا كانت من تلبسه تشبهها وتحمل اسماً مقارباً لاسمها

(ماجد): وكيف ستفيدنا تلك المعلومة؟

‏(الباحث) وهو يسحب كتاباً آخر من الرف ويفتح على إحدى صفحاته ويرفعه في وجههما: هذه رسمة تقريبية رسمها أحد الباحثين الموهوبين معتمداً على تلك الصفات التي تناقلتها المخطوطات عن شكل (نوارة)

‏(عمر) ممعناً النظر بالرسمة: شكلها مألوف..

‏(الباحث) بنبرة واثقة: لابد وأنكما قابلتما لابسة الخاتم من قبل لهذا السبب (ديموس) يلاحقكما وعلى الأرجح أنها تشبهها

‏(ماجد) مشاركاً صاحبه النظر للرسمة: وماذا نفعل لو وجدناها؟

(الباحث) يغلق الكتاب ويعيده للرف: خذها للدكتور (محمود‏) في أسرع وقت

‏(عمر): لم لا نحضرها لك؟

‏(الباحث) وهو يبتسم: بعد الكلام الذي أخبرتكما به لا أظن أنكما ‏ستجدانني

‏(ماجد) باستغراب: لماذا؟

‏(الباحث) مبتسماً: ارحلا الآن ولا تضيعا الوقت واتركاني أواجه مصيري

 

(‏عمر): عن ماذا تتحدث؟

‏جلس الباحث بصمت دون أن يرد عليهما وأخرج سيجارة ووضعها في فمه دون أن يشعلها..

‏(ماجد) باستغراب: شكراً على أي حال.. وداعاً

‏خرج (عمر) و(ماجد) من المنزل وركبا سيارتهما وقاداها عائدين للمدينة وتركا الباحث يدخن سيجارته في صمت..

‏بعد ما أنهى الباحث سيجارته توجه لغرفته لينام..

‏استلقى في فراشه وقبل أن يغمض عينيه سمع فحيحاً كصوت الأفعى فقال:

‏لا تضيع الوقت يا (ديموس) بألاعيبك اقتلني وأنه الأمر الآن فقد عرفت أني هالك منذ أن تحدث الرجلان عنك..

خرج (ديموس) من الظلام بعينيه الواسعتين اللتين يغلب عليهما السواد يغطي جزءاً منهما شعره الأسود المنسدل وأنامله الحادة والطويلة تتلاعب في الهواء وبدأ بالاقتراب من (الباحث) بهدوء..

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا