ـــ..
بصمة
لم يكن يوماً عادياً.. حين تلقيت ذلك البلاغ بوجود جريمة قتل في منطقة (...) السكنية.. والتي تقع ضمن نطاق سلطتي.. فمن النادر حدوث جرائم قتل في المناطق السكنية.. خصوصاً هذه المنطقة التي اشتهر أصحابها بالثراء.. لذا خرجت مسرعاً برفقة بعض من أفراد الشرطة.. لنصل متزامنين تقريباً مع سيارة الإسعاف.. ونرى بعض الأهالي الذين تجمعوا حول المكان.. في حين اتجه إليهم رجالي مباشرةً لإبعادهم وتهيئة الأجواء لي ولرجال الأدلة الجنائية الذين كانوا في طريقهم إلينا كذلك.. وفي مشهد يتكرر دائماً وأبداً في كل مكان في العالم عند حدوث الجرائم في مناطق مأهولة بالسكان.
كان انطباعي الأول حين وصلت إلى البيت. فخامته الشديدة التي تدل على ثراء صاحبه.. وقد تأكدت من ذلك حين قرأت أسم المالك الذي نقش على يافطة أنيقة وضعت على الباب.. ولم يتطلب الوقت كثيراً لأعرف أن المالك هو تحديداً من تعرض للقتل.. هذا ما أخبرني به أبن شقيقه الذي وجدته جالساً في الصالة الرئيسية مرتدياً الزي الوطني (الدشداشة) وقد رفع أكمامها قليلاً. متجاهلاً ارتداء الغترة والعقال.. مما كشف عن شعره القصير المختلط قليلاً بالشيب. إذ علمت أنه هو الذي أتصل بالشرطة بعد أن أكتشف الجريمة.. لكني لم أوجه له أي أسئلة.. بل صعدت إلى الطابق الثاني حيث القتيل.. فوجدته على فراشه مصاباً بطلق ناري في قلبه.. والدماء لوثت كل شيء حوله.
رحت أتأمل الغرفة جيداً.. لأرى أنها لا تقل فخامة عن كل شبر من هذا البيت.. ناهيك عن تلك النافذة الكبيرة التي تطل على الشارع العام.. ثم:
هل تظن أن القاتل من أقارب القتيل يا سيدي؟!.. إنني أرجح ذلك.. فقد أخبرنا أبن شقيق القتيل أن شيئاً لم يسرق من البيت.. دعك من أن القتيل لم يكن يحتفظ بأشياء ثمينة هنا أصلاً.. مما ينفي عملية السرقة.
قالها أحد رجالي باحترام.. فقلت بشرود:
- سيتضح الأمر حين نستجوب أبن شقيقه هذا؟!.
نزلت إلى الطابق الأرضي بعد وصول رجال الأدلة الجنائية ليقوموا بمسح المكان بحثاً عن أي شيء غير عادي.. أو حتى بصمات دخيلة لا تنتمي إلى البيت.. وإن كنت أعرف أنه مجرد إجراء روتيني لن يقدم لنا أي فائدة.. فقد تعلمنا من القصص والروايات - وحتى من السينما- أن أي مجرم أو سارق عليه ارتداء قفاز قبل ارتكاب جريمته.. لكن من يدري؟!.
وصلت إلى الصالة الرئيسية. لأجد أبن شقيق القتيل جالساً ينفث سيجارته بعمق وينظر إلى السقف بشرود.. فألقيت عليه التحية.. وجلست مقابلاً له.. ثم قلت بهدوء:
لقد علمت أن أسمك (زيد).. وأنك تعيش هنا، أليس كذلك؟!.
هز رأسه موافقاً وهو ينفث دخان سيجارته بطريقة استفزازية.. لكني حافظت على هدوء أعصابي.. لا أفهم لماذا يتصرف معظم من يثقون ببراءتهم بهذه الطريقة مع رجال الشرطة؟!.. ناهيك عن أنه أبن شقيق القتيل، ويفترض أن يشعر بالحزن لمقتل عمه.. هذا إن لم يكن هو خلف الأحداث طبعاً، ومسؤولاً عن تلك الجريمة.
عموماً تجاهلت أسلوبه.. وطلبت منه أن يحدثني قليلاً عن القتيل.. ليقول ببرود:
- أنا أبن شقيقه.. وأنا أقيم هنا مع شقيقي بعد وفاة والدي منذ أكثر من سنتين.. ولا يوجد للقتيل أي أشقاء أو أبناء أشقاء آخرين.. أي أننا كل عائلته إن صح التعبير وبمثابة أولاده.. خاصة وأنه قضى سنوات عمره الــــــ 60 بلا زواج بسبب وجود موانع للإنجاب كما أخبرنا بنفسه ذات مرة.. وقد أشتهر بانعدام ثقته بالجميع.. وربما هذا ما جعله يعزف عن الزواج؛ لعلمه أن أية امرأة ستقبل الزواج منه متجاهلة هذا العجز.. فهي بكل تأكيد تطمع في أمواله.
سألته متجاهلاً كل ما قاله:
- غريب أنني لا أراك حزيناً.. أو على الأقل مصدوماً لمقتل عمك!!.
رد دون أن ينظر إلي:
- تستطيع أن تقول أنني تجاوزت الصدمة.. فقد كشفت وجود الجريمة منذ ساعتين تقريباً.. أو.. ربما لا أشعر بالحزن الشديد تجاه عمي.. فهو لم يكن بالرجل الخير أصلاً.. بل كان قاسياً بغيضاً في تعامله معي ومع شقيقي، رغم أننا ورثته الوحيدون وندير أعماله بالكامل وبكل إخلاص.. صحيح أنه كان يمنحنا رواتب مجزية.. لكنا ظللنا نشعر دوما أننا نستحق أن نكون شركاء في أعماله كذلك.. المشكلة أنه لم يكن يثق بأحد.. ولا حتى بي أو بشقيقي.. إذ كان يتابعنا بصورة دورية كي يتأكد أننا لا نسرقه.
سألته باستغراب:
- ماذا عن شقيقك؟!.. أين هو؟!.
قال بغموض:
- لقد علم بأمر الجريمة منذ قليل فحسب.. سيصل إلى هنا في أي لحظة.
عقدت حاجبي مفكراً وأنا أطلب منه أن يبقى في مكانه.. ثم اتجهت إلى المطبخ حيث الخادمتين مع السائق ينتظرون وصولي للتحقيق معهم.. وقد بدا عليهم التوتر شأن كل وافد جاء من أجل رزقه ويخشى الوقوع في المتاعب.. لذا كنت مبتسماً وأنا أطرح عليهم بعض الأسئلة التقليدية بطريقة ودية.. وإن كنت لم أحذفهم من قائمة المشتبه بهم رغم التقارير الأولية التي حصلت عليها من السجل الجنائي لكل منهم.. فهؤلاء جاؤوا من بلدانهم منذ سنوات للعمل فحسب.. ولا توجد في صحيفتهم الجنائية أي مخالفات قانونية.. والواقع أن استجوابهم - كما هو متوقع. لم يقدم أي فائدة.. فقد سمعوا جميعاً صوت الطلق الناري في غرفة نوم القتيل.. وبعدها بلحظات سمعوا صراخ (زيد) وهو يناديهم بذعر ويطلب منهم التأكد من عدم وجود أي دخلاء في البيت.. ليتصل بعد ذلك بالشرطة.. وهو بالضبط ما قاله لي.. و:
- سيدي.. شقيق (زيد) وصل.
قالها أحد رجالي.. لأنهض من مكاني مسرعاً، وأترك المطبخ متجهاً إلى الصالة الرئيسية من دون أن أتوقع أبداً ما سأراه!!.. فقد كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لي.. بل مذهلة!!.. حتى إن خطواتي السريعة توقفت فجأة وأنا أحدق بشقيق (زيد) وقد انعقد لساني.. ليقول (زيد) ساخراً:
- أعرف وقع المفاجأة عليك.. هذا حال كل من يرانا معاً للمرة الأولى.. فنحن تومان متماثلان!!.
مد شقيق (زيد) يده مصافحاً بكبرياء شديد، وهو يقول معرفاً نفسه:
- أسمي (زياد).. لقد سمعت بنبأ وفاة عمي للتو فجئت مباشرةً.
سألتهما وأنا ما زلت أنظر إليهما معاً:
- هل اعتدتما ارتداء نفس الثياب؟!.
أبتسم (زياد) بطريقة استفزازية ساخرة وهو يقول:
- نعم. لقد اعتدنا ذلك.. يجب أن يكون لديك توءم متماثل كي تفهم علاقة التوائم ببعضهم.
شعرت برغبة عارمة بلكم كل منهما في وجهه.. واضح أنهما يتعاملان مع الجميع بدونية كونهما من عائلة معروفة وثرية، أما أنا فبالنسبة لهما مجرد موظف بسيط لا يملك سوى راتبه.. وإن كنت ضابط شرطة.. لكني تمالكت نفسي وقلت صراحة:
- كما أخبرني (زيد).. فإن عمكما لم يتزوج.. ولا يملك سوى شقيق واحد (والدكما) وقد توفاه الله منذ سنتين تقريباً. أي أنكما الوريثان الوحيدان لعمكما..
والمستفيدان الوحيدان أيضاً من موته.. لكن يجب أن تدركا جيداً تلك الحقيقة.. أن القاتل لا يرث ضحيته أبداً.. هذه قاعدة قانونية معروفة.
رد (زيد) بقسوة:
تذكر أنك في بيتنا.. لا أسمح لك باتهامنا بقتل عمنا. هل تعرف عائلتنا؟!.. هل تعرف تاريخها في هذا البلد؟!.
قلت بقسوة مماثلة، وقد اعتدت مواقف كتلك:
- أنا لست هنا بناء على دعوة منكما.. بل رغما عن أنفكما معاً.. إنني أحقق في جريمة قتل.. تذكرا ذلك جيداً.. ولا أستبعد أبداً أن يكون القاتل أحدكما.. أو كلاكما.. هذا ما يقوله المنطق.. لكن علي أن أجد الدليل أولاً.
رد (زيد) باستفزاز:
- تستطيع أن تحاول.
ظلت أعيننا متلاقية وكأننا سنخوض نزالاً في الملاكمة بعد قليل.. إلى أن قطع هذا التوتر أحد رجال الأدلة الجنائية وهو يستأذنني في التحدث.. فطلبت منه أن يقول ما لديه أمام
الشقيقين.. و:
- لقد عثرنا على بصمة. أو بالأحرى.. ربع بصمة على مقبض باب غرفة القتيل!!.
سألته مستغرباً:
- وما الفائدة؟!.. من الطبيعي أن توجد بصمات جميع من في البيت.. إلا إذا كانت البصمة لشخص غريب.
رد بلهفة:
- لكنها بصمة حديثة.. ويبدو من أثرها وكأن صاحبها كان مستعجلاً للغاية.
قلت في شك غير مصدق أن القضية قد تنتهي بهذه البساطة:
- هل يعقل أن يرتكب القاتل خطأ ساذجاً كهذا؟!.. ثم.. كيف عرفت أن صاحب البصمة كان مستعجلاً؟!
قال بلهجة من يعرف عمله جيداً:
- كما ذكرت لك.. لأنها لم تكن بصمة كاملة. بل ربع بصمة.. وبدت مسحوبة بطريقة توحي أن صاحبها كان مستعجلاً بالفعل.. تماماً كما يحدث لبقعة من الأتربة حين تدوس عليها سريعاً كيلا يتسخ حذاؤك.
قلت متجاهلاً هذه التفاصيل:
- هل يعني كلامك أن بإمكاننا معرفة هوية القاتل؟!.
هز رأسه بأسف وهو يؤكد أن هذا مستحيل.. فقلت بحدة:
- ربما توجد طريقة لو فحصت البصمة جيداً.
كدت أن أبصق بوجهه حين رد بثقة مؤكداً أن هذا غير ممكن. لقد أردت منه مسايرتي على الأقل وادعاء أن بإمكانه كشف هوية صاحب البصمة.. فربما ينهار أحد الشقيقين اللذين استمعا إلى هذا الكلام ويعترف بارتكاب الجريمة.. مما جعلني أسأله بشيء من الحدة عن سبب إبلاغي بذلك طالما لا توجد فائدة مرجوة من الأمر.. ليقول مغمغماً أنه من الغريب ترك جزء صغير من أي بصمة بهذه الطريقة على مقبض الباب.. فأجبته متنهداً:
- من الطبيعي أن يكون القاتل مستعجلاً.. لهذا وجدت جزءاً من بصمته بالطريقة التي وصفتها.. لا شك أن ذلك قد حدث أثناء خروجه من الغرفة وغلقه للباب.
وضع إصبعه أمامي وهو يقول:
- ولكن.. البصمة - أو ربع البصمة إن أردنا الدقة - كانت على مقبض الباب الداخلي.. وليس الخارجي!!.. لاحظ أن القتيل كان مرمياً على الفراش في منتصف الغرفة بعيداً عن المقبض بعد أن تعرض لإطلاق النار.. وهذا ينفي احتمال أن تكون هذه بصمته أثناء محاولاته الخرقاء للخروج والاستنجاد بأحدهم مثلاً.. إنها جزء من بصمة القاتل على ما أظن.. ولا أعرف ما يعنيه ذلك.. المعذرة..
فهذا عملك.. أردت فقط توضيح الصورة كاملة لك.
أشحت بنظري إلى الجهة الأخرى بشيء من السخط، وقد شعرت بخيبة أمل بعد أن ظننت أن حل القضية قد جاء على طبق من ذهب.. لكن يبقى السؤال مطروحاً بالفعل: لماذا يضع القاتل جزءاً من بصمته على مقبض الباب الداخلي؟! هل من الممكن أنه نسي ذلك؟!.. ولماذا لم يرتد قفازاً مثلاً؟!.. غرق عقلي في هذه التساؤلات دون إجابة.
ثم.. أطلق (زيد) ضحكة ساخرة تجاهلتها، وقد بذلت جهداً خارقاً للحفاظ على أعصابي.. ليقول بعد ذلك:
- حتى لو عرفت هوية صاحب البصمة.. لن يتغير شيء..
عموماً فأنا أو شقيقي لا ندخل أبداً غرفة عمي.. إنه لا يسمح لنا بذلك.
لم أعلق على ما قاله.. بل التفت إلى (زياد) وسألته بالمقابل:
- ماذا عنك أنت؟!.. هل تكره عمك أيضاً؟!.
أجاب بالإيجاب مباشرةً.. وكأن كراهية عمه تستحق الفخر.. حسناً.. هذان اللعينان يمتلكان كل الأسباب لارتكاب الجريمة.. لماذا لا أرجح أن يكون القاتل من خارج البيت؟!.. هذا وارد بالطبع.. ولكن إحساسي الداخلي يقول أن القاتل أحد هذين الوغدين أو كليهما.. ولن أتركهما إلا إذا تأكدت أنني مخطئ.. أنا أثق بإحساسي الداخلي هذه. أثق به كثيراً.
لكن.. هذا يقود إلى سؤال آخر بالغ الأهمية.. فلو أن أحد التوءمين أرتكب الجريمة.. لماذا لم يجعلها تبدو وكأن شخصاً غريباً قام بها من أجل السرقة مثلاً.. إذ كان بإمكان القاتل منهما ادعاء اختفاء مبلغ من المال.. إلا أنه لم يفعل ذلك.. وترك نفسه عرضة للاشتباه بكل سهولة.. خاصة مع عدم وجود ما يدل على أن القاتل شخصاً من خارج البيت.
ما زلت أحدق في التوءمين وهما يحدقان بي في المقابل بنوع من التحدي.. لأتذكر أمراً آخر.. هناك شيء لابد من التأكد منه، وإن كنت لا أعرف جدواه بعد.. إذ ناديت على الخادمتين والسائق.. وسألتهم إن كانوا يستطيعون التمييز بين التوءمين.. فأجابوا جميعاً بالنفي.. والواقع أنني لم أشهد في حياتي أي توائم ترتدي الثياب نفسها.. إلا الأطفال.. أو ربما الفتيات.. لكن رجال في هذا العمر؟!.. المشكلة أنني لست واثقاً حتى من أن الذي أكتشف الجريمة ثم وجدته في استقبالي كان (زيد) بالفعل.. وليس (زياد).. يا إلهي... الأمر مرهق ذهنياً ويكاد أن يصيبني بالجنون!!.
سألتهما محاولاً الحفاظ على تركيزي، والبحث عن أي خيط يقودني إلى حل هذا اللغز:
- لماذا انتقلتما للإقامة مع عمكما؟!.. كان بإمكانكما الإقامة في بيت والدكما بعد وفاته؟!.. هل بيته مهجور الآن؟!.
أجاب (زياد) ببرود:
- بعد أن توفي والدي رحمه الله.. أتضح أنه مدين لعمي بمبلغ كبير من المال.. مما جعل عمي يبيع البيت لتحصيل المبلغ.. وقد توسلنا إليه أنا وشقيقي ألا يفعل.. لكنه بدأ صارماً وهو يؤكد أنه لن يتنازل عن حقه مهما حدث.. ثم أقترح علينا أن نقيم عنده ونعمل في شركاته.
سألتهما مفكراً:
- هل كان والدكما فقيراً إلى هذا الحد؟!.
رد (زيد) هذه المرة بحدة:
كان رجل أعمال ناجحاً أيضاً. لكنه تعرض إلى نكسة مادية بسبب صفقة تجارية لم تحقق النجاح.. فاضطر إلى الاقتراض من عمي.. وللأسف فإنه توفي بعدها بفترة قصيرة بسبب بعض الأمراض وضغوطات العمل التي أثرت على صحته.
قلت وأنا أحدق في السقف:
- إذاً كراهيتكما لعمكما قديمة.. ولا تتعلق فقط بسوء تعامله معكما كما ذكرتهما في البداية.. بل بسوء تعامله مع شقيقه (والدكما) نفسه.
قال (زيد) ضاحكاً:
أنت مخطئ في نقطة واحدة.. أنا لا أكره عمي فحسب.. بل أحقد عليه كثيراً.. نعم.. فكلمة (كراهية) قليلة بحقه.. وصراخي لحظة اكتشافي موته كان بسبب وقع المفاجأة فحسب.. أعترف أنني أخفيت عنك أمر كراهيتي له حين سألتني في المرة الأولى.. لم أحب أن تعرف شأناً عائلياً كهذا.. لكن في النهاية. أنت تحقق في جريمة قتل.. وعلى الأرجح ستعرف هذه التفاصيل عاجلاً أم آجلاً.
أغاظني أنهما يأخذان جهودي وجهود رجال الأمن بهذه الطريقة الهزلية.. لكني تركت الجدال جانباً.. إذ أضاء مصباح الأفكار في ذهني فجأة.. إنها لحظات الإلهام التي تزورني كثيراً أثناء التحقيق في قضايا غامضة كهذه.. لأقول بابتسامة مستفزة:
- لقد تذكرت للتو.. أعتقد أنني بدأت أفهم ما تفعلانه هنا.. فأنتما لستما أول توءمين يقومان بشيء كهذا.. لقد قرأت عن توائم متماثلة غيركما، ارتكب أحدهما جريمة.. لكنه أفلت منها بكل بساطة.. لأن القضاء عجز عن تحديد أي التوءمين أرتكبها.. أو إن كانا قد أتفقا على ذلك أصلاً.. ولا يمكن أن يحكم أي قاض في العالم بسجن توءمين أحدهما بريء.. فالقاعدة القضائية تتطلب العفو عنهما معاً بدل أن يسجن بريء.. لكنكما لن تخدعاني.
قال (زيد) ساخراً:
- حسناً.. إذا كنت مصراً على أن أحدنا أرتكب الجريمة..
فعليك أن تعرف هويته إذاً.
سألت (زياد)
متجاهلاً تحدي شقيقه:
- أين كنت عند ارتكاب الجريمة؟!.
فرد باستهتار:
- كنت مع أحد الأصدقاء.
لم أسأله عن هوية صديقه هذا.. لا أظن أن ذلك سيفيد.. فتنهدت مستفرغاً توتري. وطلبت منهما أن يأتيا معي إلى غرفة النوم حيث القتيل ما زال هناك، كون رجال الأدلة الجنائية لم ينتهوا من عملهم بعد.. لماذا طلبت منهما ذلك؟!.. أنا نفسي لا أدري!.. ربما أردت أن أكون معهما في مسرح الجريمة (غرفة النوم) .. علهما يرتكبان خطأ ما.. فصعد التوءمان الدرج أمامي وأنا خلفهما.. و.. عندها فقط لمحت شيئاً.. شيئاً لا أعرف جدواه أو أهميته.. لكني احتفظت به لنفسي وقررت عدم الإفصاح عنه حالياً!!.
حين دخلنا غرفة النوم. كان رجال الأدلة الجنائية ما زالوا يعملون على أخذ البصمات.. مع التفتيش في كل شبر من الغرفة. لأسأل أحدهم بصوت مرتفع:
- ماذا عن ربع البصمة التي عثرتم عليها؟!.. أين مكانها بالضبط؟!.
أشار إلى مقبض الباب الداخلي الذي نظرت إليه بشرود وعقلي ما زال مزحوماً بالأفكار.. شيءٌ في أعماقي يخبرني أن لربع البصمة دوراً مهماً في الجريمة.. لا يمكن أن يمر وجودها مرور الكرام.. فلطالما كانت البصمات هي الفيصل في حل قضايا كثيرة منذ أكثر من قرن.. إنها تحفة طبيعية نتجاهلها بعد أن اعتدناها، وتم التطرق إليها في الكثير والكثير جداً من القضايا البوليسية.. إذ يتفرد كل إنسان ببصمة خاصة به لا يمكن أن تتكرر أبداً.. إلا أن الخارجين عن القانون تداركوا الأمر مع مرور الزمن.. وباتوا يرتدون القفازات كيلا يتركوا بصماتهم.. لكن أن يترك أحدهم جزءاً صغيراً من بصمته.. فهذا ما لم يحدث من قبل.. إلا إذا.. إلا إذا.. مهلاً.. يا إلهي... تذكرت للتو ما رأيته منذ لحظات قليلة، واحتفظت به لنفسي.. هل لهذا دور في القضية؟!.
نظرت إلى التوءمين بلهفة.. لأوجه سؤالاً مفاجئاً لـــــ (زيد) تحديداً:
- حين صعدنا درجات السلم للتو.. لاحظت أنك تعرج قليلاً.. لماذا؟.
قال بلا مبالاة.
كنت ألعب الكرة مع مجموعة من الأصدقاء منذ بضعة أيام.. وقد أصبت بكدمة في ساقي.
طلبت منه أن يسير أمامي مرة أخرى.. هذا العرج الخفيف هو الاختلاف الوحيد بين التوءمين حالياً.. ولولاه لما فرقت بينهما.. نعم.. كانت هذه ملاحظتي التي احتفظت بها لنفسي وحان الوقت لكشفها. العرج الخفيف!!. هل يا ترى هو السبب ؟!.. يجب أن أحاول.. قد يكون هو طرف الخيط الذي أبحث عنه.. بل قد يكون الدليل الوحيد الذي أمتلكه حالياً.. هذا مذهل!. سأذوب فخراً بنفسي لو كنت على حق.. لكن الأمر يحتاج إلى العامل النفسي أيضاً.. أتحدث هنا عن بعض التمثيل والتلاعب بالأعصاب.
لذا.. تنحنحت.. وأطلقت ضحكة ساخرة طويلة متعمدة أمام أنظار الجميع الذين يحدقون بي باستغراب.. ثم طلبت من أحد رجال الشرطة أن يقبض على (زيد) فوراً.. ليمتثل لأمري وسط صدمة (زيد) الذي تجاوزها سريعاً.. وراح يهدد ويتوعد ويؤكد أنني لا أملك شيئاً ضده.. لكني وقفت أمامه مباشرةً.. وابتسمت بسخرية لأقول:
- لقد كشفت أمرك يا (زيد).. أنت الذي قتلت عمك.. أنت الذي أطلقت عليه النار.. إنني أملك الدليل.
نظر إلي غير مصدق، وكأنه لم يتوقع أن تسير الأحداث بهذه الطريقة.. وقد شجعني وقع المفاجأة على ملامحه وأكد لي أنني على الطريق الصحيح.. لأكمل بالسخرية ذاتها محاولاً التأثير على معنوياته:
- لقد أطلقت النار على عمك.. وبسبب ارتداد المسدس أثناء خروج الطلقة.. فقدت توازنك بفعل العرج الذي تعانيه.. مما جعلك تتكئ على مقبض الباب بجزء من إحدى أصابعك، كيلا تقع على الأرض.. مخلفاً جزءاً من بصمتك.. على الأرجح بصمة إبهامك؛ كونه الإصبع الأقوى عندنا جميعاً بطبيعة الحال.. إن ارتداد المسدس أثناء إطلاق النار سيخل بتوازن أي شخص ليس معتاداً على استخدامه.. فما بالك بمن يعاني إصابة في ساقه تجعله يعرج؟!.
كانت ردة فعل (زيد) تفوق كل توقعاتي.. فهو لم يماطل أو يدافع عن نفسه.. بل كان استنتاجي دقيقاً إلى درجة أنه انهار تماماً وبكل بساطة.. ليقع أرضاً وهو يشتم عمه بأقذر الشتائم، ويستذكر أفعاله السوداء على حد وصفه.. أما (زياد) فقد انكمش في مكانه شاعراً بالذعر بعد أن تم كشف أمر توءمه.. لكنه لم ينطق بكلمة.. ويبدو أن هذا لم يعجب (زيد) الذي سيضيع مستقبله.. في حين ينعم توءمه بثروة عمه.. إذ أشار إلى شقيقه مدعياً أنهما شريكان في هذه الجريمة بالفعل.. وأن (زياد) هو من أخذ المسدس وخرج من البيت ليخفيه عند أحد أصدقائه.. فراحا يتشاجران أمامي وكل منهما يتهم الآخر بالغباء.. حقاً إن الطمع يدمر كل العلاقات.. حتى علاقات التوائم ببعضهم!!.
لقد حاول (زياد) التنصل بالطبع.. بل وظل على إنكاره في بداية التحقيقات.. لكنه أعترف أخيراً بعد أن شعر بتضييق الخناق عليه.. خاصة مع حصولنا على كل تفاصيل الخطة حسب اعتراف (زيد).. مما أصابني بتلك النشوة التي أشعر بها دوماً حين أنتصر لصالح العدالة في كل قضية أحقق فيها.. ليتم إغلاق ملف هذه الجريمة.. وإلى الأبد.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا