غيبوبة!!
هل تعرفونه؟ بالتأكيد شاهدتموه كثيراً في نشرات الأخبار.. فقد كانت أخباره تملأ الدنيا حتى وقت قريب.
كان يعتبر نفسه قائداً لدولته.. رسولا ملهما من السماء لرفعتها.. كان لا يردعه شيء في سبيل إثبات ذلك في وسائل إعلام دولته.. كان التلفاز يتحدث عنه وكأنه صاحب الفضل الأول والأخير في بناء اقتصادها وثقافتها وحضارتها.. لكنه كان في الحقيقة.. سفاجا.. لا يتورع عن قتل أي شخص يعتبره من الأعداء.
دخل عدة حروب من أجل الوطن.. كلها ضد شعوب مسالمة ليس لها ذنب سوى أنها وقفت في طريق رغبته في توسيع رقعة نفوذه بتوسيع مساحة وطنه. لم يكن يؤمن بما يسمى أسرى الحروب. كان الأسرى بالنسبة له عائقا أمام تقدمه في القتال لذلك.. أصدر أوامره منذ أن كان قائداً ميدانيا في الجيش بقتل الأسرى فوراً. دون النظر للسن أو النوع أو الدين.. مهما بلغت أعدادهم أو أعمارهم. بل ربما كان يتلذذ بمشاهدة جنوده يسحقون تلك الحشرات منذ أن كان قائداً عسكريا لجيش بلاده وحتى وصل إلى أعلى قمة في نظامها الحاكم.
ضميرا!! لم يكن يعرف ما هو الضمير.. أو ربما تم استئصاله في بداية حياته وترك ندبه سوداء.
كان يذكر جيداً كل وجه قتله بيديه أو تسبب في قتله.. والطريقة التي قتل بها.. وهو عدد كبير.
النساء والأطفال الذين أمر بإلقاء قنابل محرمة دوليا عليهم ليلقوا مصرعهم بالعشرات.
الأبرياء العزل الذين أمر قواته بالإغارة عليهم بالطائرة وتمزيقهم أشلاء.
الرضيع الصغير الذي وجده حيا بعد مقتل أسرته عندما كان قائداً عسكرياً – فأخذه من قدميه ودق رأسه بعنف في الحائط حتى تهشمت وتناثر مخه.. ومات.
عشرات المسجونين الذين كان يعذبهم ويضع الملح في جروحهم ويعرضهم للشمس الحارقة حتى تلتهب الجروح ويفقس فيها الذباب يرقات تقتات على لحمهم الحي.. يصرخون حتى تتقطع أحبالهم الصوتية ولا يجدون من زبانيته إلا السخرية والمزيد من التعذيب.
الاغتصاب العشوائي والمنظم للفتيات والعجائز والأطفال والشباب وحت الشيوخ لتدنيس الأعراض والحط من الكرامة.
كل ما سبق لم يكن يشكل له عبئا نفسيا على الإطلاق.. على العكس كان يجلس فخوراً بنفسه يستمع للفظائع التي يقوم بها جنوده ويحس أنه قد أدى واجبه نحو وطنه على أكمل وجه.
حتى كانت الفترة الأخيرة.. بدأ يراهم.. بشكل منتظم في أحلامه.. كل ما سبق وتسبب في قتلهم.. كان يرى نفسه يقف فوق منصة عالية قليلا وفي الأسفل مئات الضحايا الذين يذكرهم.. جميعهم ينظرون إليه ويتهامسون ويتوعدونه.
لم يهتم بهذا الحلم في البداية فقد كان مشغولا بالفضاء على عدد آخر.. لكنه بعد فترة لاحظ أن الحلم يتكرر يوميا مع فارق بسيط أن ارتفاع المنصة كان ينخفض تدريجيا حتى كاد أن يقف بينهم تماما.
ثم فجأة..
كان في اجتماع هام مع وزرائه وكان يتحدث بانفعال شديد عن الوضع الأمني للوطن، وكيف يسمحون للأعداء بالانفلات الأمني إلى هذا الحد، ثم وجد الدنيا تظلم للحظة في عينيه كأن الكهرباء قد انقطعت، ثم.. عندما عاد الضوء لعينيه مرة أخرى وجد نفسه وسط هؤلاء الضحايا وهم يحيطون به من كل جانب!!
فكر بسرعة كيف حدث هذا هل استغرق في النوم في أثناء الاجتماع.. لم يحدث ذلك من قبل أبداً.. مد يده ليضرب بها على رأسه ربما يصحو من هذا الكابوس المزعج الذي وقع فيه، لكنه ما إن رفع يده ومعها بصره إلى أعلى حتى وجد الرضيع الصغير الذي قتله بيديه يطير فوق رأسه ممسكا بجزء من حائط.. جزء ملئ ببقايا مخ آدمي متناثر.. وضربه به فوق رأسه.. وظل يضربه بعنف حتى نزفت الدماء من عينيه وأنفه وأذنيه وفمه.. دماء سوداء ثقيلة مثل القار الذي يستخدم في رصف الشوارع.
صرح مصدر مسئول أن السيد.. قد أصيب فجأة بنزيف حاد في المخ، وأنه الآن في طريقه إلى مستشفى.. لتشخيص الحالة وتلقي العلاج.
كان الألم شديداً، وما زاد من ألمه أنه لم يكن يعرف هل هو مستيقظ أم نائم.. لكن الألم كان حقيقيا.. كيف؟ وكل هؤلاء أموات؟!! نعم قتلهم بيده.. وجد باقي الضحايا وقد أحاطوا به وقد بدت أيديهم بأظافر طويلة حادة مثل الخناجر.. اقتربوا منه أكثر وبدأ كل واحد منهم يمزق جسده بأظافره، كانوا يضربونه بعنف في كل أجزاء جسده، وكان يسمع صوت اصطدام هذه الخناجر بعضها ببعض داخل لحمه.. وصوت اصطدامها بعظامه.
أحس أن كل خلية في جسده تتألم، وحينما نظر إلى جسده. وجد الخناجر تخترق لحمه وعندما تخرج منه يلتئم الجرح بسرعة في جزء من الثانية.
صرح مصدر مسئول في مستشفى.. أن حالة السيد.. لم تتغير على مدار الأسبوع الماضي وما يزال الأطباء يحاولون جاهدين إنقاذ حياته.
كان الألم لا يحتمل وفكر.. ربما هذا ما أحس به هؤلاء الضحايا عندما قتلوا بيدي.
أراد أن يصرخ:: لا.. لا.. دعوني.. ابتعدوا عني.. أرحموني.. تذكر أنه قد سمع هذه الكلمات من أفواه هؤلاء الضحايا من قبل، وضحك من خوفهم أمام الألم والموت، ولم يستجب.
أراد أن يصرخ: أين قواتي؟ أين حرسي لخاص؟ أين وزرائي؟ ألا يوجد أحد يخرجني من هنا؟ ابتعدوا عني.. سوف أقتلكم.. سوف أسحقكم.. لكنكم ميتون.. سوف أقتلكم مرة أخرى.. سأقتلكم ألف مرة.
فتح فمه ليصرخ، لكنه ما فعل ذلك حتى اندفع العشرات منهم يتزاحمون للدخول إلى أحشائه بسرعة كبيرة.. حتى إنه لم يفهم ما يحدث إلا بعد أن دخل العشرات منهم بالفعل إلى داخله.
نظر إلى بطنه الكبير الذي وجده يتدلى بغرابة أمامه، ووجده يشبه شاشة التلفاز.. كانت أحشاؤه تبدو أمامه وكل الضحايا بداخله وقد تدلت من أفواههم أنياب كبيرة مرعبة مثل أنياب التماسيح، لكنها كانت أنيابا معدنية مثل الأظافر، ثم وجدهم يأكلون جزءاً من أمعائه.. بنفس الدموية التي تأكل التماسيح بها ضحاياها!
صرح مصدر مسئول بمستشفى. أن السيد.. قد أصيب بجلطة في الأمعاء، كادت تؤدي بحياته، وقد اضطر الأطباء إلى إجراء جراحة عاجلة لاستئصال الجزء المصاب وقد اضطر الأطباء إلى عدم استخدام أي مخدر جراحي نظراً للحالة الصحية الحرجة للسيد.. والمصاب بنزيف حاد في المخ بدرجة يكون استخدام المخدر الجراحي معها خطيراً للغاية ومميتا.
كان الألم لا يمكن وصفه.. ألم أكبر من احتمال البشر.. لكنه خاف.. خاف أن يصرخ أو يفتح فمه مرة أخرى حتى لا يدخل إليه المزيد منهم.
صرح مصدر مسئول بمستشفى.. أن السيد.. في حالة حرجة لكنها مستقرة بعد التدخل الجراحي العاجل والذي تم على أثره استئصال جزء من أمعائه يبلغ نحو التسعين سنتيمترا.. هذا ولم تتغير حالته منذ إجراء الجراحة منذ عشرة أيام.
لم يكن يدري شيئاً مما يدور حوله. ولم يكن يفهم ما يدور بداخله.. ظل رافضا لكل ما يحدث لفترة طويلة ممنيا نفسه بأنه نائم، وأن هذا كابوس آخر، لكنه كابوس طويل مخيف.. رفض أن يفكر في أي تفسير آخر.. كان ينتظر أن يقلق عليه حد من معاونيه فيذهبون إليه ويوقظونه من النوم وساعتها سوف يكافئ من يفعل ذلك أكبر مكافأة في حياته. ولكن بمرور الوقت.. قرر أن يعاقب من يوقظه أولا لتأخره الشديد وتركه يتألم كل هذا الألم.
بعد عدة أسابيع.. لم يحس بمرورها بالطبع.. بدأ اليأس يتسرب لقلبه.. لا يمكن أن يكون نائما.. طوال هذا الوقت نائم! كل هذا التعذيب ولا يصحو لو كان نائما.. وخطر له خاطر أرعبه.. ماذا لو كان في حالة غيبوبة.. غيبوبة طويلة.. غيبوبة قد لا يصحو منها أبداً.. ثم ماذا يعقبها؟ الموت.. الموت.. لم يكن يعرف أن الموت مخيف إلى هذه الدرجة.. فلأول مرة يفكر فيما بعد الموت.. ماذا سيحدث له.. هل سيكون الموت راحة له من هذا العذاب أم سيكون بداية لعذاب أكبر.
صرح مصدر مسئول بمستشفى.. أن السيد.. ما زال في حالة حرجة ولكن مستقرة.. وما زال الأطباء يحاولون إخراجه من غيبوبته.
استمر التعذيب طويلا.. كانت مجموعات الضحايا تسلمه. كل مجموعة إلى الأخرى، فلا يجد وقتا لمحاولة الهرب.. بعد وقت بدا غير محسوب.. امتلأ تفكيره باليأس.. حتى إن شدة العذاب، أنسته كيف كان يشعر قبل أن يدخل إلى هذا الكابوس الرهيب.
صرح مصدر مسئول بمستشفى.. أن حالة السيد.. قد استقرت تماما، ولم يعد هناك أي تحسن متوقع فيها، لهذا تقرر نقله إلى أحد المستشفيات الخاصة برعاية المسنين حيث سيلقي رعاية خاصة تتناسب مع حالته.
كم عدد الأيام التي مرت عليه وهو في هذه الحالة؟ لا يعرف.. لم يعد يعرف أي شيء على الإطلاق إلا الألم الشديد والعذاب.. عذاب انتقام كل الضحايا منه.. هل استسلم لليأس.. لم يعد يعرف!.. فلم يعد لديه مخ يفكر به. وما زال الرضيع يضربه بجزء من الحائط.. وما زال الباقون يفرزون أظفارهم المعدنية في جسده.. وما زال في حالة غيبوبة.
هل عرفتموه؟ إذا كنتم عرفتموه فادعوا معي أن يظل في غيبوبته مدة أطول.. وأدعو معي أن يكون مصير السفاح الذي جاء بعده مثل مصيره.
نعم.. كيف عرفت ما حدث له رغم أنه لم يعد يتحدث أعذروني لم أقدم لكم نفسي.. ولكني سأفعل.. أنا باختصار شديد.. إحدى الضحايا.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا