القبر رقم 232183
"سبيكة بدر عبد الرحمن"
ما فائدة الرفق الذي تحملانني به يا ولدي العزيزين، فلم أعد أشعر بشيء! وهذا الحنان في أعينكما ودموعكما المنهمرة وأنتما توسداني التراب، كم كنت أود لو استبدلتما دفق مشاعركما ذاك بدعاء ينفعني في قبري، ويخفف الوحشة التي تتملكني الآن وأنا وحيدة في هذا الظلام.
فلو كان قد بقى في الرأس شعرة واحدة سوداء لشابت من الخوف عندما غطيتماني أنتما وأخوتكما بالتراب، كم ناديت وتوسلت إليكم لكي لا تتركوني هنا، لكنكم حملتم دموعكم وحزنكم ورحلتم، وتركتموني وحدي هنا، يصطرع في روحي الخوف مما أراه والخوف عليكم بعدي.
أجل يا من أفنيت عمري في رعايتكم، لا زلت أحمل همكم أنتم العشرة كلكم حتى في قبري، وأرفق بكما أنتما الاثنين يا ولدي، يا من تحاملتما على حزنكما وحملتماني وأودعتماني قبري، فكم أشفقت عليكما من ثقل جسدي منذ رفعتماني حتى وضعتماني في اللحد لاهثي الأنفاس.
وصورة أخاكما الأصغر لا تفارقني، ولا حسرته عندما وقف جانباً ينتحب وقد غطي وجهه بكفيه، فما كان قادراً أن يراني أدفن تحت التراب، ولو كنت أملك النطق لزجرته عندما وجه لكما نظرات اللوم والعتاب وأنتما تهيلان علي التراب، لكنني بلا حول ولا قوة.
ليتكما يا ولدي تسمعانه الآن وهو يحدث زوجته عن قسوة قلبيكما وجمود مشاعركما، ودموعه تسيل بينما يصف لها كيف ألقيتها بي في ذلك القبر الضيق ونثرتما التراب على وجهي.
أواه يا ولدي! يا طفلي الكبير! وماذا كنت تريد من أخويك أن يفعلا وقد فارقت الروح الجسد ولم يعد سوى جثة هامد خامدة؟ هل افترضت أنهما سيحتفظان بذلك الجسد حتى يصبح جيفة منتنة؟ أم هل ظننت أن إبقاء جسدي على ظهر الأرض سيجعلني أعود إلى الحياة يوماً ما؟
لا يا ولدى! لا يا من حملته في بطني ثم بين يدي سنيناً طويلة، لا لن أعود! وهل يعود الموتى؟ فهلا رحمتني يا ولدي؟ هلا رأفت بي وخففت من دموعك التي تقطع روحي أشلاء؟ ألا يكفيني ما أنا فيه من خوف ووحشة لتشغلني بالقلق عليك؟
فلم أتركك طفلاً لتبحث عن ثدي يرضعك! ولا صغيراً لتبكى فقدك لحضن يرعاك! لقد تجاوز عمرك الثلاثين! ربيتك حتى أصبحت رجلاً! ولم أفارقك إلا بعد أن رأيت أحفادي منك يسعون بين يدي! فهلا رحمتني؟ هلا أعتقتني من حمل همك؟ فبي من الهم ما يكفي ويزيد!
ثم لمن تشكو أخويك؟ وهل تظن أن من تشكو لها سترحمك؟ بالله عليك استدر! استدر الآن وأنظر إلى وجهها! أرفع رأسك عن صدرها الذي تستند إليه وأنظر إلى وجهها المستهزئ بك وبدموعك وضعفك!
ليتك رأيتها وهي تغسلني! ليتك شهدت القسوة التي قلبت جسدي بها! والاشمئزاز الذي شوه ملامحها وهي تتجنب لمسي بقدر ما استطاعت! صائحة بتلك المغسلة الغريبة لتنتهي من عملها المقرف بأسرع ما يمكن.
تلك الأفعى الرقطاء! كم تذللت لي وتقربت مني في حياتي! فما كانت تناديني إلا يا أمي! وكنت أعاملها كإحدى بناتي، بناتي اللواتي ربيتهن وتحملتهن في مرضهن وسهرت عليهن كل تلك السنين، ليتركنني الآن بين يدي هذه الحرباء بدعوى شدة حبهن لي وعدم تحملهن لموقف غسلي بعد موتي! كأن الدليل على الحب في عقولهن السفيهة هو التخلي عني في وقت حاجتي!
وها أنا الآن وحدي، لا يرافقني منكم أنتم العشرة أحد، ولا يذكرني أحدكم بدعاء يخفف ظلمة قبري، فكل ما تفعلونه هو البكاء، وبعد بضعة أيام ستجف دموعكم، وستنشغلون بأنفسكم وبدنياكم وتنسونني، وها هم من حولي يخبرونني كيف نسيهم أحباؤهم ولم يعودوا يذكرونهم بزيارة أو بدعاء.
فبالله عليكم يا أولادي لا تنسونني، فقد شغلني حبي لكم وتفكيري الدائم بكم في حياتي عن نفسي، فلم أدخر لهذا اليوم ما ينفعني. اذكروني بشيء يخفف عذابي فقد تركت لكم الكثير من المال، فلا تبخلوا على بشيء يسير منه، فكم يمزقني الندم الآن على كل ما قصرت فيه من عمل.
لكنني أخدع نفسي بهذه الأمنيات، وتذهب نداءاتي وتوسلاتي هباء، فقد صمت أذانكم عن سماعي، وها هي السنين تنقضي وينقضي معها حبكم المزعوم لي، وإذا جاءت سيرتي يوماً صحتم بصوت واحد زاجرين من تذكرني، فلم أعد بالنسبة لكم سوى ذكرى حزينة تتجنبون التفكير بها حتى لا تعكر صفو أيامكم، حتى صوري أخفيتموها عن أنظاركم ودفنتموها في أدراج منسية، كما دفنتموني في غياهب النسيان؟
وتباعدت ذكراي فلم تعودوا تزورون قبري إلا مرة أو مرتين في السنة، ولولا اضطراركم للحضور إلى المقبرة لتأدية واجب العزاء لمعارفكم الذي يذكركم بزيارتي، لكنتم قد حرمتموني حتى من هذه الدقائق القليلة، التي تقضونها عند قبري بعقل غائب وذهن منشغل بهمومكم الدنيوية.
لم تسخ أنفسكم لي بدرهم ولا دينار، فقد أنفقتم كل ما تركته لكم في تدليل أنفسكم وأولادكم وزوجاتكم، وما كان أشد حزني وأنا أراك يا أصغر من أنجبت وأحبهم إلى تغدق بكل نصيبك من ميراثي على زوجتك، لتودعه هي بكل تفان وإخلاص بيد عشيقها، الذي وجدت فيه من الرجولة والقوة ما لم أفلح أنا بتدليلي إياك أن أخلقه في نفسك الضعيفة المهزوزة.
لقد بخلتم على يا من أفنيت عمري في سبيلهم حتى بالدعاء، الذي لا يكلفكم سوى بضع ثوان أنتظرها وأتشوق لها بفارغ الصبر في مرقدي الموحش المظلم، ويطول انتظاري وعذابي دون جدوى.
ولو كنت أملك أن أعود إلى الحياة لما تمنيت سوى لحظة أوقظكم بها من غفلتكم، وأخبركم بأنه عما قريب سترقدون نفس رقدتي، وسينساكم الأولاد والأزواج الذين شغلوكم عني كما نسيتموني.
ولأخبرك يا صغيري المدلل بأن من تمضى حياتك في تربيتهم وإحاطتهم بكل ألوان الرعاية، وتبحث بيأس في ملامحهم عما يشبه ملامحك، ومن ظننتهم أنا يوماً أحفادي، ليسوا سوى أغراب دستهم زوجتك الأفعى في فراشك.
***
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا