جيراني الأرواح 3 للكتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-12-27

 

القبر رقم 232182

"نورا نصيرن محمد"

كانت روح تلك الفلبينية حائرة في أول يوم من دفنها وهي تستمع إلى الأصوات حولها، فلم تكن تجيد الكثير من اللغة العربية، لكنها استطاعت تمييز بعض الكلمات باللهجة الكويتية التي كان يتحدث بها من حولها.

وبحزن وحسرة أخذت تتذكر كيف وصلت إلى هذا المكان، لكن ما طغي على كل ذكرياتها كان الألم الفظيع الذي كان يمزق جسدها لحظة وفاتها، والصرخات التي كانت تطلقها من أعماقها متضرعة إلى الله أن ينهى عذابها، وكيف انتهى كل ذلك فجأة ليسود الصمت.

وتذكرت كيف استيقظت قبلها لتجد نفسها محاطة بأناس يرتدون ثياباً بيضاء، فقد أيقظتها صفعات الممرضات القاسية من غيبوبتها، حاولت الاحتجاج فانهالت عليها الشتائم والأسئلة، فقد كان المحيطون بها يريدون معرفة من هو والد الطفل الذي كان يمزق جسدها ليخرج إلى الحياة، فصرخاتها جعلت أهل البيت الذي كانت تعمل خادمة فيه ينقلونها إلى المستشفى.

لم تستطع أن ترد على أسئلتهم، فلم تكن تعرف من هو أب الطفل الذي تحمله في أحشائها، فصاحب البيت وابناه كانوا يستغلون أي فرصة تسنح لهم للانفراد بها لينالوا منها، دون أن يعلم أحد منهم بعلاقتها بالآخر، ولم تكن تمانع في ذلك، بل كانت أحياناً تهاتف الابن الأكبر لتستدعيه من عمله إذا وجدت نفسها وحيدة في البيت، فقد كان هو المفضل عندها لشبابه وقوته، فكانت أسعد لحظاتها هي تلك التي تكون فيها بين أحضانه فيما زوجته الغافلة غائبة في وظيفتها.

أما الأب فقد كانت تضيق ذرعاً به، فقد كان عليها أن تنتظر لفترة طويلة حتى يبدأ مفعول حبوب الدواء التي لم يكن يستطيع أن يقترب منها بدونها، وأن تتحمل فوق ذلك صراخ مخدومتها عليها لتأخرها في أداء أعمالها الكثيرة، وكم ودت لو أخبرتها بأن زوجها الذي ينام في غرفة منفصلة عنها هو سبب تأخيرها، لكنها كانت تجبر نفسها على الصمت حتى لا تخسر الأموال الكثيرة التي كان يغدقها عليها.

لكن أسوأ ما كان عليها أن تحتمله مع ذلك الرجل كانت رغباته الشاذة، فقد كان معظم الأحيان يجعلها تقوم بأشياء تنفر منها ولا تجد فيها أي متعة، لكنها كانت تستجيب لرغباته في سبيل المال.

وكان المال أيضاً هو سبب احتمالها مرغمة للابن الأصغر، الذي لم يكن في تلك السن الصغيرة يجيد شيئاً من أمور العلاقة الحميمة، لكنه كان متلهفاً ليجرب معها ما كان يراه في تلك الأفلام التي كان يقفل باب غرفته بالساعات ليتفرج عليها، محاولاً أن يفرج فورة سنواته السبعة عشرة مع المرأة الوحيدة التي كانت في متناول يده.

كانت سعيدة بلهفة الرجال الثلاثة عليها، فلم يكن لها حظ من الجمال ولم يرغب أحد بالزواج منها في بلدها، ولهذا اضطرت إلى القدوم للعمل في ذلك البلد لتجمع من الأموال ما قد يغرى أحداً بزواجها.

وأسعدها أكثر أنها وجدت أيضاً صديقاً حميماً من جنسيتها، فقد رافقت في نفس الفترة عامل توصيل في أحد مطاعم الوجبات السريعة، فأطفال أهل البيت لم يكونوا يقتربون من الأطباق التي كانت تمضى الساعات في إعدادها، وكانت ترمى الكميات الكبيرة المتبقية منها في صفيحة القمامة، بينما كانوا يلتهمون بلهفة تلك الوجبات الجاهزة ذات الرائحة البشعة ويطلبونها كل يوم، فكانت تستغل خروجها لاستلام الطعام لتتفق معه على موعد يتسلل فيه إليها بعد نوم أصحاب البيت.

لكن صاحبها ذاك هجرها عندما علم بحملها، فيما لم ينتبه صاحب البيت وابناه لذلك لضآلة جسدها، بل إن الأب كان يغيظها بنعتها بالبدينة، محذراً إياها بأنها إذا ما استمرت على هذا المنوال فستصبح ببدانة زوجته، التي كان لا يسميها إلا البقرة، وعندما تقدم حملها لم يعد الأب يرغب فيها ولا يقترب منها، لكنها استمرت بمحاولة إغرائه رغم كرهها له حتى لا يراوده الشك بأنها حامل.

وكم كانت تتمنى لو استطاعت الخلاص من ذلك الجنين الذي سكن جسدها في غفلة منها، لكنها لم تنتبه لحملها إلا بعد فوات الأوان، وحذرتها صديقتها خادمة البيت المجاور، التي كانت المخلوق الوحيد الذي يعلم بحملها، من أنها قد تفقد حياتها إذا ما حاولت إسقاط جنيتها في ذلك الوقت المتأخر من حملها، ثم علمتها ما تصنع عندما يحين موعد ولادتها.

لم تكن تشعر بأي حب لذلك الطفل الذي يكبر في أحشائها، فقد كان كل ما يشغل بالها هو كيف ستتخلص منه بعد أن تلده، وكانت حائرة بين أن تخنقه فور ولادته وترمى به في القمامة، وبين أن تتركه حياً عند أقرب مسجد إذا ضمنت أن لا يستدل عليها أحد.

لكن الألم الرهيب الذي هاجمها عندما حان موعد ولادتها فاجأها وأفسد كل خططها، فقد فشلت كل محاولاتها لإخراج ذلك الجنين بنفسها، فقد كانت تجلس القرفصاء في الحمام الملحق بغرفتها، وتعض على فوطة حشت بها فمها لتمنع نفسها من الصراخ وهي تحاول بكل قواها دفع جنينها إلى خارج جسدها.

أحست بعينيها تكادان تخرجان من محجريهما لشدة الألم، وبدأ الدم ينزف من أسنانها وصرخاتها المكبوتة تمزق حنجرتها، حتى استسلمت لقدرها وأطلقت لصرخاتها العنان، فلم يعد هناك مفر من الفضيحة التي تنتظرها، فقد أصبح افتضاح أمرها هو الحل الوحيد حتى لا تفقد حياتها.

كانت لا تزال تطلق الصرخات وهي على فراش المستشفى عندما حضر رجل يرتدي الزي الوطني وأخذ بالصياح بوجهها، لم تفهم معظم ما كان يقوله، لكن إحدى الممرضات من جنسيتها أخبرتها بأنه يعمل محققا في الشرطة، وترجمت لها فحوى أسئلته الكثيرة، فعادت إلى الصراخ بأنها لا تعلم من هو أب طفلها.

كاد ذلك الرجل أن يبصق عليها لما سمع جوابها، لكنه تمالك نفسه عندما رأى العذاب الذي كان يحتل ملامحها، وغادر تلك الغرفة عازماً على أن يعود بعد انتهاء عملية الولادة عله يظفر منها بمعلومات أكثر.

ولساعات استمرت تتوسل إلى الطبيب الذي كان يطل عليها بين فترة وأخرى لكي يخرج ذلك الطفل الذي لا تريده من جسدها بأي طريقة ويريحها، لكن الطبيب كان خائفاً، فقد كان يحتاج إلى موافقة مخدوميها أو أحد من أهلها ليجرى لها العملية القيصرية التي كانت تحتاجها، ولم يكن هناك أحد منهم ليسأله، كما لم يرد أحد على اتصالاته الكثيرة بكل أرقام الهواتف التي أعطتها له.

فكما يحدث في تلك الحالات، فقد فر مخدوموها من المستشفى فور أن علموا بأنها قد دخلت المخاض وأن هذا كان سبب صراخها، وتجاهلوا الاتصالات الواردة على هواتفهم، فسيدتها كانت غاضبة لاستغفالها إياها وحملها بطفل غير شرعي، بينما كان الرجال الثلاثة خائفين من تحمل المسؤولية والفضيحة فيما لو تبين أن أحدهم هو والد ذلك الطفل.

وأخيراً جاءت رئيسة الأطباء وصاحت به أن يجرى العملية فوراً، فقد كانت المرأة توشك أن تلفظ أنفاسها، وبدأت الممرضات بدفعها إلى غرفة العمليات وهي تستعطفن ليسرعن والدموع تسيل على وجهها، لكنهن كن يتباطأن متكاسلات، فما وجه العجلة في إخراج طفل إلى الحياة لا يريده أحد ولا تعلم حتى من توشك أن تنجبه من هو أبوه؟

كان منظر طفلها وهو يحمل خارج جسدها هو آخر ما رأته عيناها وصوت الطبيب الذي أخبرها أنه صبي هو آخر ما سمعته، فقد استنفدت ساعات الولادة الطويلة تلك كل قواها واستنزفت الحياة من جسدها، فأغلقت جفنيها للمرة الأخيرة في حياتها ظانة أن ما كان يغلق جفنيها رغماً عنها كل نعاساً شديداً.

كانت تشاهد ما يحدث لها بعد ذلك دون أن تستطيع أن تفعل شيئاً، فقد عادت الممرضات إلى صفعها والصراخ عليها دون أن يتمكن من جعلها تفتح عينيها، وأخذ الطبيب يصعقها بأشياء كان يحملها في يده جعلت جسدها كله يرتفع ويهبط بعنف، لكن دون جدوى.

وأخذت تنظر بأسى إلى الدماء النازفة منها التي غمرت الشراشف البيضاء حولها، وكأنها ترى الحياة عندما كانت تخرج مسرعة من جسدها مع تلك الدماء، فلم تفكر يوماً أن نهايتها ستكون بسبب أكثر ما كانت تتلهف عليه في حياتها القصيرة.

واستمر العجز الذي كانت تشعر به يشلها بينما كانت تراقب جسدها الذي ظل ملقى على طاولة العمليات لساعات طويلة، ثم وهي تحمل على تلك النقالة إلى غرفة تجهيز الموتى في المستشفى، ورجال أغراب يحيطون بها مرتدين قفازات مطاطية وأقنعة ورقية تغطي أنوفهم وأفواههم.

كانت ترى الماء المخلوط بمواد تنظيف قوية وهو يسيل على جسدها ليغسل آثار الدماء، لكنها لم تكن تشعر به، ولم يعد لخوفها من أن تؤذى تلك المواد بشرتها التي أمضت جزءاً غير يسير من حياتها في العناية بها أي معنى، فقد كان أولئك الرجال يفركون جسدها بقسوة غير مبالين باحتجاجاتها التي لم يسمعها سواها.

ظلت تقف بجوار ثلاجة الموتى التي حفظ فيها جسدها لأيام عديدة دون أن يراها أو يشعر بها أحد، فقد اعتادت ذلك المكان منذ عادت إليه تجرجر أذيال خيبتها، وارتاحت إلى برودته وعزلته وصمت الأرواح الأخرى التي تقيم فيه.

ففي ليلة وفاتها جرت روحها المجروحة إلى البيت الذي كانت تعمل به محاولة أن تجد تفسيراً لما حدث لها، وأن تفهم لماذا تركها عشاقها كلهم وحيدة، ولماذا يبكي طفلها طوال الليل وحده في سريره دون أن يبالي به أحد، فيما يحاط من حوله من الأطفال بكل الرعاية، ولا يبقون سوى يوم أو يومين قبل أن يحملهم أهلهم إلى بيتهم سعداء بهم.

خاب أملها عندما ذهبت إلى كل من كانت تعرفه في أيامها الأخيرة، فقد اكتشفت أن صديقها قد وجد لنفسه صديقة جديدة، ولم تكن تلك الصديقة سوى خادمة البيت المجاور التي كانت تظن أنها أعز صديقاتها، وأحزنها أكثر أنها عرفت أن علاقتهما كانت مستمرة من قبل أن تعرفه هي، وأنها لم تكن بالنسبة له سوى تسلية مجانية لم يتعب حتى في الحصول عليها.

كانت كثمرة فاكهة نضجت ثم سقطت أرضاً، وكل ما كان عليه أن يفعل هو أن ينحني لالتقاطها، فقد جعلتها لهفتها التي لا تنتهي على أجساد الرجال سهلة المنال، ولم تكن المرات القليلة التي تلتقي فيها بالابن الأكبر الذي كان الوحيد الذي يرضي جسدها كافية لها.

ولو كانت تستطيع الضحك لقهقهت وهي تشاهد محاولات ذلك الابن الأكبر اليائسة لإقناع زوجته بأن لا علاقة له بحملها، فقد تظاهر بالبكاء وهو يقسم بحياتها بأنه برئ من اتهاماتها، وأخذ ينسج القصص حول المرات الكثيرة التي تمكن فيها بصعوبة من مقاومة محاولات الخادمة المستميتة لإغوائه، وكيف أصبح يتجنب البقاء وحده في البيت حتى يهرب من مواجهتها، وكيف أنه فكر جدياً بمخاطبة أمه لتبعدها عن البيت بعد أن أتعبته محاولاتها المستمرة معه.

ومع أنها لم تصدم لردة فعل الأب اللامبالية لموتها، إذ لم تتوقع منه سوى ذلك، لكنها صدمت رغماً عنها لإصراره على رفض ترحيل جثمانها إلى بلادها، فقد رفض باستهزاء أن يدفع مبلغ الألف دينار المطلوب لشحن الجثمان، وتجاهل اتصالات المستشفى والمشرحة المتكررة، وأغلق الهاتف في وجه مسؤولي سفارتها عندما اتصلوا به، بل إنه صاح في وجه زوجته بجرأة لم ترها يوماً منذ عرفته لمجرد أنها حاولت إقناعه بأن لا يترك خادمتهم تدفن وحيدة في بلد غريب.

كانت تتأمل وجه مخدومتها الحزين والدموع التي تسيل على خديها والشعور بالذنب يمزقها، فقد نسيت تلك المرأة الطيبة غضبها لاكتشافها حملها السفاح، ولم تعد تفكر سوى في جعلها ترتاح في رقدتها الأخيرة بقرب أهلها.

وأخذت تلوم نفسها لخيانتها لها، وتتذكر بمرارة كم سخرت من تلك المسكينة وهي في أحضان زوجها، وكم كانت تستمتع بجعل الزوج يغرق في الضحك عندما تدس وسادة كبيرة خلف فستانها لتقلد مشية زوجته واهتزازات مؤخرتها السمينة، وكيف كانت تنفذ له باسمة كل رغباته الشاذة التي لم يستطع يوماً أن يقنع زوجته بها.

راقبت بحزن ذلك الزوج وهو يفتش كل ركن من غرفتها حتى وجد الأموال التي كانت تخفيها واستولى عليها، وسمعته وهو يقول لنفسه أنها أمواله هو ومن حقه أن يستعيدها، فقد كان يدفع لها الكثير في كل مرة تنفذ له رغباته المريضة.

وبمرارة فكرت بأنها قد دفعت حياتها ثمناً لتحصل على تلك الأموال، وسمحت لذلك الرجل باستباحة جسدها كما يشاء، وها هو الآن يستبيح لنفسه أخذ أموالها ويتركها ملقاة في ثلاجة الموتى دون أن تهتز شعرة في بدنه.

لكن ما صدمها حقاً كان حزن الابن الأصغر الشديد لموتها، فقد بكى عليها بحرقة أدهشتها، كانت ترى الأحاسيس التي تجول في نفسه فعلمت أنه لا يبكى فقط لفقده جسدها، بل لفقده المخلوقة الوحيدة التي كانت تستمع إليه وتهتم به، فأبوه وأمه وباقي عائلته كانوا مشغولين عنه بأنفسهم، وكانت تلك الخادمة هي الوحيدة التي يشكو لها همه، وشريكته المفضلة في ألعاب الفيديو التي كان يعشقها، فقد كان يسعد كثيراً عندما يشترى لعبة جديدة ويلعب بها معها، إذ كانت إجادتها للغة الإنجليزية تجعلها تكتشف سريعاً أفضل الخدع للفوز باللعبة بسرعة، ليأخذ هو كل ما تعلمه إياه ويتباهى به أمام أصدقائه.

لم تفكر لحظة أن تلك اللحظات التي كانت تجلس فيها مع ذلك الصغير قد عنت له كل هذا، فقد كانت تستمتع باللعب معه وبالأحاديث التي يتبادلانها وبالمرح الذي كان يسود تلك الأوقات، لكنها كانت تظن أن ذلك كله لم يكن سوى مقدمات يحتاجها لينال جسدها بطريقته الساذجة.

جلست قرب فراشه عدة ليال تراقبه يبكى حتى يغلبه النوم، وكم تمنت لو كانت تستطيع أن تمسح على شعره وتخفف لوعته، أو لو كان لها صوت لتتحدث معه وتؤنس وحدته، لكنها لم تتمكن من أن تفعل شيئاً.

لم تستطع حراكاً حتى عندما رأت ذلك الصغير يجمع كل أجهزة الألعاب الإلكترونية وأشرطة الألعاب التي يمتلكها، ويجول بين أصدقائه وبين المحلات المتخصصة حتى باعها كلها، ثم جاء إلى أبيه وقدم له كل الأموال التي جمعها ليساهم في دفع أجرة نقل جثمانها إلى بلدها.

ودت لو استطاعت أن تحذره من ردة فعل أبيه الغاضبة قبل أن تصل تلك الصفعة القاسية إلى خده، أو لو تمكنت أن تمنع تلك اليد القذرة من أن تؤلم صديقها الصغير، لكنها كانت عاجزة، وكل ما استطاعت فعله هو أن تنظر بأسي إلى صدمة ذلك الصبي لقسوة أبيه، وتستمع إلى شهقات بكائه وهو يدفن وجهه بين الوسائد حزناً لعجزه عن أن يفعل شيئاً لمساعدتها.

يئست أخيراً من تلك العائلة وعادت إلى المستشفى حيث لا تزال جثتها راقدة لتبقى بقربها، فلم تكن تعرف مكاناً آخر لتذهب إليه، وبقيت هناك والندم يتملكها على كل ما فعلت من أخطاء في حياتها.

لكن أكثر ما كان يعذبها كان بكاء طفلها، فقد كان يرن في جنباتها أينما ذهبت ليمزق روحها، بينما يشل العجز كل حواسها، فلم تكن قادرة أن تمد يدها لتحمله وتهدهده ليكف عن البكاء، ولا أن تعد له الحليب عندما تعلو صيحات جوعه.

وكانت تلك الصيحات لا تكاد تتوقف، فلم تكن الممرضات يكترثن كثيراً به، ولولا بقية من إنسانية في قلوبهن لتركنه يموت جوعاً، فقد كان طفلاً لقيطاً ولا يسأل عنه أحد، وكن ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء معاملات نقله إلى دار اللقطاء ليرتحن من العناية به، وكانت هي أيضاً تنتظر ذلك اليوم بلهفة، فقد كانت تأمل أن يجد هناك عناية أكثر، وشيئاً ولو قليلاً من الحنان.

وبقدر ما كانت تكرهه عندما كان في رحمها وتتمنى الخلاص منه، فقد استولى على روحها حب لم تشعر به في حياتها تجاهه في اللحظات التي سبقت موتها، وظلت روحها تحوم حول ذلك الطفل وهي تتمنى لو عادت إلى الحياة للحظة فقط تلمسه فيها.

كانت لا تمل من تأمل ملامحه، فقد كان يشبهها كثيراً، وبمجرد أن رأته عرفت من هو أباه، فقد ورث عنه لونه الأسمر الداكن الجميل الذي كان يختلف عن لون الأب والأخ الأكبر، وكان على رقبته حبة الخال التي كانت تزين عنق أبيه.

وضاعفت معرفتها بأن ابنها هو من صلب ذلك الصبي الذي أحبها بصدق من شغفها به، لكنها لم تكن تملك غير النظر إليه بعجز وروحها تتقطع من العذاب كلما سمعت بكاءه، وأخيراً وبعد أسبوعين من وفاتها جاء ذلك اليوم الموعود.

أخذت تنتظر بسرور وصوله إلى دار اللقطاء، لم تكن تأمل إلا في أن ينال اهتماماً أكثر هناك، ولهذا كانت فرحتها لا توصف عندما سمعت ممرضات الدار يتحدثن عنه، وعلمت بأنه سيحصل على اسم وراتب شهري، والأهم أنه سينال جنسية ذلك البلد فور بلوغه سن الرشد، ولن تتوقف الدار عن الاعتناء به حتى آخر يوم من حياته.

ولو كانت تملك حراكاً لمزقت وجهها بأظافرها من الغيظ عندما كانت مسؤولات الدار يتناقشن حول الاسم الذي سيمنح له، فكم كانت تتمنى لو كان بيدها على الأقل أن تختار اسم فلذة كبدها، إذ كانت تسمع دائماً أصدقاء ذلك الصبي ينادونه "أبو جاسم"، فكانت تود أن تسمى ابنه "جاسم"، فمن يدري؟ فقد يأتي يوم يبحث فيه ذلك الصبي عن ابنه بعد أن يكبر.

تألمت عندما وجدت أن ممرضات تلك الدار أيضاً لم يكن يولين ابنها الكثير من الاهتمام، فقد كن يعلمن بقصته، وبأن أمه نفسها لم تكن تعلم من هو والده لكثرة عشاقها، واعتقدت الكثيرات منهن عندما رأين ملامحه الآسيوية وعينيه الضيقتين في وجهه الأسمر بأن أباه قد يكون من جنوب شرق آسيا، بل إن بعضهن كن يتحسرون علانية على كل الامتيازات التي سيحصل عليها ذلك اللقيط بدون وجه حق.

كانت تود أن تصيح في وجوههن وبأن ابنها كويتي أباً عن جد، لكنها لم تكن تملك صوتاً تتكلم به، ولو استطاعت لصاحت أيضاً بمن كانوا يحملونها إلى المقبرة بعد شهر من وفاتها، بينما كانت تراقب مشلولة كل ما يحصل لجسدها، وتنظر إلى من يصلون عليها متمنية بيأس أن يسمع أي منهم صرخاتها الخرساء، فلم يكن بيدها شيء تفعله لتشرح لهم أنه ما هكذا يصلى عليها في دينها.

وها هي الأيام تمضى عليها وهي وحيدة في قبرها، تمزقها الحسرة على ابنها وعلى غربتها في بلاد غريبة وبين ناس أغراب، لا أحد منهم يتكلم لغتها ولا أحد يريد أن يكلمها، فقد حقدت عليها أرواح كل المحيطين بها عندما علموا بأنها كذبت عندما قدمت طلب توظيفها، وأنها قد زورت بيانات جواز سفرها لتحصل على راتب أكثر، فلم تكن مسلمة ولم يكن الاسم المكتوب على شاهد قبرها هو اسمها، فقد ولدت باسم سيلفانا ماثيو فيرنانديس، وهذا هو الاسم الذي ستبعث به يوماً ما من قبرها.

***

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا