القبر رقم 232181
"جراح محمد ناصر"
لم أحس بالعجز في حياتي كلها بقدر ما أحسست حينها، مشلولاً أبكماً لا حول لي ولا قوة، أحمل من بيتي إلى حيث لا أدري، جثة هامدة لا يتحرك في شيء ولا يسري في عروقي دم، وأنا أتبع جسدي دون أن يراني أو يشعر بي أحد، بينما تحملني سيارة الإسعاف على متنها وتنهب بي الطريق نهباً، والممرض الجالس بقربي يصيح بالسائق:
- خفف السرعة فالرجل قد مات منذ فترة! بل إني أظنه قد مات قبل أن يستدعينا أهله!
- لكن اثنين من أبنائه يتبعاننا بسيارتيهما منذ تركنا البيت، وإذا رأيانا نبطئ فقد يضعان اللوم علينا لموته!
- وكيف يلوماننا والرجل قد فارق الحياة قبل أن نراه؟
- من يعلم؟ فهؤلاء الأغنياء يظنون أنفسهم في مرتبة فوق البشر! وأن الدنيا تهتز لموت أحد منهم أو حياته! ألم تر كيف كانوا يصرخون بنا ويستعجلوننا لنقله إلى المستشفى؟ وكيف صاحوا في وجهك عندما أخبرتهم بأنه ميت؟
- لا أظنني كنت أحتاج لإخبارهم، فزوجته وأبناؤه الصغار كانوا يبكونه كأنهم كانوا يعلمون، والوحيدان اللذان صاحا في وجهي هما أكبر أبنائه! فهذان الاثنان كادا يضربانني عندما أخبرتهما بوفاته، رغم أنني جعلتهما يلمسان يده ليريا كم هي باردة فور وصولي!
- من يعلم كم سيرثان من المال! هل رأيت فخامة البيت والأثاث؟
- لم أنتبه لشيء سوى حجم غرفة نوم هذا الرجل! ماذا كان يفعل بكل هذه المساحة؟ لا بد أن غرفته وحدها تزيد عن مساحة شقتي بأكملها! وذلك السرير الضخم الذي يكفي لعملاق! إن هذا الرجل قصير القامة وضئيل الجسم، فلماذا اختار سريراً كهذا؟
- ها قد وصلنا! أسمعني جيداً! أريدك أن تخرج من السيارة جرياً كأن كلباً مسعوراً يلاحقك! سأحمل معك النقالة وسنأخذه بأسرع ما نستطيع إلى غرفة الطوارئ لنسلمه لهم ونخلى مسؤوليتنا عنه! فلا أريد أن أفقد عملي بسبب هؤلاء الأغنياء السخفاء!.
ولو كنت حياً لجعلت هذين الغبيين يدفعان الثمن غالياً، فقد جريا بي كأنهما يحملان كيساً لا بشراً، لم ينتظرا حتى ليضعاني على عربة النقل لشدة خوفهما، وما كادا يصلان غرفة الطوارئ حتى رمياني على أقرب سرير وجداه، ثم دفعا بلوح التشخيص في يد الطبيب وصاحا ببضع كلمات عن وضعي قبل أن يخرجا مسرعين، مدعين أن لديهما حالة طارئة أخرى.
وقبل أن يتسنى للطبيب أن يقرأ ما كتب على اللوح أو أن ينظر إلى كان أبناي يصيحان في وجهه، وكان أول ما نطقا به هو أنهما مستعدان لنقلي إلى الخارج فوراً إذا كان الأطباء في بلدي لا يملكون الكفاءة لعلاجي، وأن أباهما لديه من المال ما يغنيه عن علاج الحكومة البائس.
تجاهلهما الطبيب واتجه إلى، وكنت لا أملك سوى النظر إليه عاجزاً وهو يفتح عيني ويسلط نور مصباح يدوي صغير عليها، فتظل عيناي محدقتين جامدتين، ثم يضع سماعته على صدري فلا يسمع شيئاً، ثم يمسك بيدي ويرفعها فتقع هامدة ما إن تركها كأنها حجر.
- هذا الرجل ميت!
- لا تقل هذا! أبي حي لم يمت، لقد كان يهز البيت بصراخه قبل بضع ساعات فكيف يكون ميتاً الآن؟
وصاح ابني الآخر:
- أنتم تريدون فقط أن ترتاحوا من عناء علاجه، إنك لم تستغرق حتى دقيقة في فحصه! فكيف تدعى أنه ميت؟
لم يفقد الطبيب الذي بدا كأنه قد اعتاد هذه المواقف أعصابه، بل رد بهدوء وبرود:
- إنه ميت منذ عدة ساعات على الأقل، فأطرافه باردة كالثلج، انظرا!
لقد بدأت أطراف أنامله بالازرقاق، إذ يبدو أنه مات بسبب نقص في الأكسجين، هل كان يشكو من مرض في القلب؟
خفض ابني الأكبر رأسه وقد بدأ يستوعب حقيقة موتى، وأجاب بصوت هامس:
- لقد أصيب بجلطة في القلب في العام الماضي، لكنه تعافي تماماً وكان ملتزماً بالدواء وبالنظام الغذائي الذي وضعه له الأطباء.
- لماذا تتحدثان عن أبي بصيغة الماضي؟ إنه حي! أنا متأكد أنه حي! أنا متأكد أنه حي! أبي رد علي! أجنبي! استيقظ وأجبني!
وأخذ يهزني ويصيح في وجهي، وأنا عاجز لا أستطيع حركة لأدفعه عني، ولا نطقاً لأرجوه أن يترك جسدي المسكين في حاله، ورق الطبيب لي، فأبعده عني برفق قائلاً:
- لا فائدة مما تفعله يا بني، إن أباك ميت فاتركه بسلام، وادع له بالرحمة فهذا كل ما نستطيعه.
- أنت كاذب! أنت كاذب! أقول لكم إن أبي لم يمت! إنه حي! عالجه الآن! اشفه وإلا جعلتك تدفع الثمن غالياً! هل تعلم من هو أبي؟ بل هل تعلم من نحن؟ إن عائلتنا من أكبر عائلات البلد! ولو كنت أيها الجاهل من أهل هذا البلد لكفاك أن تعرف اسمنا لتعلم من نكون! هل تعلم كم يملك أبي من المال؟ إن لديه ما يكفي لشراء هذا المستشفى بكل ما فيه ومن فيه! وليس.
قاطعه الطبيب وقد أخرجه ما قاله ابني عن رشده:
- كل ما في الدنيا من مال لن يعيد أباك إلى الحياة! اذكر الله واقبل بقضائه! ولا تخسر أجرك بهذا الهراء الفارغ الذي تتفوه به!
اتسعت عينا ابني من الدهشة، فلم يخاطبه أحد بهذه اللهجة منذ ولد، فقد اعتاد أن يأمر فيطاع ويطلب فيجاب، وحول بصره إلى كأنه يستنجد بي وعيناه لا زالتا مسكونتين بالدهشة، لكن منظر جسدي الخالي من الحياة ويدي المتدليتين على جانبي بعد هزه العنيف لي صدمه، فصرخ مفجوعاً ثم ألقى برأسه على صدري وأخذ ينشج بالبكاء.
حول الطبيب اهتمامه إلى بني الأكبر، الذي كان يقف صامتاً والدموع تسيل على وجنتيه، وربت على كتفه مواسياً، ثم قال:
- لن نستطيع أن نعرف سبب موت أبيك إلا بعد بعض الوقت، لكن أغلب الظن أنه قد أصيب بجلطة أخرى كانت قاتلة هذه المرة!
هل تعلم إن كان قد تشاجر مع أحد؟ هل حدث شيء أغضبه أو أحزنه؟
- لا، لم يحدث شيء من هذا القبيل، ليس في البيت على الأقل، فكلنا كنا نهاب أبي ونحترمه ولا نغضبه في شيء، لكنني سمعته يصرخ بغضب شديد عندما كان يتحدث على الهاتف.
- ألا تعلم من الذي كان يحدثه؟
- لا أدري، لكنني أظنه كان يحدث سمسار الأسهم، فهو عادة ما يحدثه في مثل هذا الوقت من كل يوم، فأبي يتاجر في الأسهم، وقد حاولت أن أعلمه طريقة التداول الإلكتروني ليستغني عن السمسار، لكنه كان يفضل الطريقة القديمة في التداول.
- أنا لا أفقه كثيراً في هذه الأمور، لكنني سمعت أن السوق قد انهار وانخفضت أسعار أغلب الأسهم.
- ربما، لست أدري، فأبي كان يرفض أن يطلعنا على أي شيء يخص عمله.
وصمت الاثنان بعد أن فقد ابني اهتمامه بالحديث، وتسمرت نظراته على جسدي الهامد بلا حياة، وعلى أخيه الأصغر الذي كان مستمراً في البكاء والنحيب والتوسل إلى لأعود إليه.
آه يا ابني الحبيب! ليتني كنت أستطيع أن أعود! ليت بيدي أن أرجع إلي الحياة لحظة فقط لأضمك إلى صدري وأخفف من حزنك وأخبرك كم أحبك! فلم أقلها لك يوماً، إذا لم أكن معتاداً أن أعبر عن مشاعري بالكلام، وكل ما فعلته للتعبير عن حبي كان أن أغدقت عليك بالمال والهدايا، كم أتمنى الآن لو كنت قد أخذت من وقتي المزدحم بالصفقات والأسهم لحظة أقضيها معك.
هل تذكر عندما بلغت الثامنة عشرة من عمرك؟ هل تذكر كم رجوتني وتوسلت إلى لأصطحبك لاستلام السيارة التي اخترتها، كنت قد أعطيتك شيكاً بقيمتها بدون مناقشة رغم ثمنها الفاحش، لكنك كنت ترتدني معك، كنت تريدني بصحبتك وأنت تقودها لأول مرة، كنت تريد أن تريني مهارتك في القيادة وتسمع مني كم أنا فخور بك.
لكنني تجاهلت توسلاتك وقتها، وأوصلتك ثم تركتك وحيداً هناك، فقد كانت الساعة لا زالت الحادية عشرة، وكان لدى متسع من الوقت لأعقد صفقة أو اثنتين وأكسب بعض المال قبل إغلاق السوق.
لم يكن يشغل بالي وقتها إلا السوق وحركة الأسهم، فكنت أفرح لصعوده وأحزن لنزوله، ولم تكن تسعدني مجالستكم ولا الحديث معكم، فلم أكن أهتم إلا بمجالسة من يملك الأخبار عن السوق، ومن قد أسمع منه همسة تعينني على تعويض بعض ما خسرته.
أجل يا ابني! لقد أصبحت أتسول الأخبار بعد أن كنت أنا في يوم ما من يملك الأخبار، بل كنت أحد الذين يرفعون السوق ويخفضونه بمشيئتهم، لكن انهيار السوق الذي لم أحسب له حساباً أفقدني مكانتي عند كبار التجار، فلم يكن يغيب عن علمهم ما يملكه كل واحد منا من أسهم وقيمتها، وكانوا يعلمون بمطالبات البنوك لي وبالمأزق الذي كنت فيه معهم، فقد كانوا هم من يملكون البنوك ويعرفون كل شاردة وواردة مما يجرى بدفاترها.
لقد أخفيت عنكم كل معاناتي وعذابي، لكن نفسي وجسدي كان يتآكلهما القلق والتحسر على قراراتي الخاطئة، فبغباء بعت كل ما أملك من عقارات عند بداية انهيار السوق لأشترى مزيداً من الأسهم، وكنت فخوراً بذكائي وحسن استغلالي لتلك الفرصة التي ظننتها قد سنحت لي.
هل تذكر عندما أريتك وثائق العقارات والأراضي التي كتبتها باسمك واسم إخوانك؟ هل تذكر فرحتك وقتها وأنت تقبل رأسي وتشكرني؟ لقد ذهبت كلها يا ابني! فقد بعتها مستخدماً الوكالة التي منحتني إياها أنت وأخوك، ووصايتي على إخوتك الصغار، ولم أترك لكم سوى البيت الذي نسكن فيه، ولولا بقية من عقل لبعته هو أيضاً في سبيل مغامراتي المجنونة.
والأذكى من ذلك أنني وضعت معظم ما حصلت عليه من مال في سهم شركة كان قد انهار إلى أقل من نصف قيمته، فقد اشتريته سابقاً بما يفوق الخمسة دنانير، وكنت سعيداً عندما استطعت الحصول عليه بأقل من دينارين، لم أفهم وقتها لماذا كان أحد أعضاء مجلس الإدارة يبتسم بسخرية وهو يخبرني بأنه رأي اسمي في كشوف الملاك، وأنه قد علم بكمية الأسهم الكبيرة التي اشتريتها، فقد كنت أظن أنه غاضب لدخولي على شركتهم بهذه القوة.
هل تعلم كم يساوي هذا السهم الآن؟ إنه لا يساوي حتى ربع ما دفعته فيه! فقد كان استثماري فيه واحداً من أسوأ القرارات الكثيرة الخاطئة التي أقدمت عليها بتهور في السنتين الماضيتين.
وليت الأمر اقتصر على هاتين السنتين يا ابني، فحتى قبلها كانت قراراتي مندفعة ومتهورة، كنت أظن نفسي شجاعاً وجسوراً، لكنني لم أكن سوى مقامر أعمته سخونة اللعبة عن المخاطر المحدقة بها، فلم أكتف بالمضاربة في الأسهم المدرجة في السوق، بل اندفعت لأكتتب في أسهم شركات جديدة لم أعد أذكر حتى أسماءها، فكلما ظهرت واحدة جديدة اكتتبت فيها لأقصى ما أستطيع، ودفعت لكل من وجدت ممن لا يكترثون بالأسهم لأشترى منهم هوياتهم وأكتتب باسمهم.
هل تذكر عندما أصبت بتلك الجلطة وكدت أموت في العام الماضي؟ هل تعلم لماذا كاد قلبي يتوقف من القهر؟ لقد أخبرني أحد ملاك الشركة التي كانت تدفع بكل تلك الاكتتابات إلى السوق بأنها في طريقها إلى الإفلاس، وأن هذه الشركات لت تقوم لها يوماً قائمة، فقد استولت تلك الشركة على كل رؤوس أموالها وضيعتها في مضاربات فاشلة في السوق، وذهبت أدراج الرياح كل الأموال التي دفعتها.
لم أكن غبيا، فقد كنت أعلم بأن تلك الشركات لا تملك أي أصول ولا نشاط وأنها مجرد شركات ورقية، ولكنني ظننت كما ظن سواي بأنها ستستفيد من فورة السوق، وأن أسعار أسهمها سترتفع عند إدراجها وسأربح الكثير من المال، وصدمني أنني لم أجن سوى الفشل.
لعلك تتساءل الآن كما تساءل ذلك الطبيب ما الذي حدث لي وجعل قلبي يتوقف إلى الأبد في هذه المرة! لكنك لت تتساءل طويلاً، فها أنا وأنا راقد في قبري بعد ساعات قليلة من موتي أرى كشف حسابي لدى البورصة وهو يطبع كما في كل صباح، وأنظر إلى كشف أسهمي العزيزة، أو كشف أحلامي الخائبة، وقد أقحمت إلى جوار كل منها جملة جديدة لم أرها في حياتي من قبل.
"الأسهم محجوزة بموجب محضر الحجز رقم ... لعام 2010".
أجل يا ابني العزيز! لقد وضعت البنوك يدها على كل ما لدى من أسهم بعد أن انتظروني طويلاً لأسدد ديوني لهم، هل علمت الآن لماذا كنت أصيح بالأمس؟ لقد أبلغني سمساري بهذا الحجز! وبأنني لم أعد أستطيع التصرف بأي من الأسهم التي ضيعت كل ما أملك عليها، والتي ظللت أحلم وأتمنى بأنها ستعود إلى مجدها يوماً ما وسأسترد كل أموالي.
ها أنا الآن، وحيداً في قبري، يعذب روحي الخوف من بغضكم لي الآتي لا محالة بعدما تكتشفون فقركم الغائب الآن عنكم، وعندما تبحثون عن ميراثكم، وعن تلك الأموال التي كنتم تتفاخرون بها، فلا تجدون سوى الديون، فلن تكفي تلك الأسهم التي تهاوت قيمتها إلا لسداد نزر يسير مما استدنته مقابلها.
كفكف دموعك يا ابني، فبعد أيام قليلة لن تجد من هؤلاء المعزين الذين يزدحمون حولك الآن من يحن لدموعك، وسيأتي اليوم الذي تزور فيه قبري لتعلنني، وسيتحول الحزن الذي تشعر به علي الآن إلى غضب وغلا سيلازمان إلى الأبد كل ذكرياتك عني.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا