البداية
التاريخ: 10/ 6/ 2010
المكان: مقبرة الصليبيخات
الزمان: التاسعة صباحاً.
كانت المقبرة تغص بالناس في ذلك الصباح، فقد كان هناك عشرة موتى سيتم دفنهم في هذا اليوم، وقد اختار المشرفون على المقبرة مكاناً يبعد قليلاً عن أماكن القبور السابقة، فحفرت وجهزت عشرة قبور متجاورة في ناحية من المقبرة لم يسبق لهم استخدامها.
تعالت صيحات الاحتجاج من بعض المعزين لشدة الزحام وبعد المسافة، لكن نظرات اللوم في عيون من حولهم أجبرتهم على الصمت، واستمر الجميع في السير مطأطئي الرؤوس والعرق يتصبب منهم تحت وطأة شمس الصباح المحرقة، حتى وصلوا أخيراً إلى مكان القبور.
كان موظف البلدية يسير أمامهم صامتاً مثلهم وهو يسترجع أسماء من سيدفن في تلك القبور، ويعيد قراءة أرقام القبور وأماكنها وترتيب الدفن، وكان زميله قد اقترح عليه ليلة أمس أن يتقاسما العمل فوافق بدون تردد.
وبعد أن قاد المعزين إلى المكان المحدد، ابتعد قليلاً عنهم ليعيد قراءة الكشف الذي يحمله ثانية، وكنت أنظر من فوق كتفه فرأيت الأسماء كلها:-
جدول خمس أعمدة (الترتيب – الاسم – الجنسية – العمر – رقم القبر):
الأول، جراح محمد ناصر، كويتي، 65 سنة، 232181
الثاني، نورا نصيرن محمد، فلبينية، 32 سنة، 232182
الثالث، سبيكة بدر عبد الرحمن، كويتية، 73 سنة، 232183
الرابع، فراس شافي عبد اللطيف، كويتي،19 سنة، 232184
الخامس، شفيع الدين محمد شريف، بنغلاديشي، 21 سنة، 232185
السادس، سارة عبد الله عبد العزيز، كويتية، 53، 232186
السابع، يسرية عبد التواب عبد المقصود، مصرية، 45 سنة، 232187
الثامن، موسى عبد الوهاب موسى، كويتي،61 سنة، 232188
التاسع، سالم فهد يوسف، كويتي، 37 سنة، 232189
العاشر، يعقوب راشد علي، كويتي، 80 سنة، 232190
عاد إلى المعزين الذين كان يقف في مقدمتهم أهل الميت الأول وهم يحملون نعشه على أكتافهم، وأشار إلى الإمام فأومأ برأسه وتقدم إلى الصف الأول وتخطاه مكبراً، وسارع حاملو النعش بوضعه أرضاً، ثم تأخروا عنه حتى وقفوا في الصف الأول.
جال الموظف الذي اعتاد هذه المواقف بنظره بين المعزين، وكالعادة كان هناك من يمسح دموعه، ومن يجاهد ليتماسك، فيما كانت وجوه البعض الآخر جامدة، بل إن عدداً غير قليل من المعزين كانوا يعبثون بهواتفهم خفية أو يتشاغلوا بالحديث مع من بقربهم، حتى صاح الإمام منادياً للصلاة على الميت فسكت الجميع.
تكررت المراسم مع باقي الميتين الخمسة الذين كانوا من نصيب ذلك الموظف، لكنه كان يقف وحده خلف الإمام للصلاة على المرأة الفلبينية الجنسية والشاب البنغلاديشي في بداية مراسم دفنهما، فلم يحضر لوداعهما أحد.
وتدريجياً ازداد العدد بانضمام بعض من الموجودين إلى الصلاة طمعاً في الأجر، لكنه اضطر إلى النزول إلى قبر المرأة بنفسه ولم يساعده إلا عمال المقبرة، فقد خشي باقي الحاضرين أن يكون هناك إثم في لمسهم لجثمان امرأة أجنبية عنهم.
أهال التراب على جثمانها بمساعدة العمال، وتذكر بعدما ابتعد أنه لم يتل شيئا من الأدعية عندما وسدها التراب، فتمتم ببضع كلمات مأثورة بعقل غائب، وعاد لينهمك في عمله.
ولم يختلف الوضع مع زميله لدى دفن المرأة المصرية الجنسية إلا في ثقل جثمانها الذي أنهك قواه، ولم يجد أي منهما جواباً لتساؤلاتهما عندما التقيا لاحقاً، فلم يعرفا يوماً لماذا ترك هؤلاء الثلاثة ليدفنوا في تلك الأرض الغربية وحدهم، ولا لماذا لم يطالب أحد بجثامينهم، وتركوا في ثلاجة الموتى دون أن يسأل عنهم أحد حتى اتخذ القرار بدفنهم.
هكذا كانت بداية جيرتي لهذه الأرواح، وبعد أن أسدل الليل ستائره على المقبرة، وخيم الظلام، على تلك القبور العشرة، بدأت في صمت الليل قصصنا هذه.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا