الصورة البيضاوية
للكاتب الأمريكي: _djar ävn bw Edgar Allan poe
كان ذلك البيت الريفي الفخم الذي قصدته طلباً للراحة والنقاهة مما أعانيه من جرح بالغ ... ذاك البيت الذي لم يكبد خادمي نفسه مشقة فتحه لي برفق ... بل اقتحمه بعنف كقائد مظفر ... كان مزيجاً من الوحشة والكآبة والعظمة ... والغموض.
وبدا للرائي جلياً أنه قد أخلى مؤقتاً، ومنذ فترة جد وجيزة، واستقر بنا المقام في واحدة من أصغر الغرف وأبسطها أثاثاً ... في برج قصي من ذلك القصر المهيب ... كانت زخارفها راقية في تصميمها على أنها كانت رثة وقديمة بعض الشيء.
وألقيت على جدرانها نظرة عجلي، فاسترعى انتباهي أنها كانت مرصعةً بأنسجة ذات رسوم شتى ... فيما علقت بعض النصب التذكارية الخاصة بالنبالة وعدد كبير من اللوحات الحديثة تزينها أطر من (الأرابيسك) الذهبي ... وانتشرت تلك الصور في كل مكان، حتى إن بعضها قد وضع في فتحات داخل الحائط، فزاد في غموض ورهبة ذلك البيت، وربما كان لما أشعر به من هذيان وخدر مبدئي أثر في مضاعفة اهتمامي بما حولي، إذ إني رجوت الخادم (بيدرو) أن يغلق مصاريع النوافذ الثقيلة، بعد أن أرخى الليل سدوله - وأن يوقد شموع الشمعدان الضخم عند رأس سريري ... وبأن يفتح الستائر المخملية السوداء المهدبة، والمحيطة بالسرير عن آخرها.
وكنت أطمح من وراء كل تلك الإجراءات - إما جافاني النوم - إلى أن أطلق العنان لفكري كيما يهيم في فضاءات تلك اللوحات المحيطة بي ... وإلى استطلاع ما دون في ذلك الكتيب الصغير الذي وجدته على إحدى الوسائد ... والذي كان يحوي شرحاً تفصيلياً ونقدياً لتلك اللوحات.
وطفقت أقرأ طويلاً ... طويلاً ... وألقى على الصور الشاخصة أمامي نظرات هائمة متأملة ... وانسابت ساعات الليل وئيدة فإذا هو منتصف الليل، وشعرت فجأة برغبة في تغيير موضع الشمعدان الذي لم يرق لي ... فمددت يدي المصابة بصعوبة ... كيما يسقط ضوء الشموع على الكتاب مباشرة ... ورغم أني عانيت كثيراً إلا إني لم أشأ أن أوقظ الخادم المسكين من نومه. على أن شيئاً لم يكن في الحسبان أبداً قد حدث، إذ إن لهب الشموع الراقصة وقع فجأة على لوحة في إحدى الكوات بالجدار، كان الظلام قد أخفاها ووقعت في ظل أحد أعمدة السرير، فكان ما تبدى لناظري عبر الضوء الباهر المنسكب منظراً ما عبر قط خيالي ... كانت صورة لفتاة صغيرة لا زالت على أعتاب الأنوثة تخطر ... وألقيت عليها لمحة عابرة قبل أن أغلق عيني.
لم فعلت ذلك؟ لا أعلم ... حتى ذاتي لم تجد لذاك تعليلاً!
على أني إبان إغماضي شرعت أبحث عن السبب ... وأدركت بعد لأي أن تلك الحركة لم تكن سوى وسيلة لكسب شيء من الوقت أعمل عبره فكري فيما هو ماثل أمامي كيما أتأكد أن خيالي لم يخدعني ... ولكي أكبح جماح مشاعري وتخيلاتي قبل أن أسدد للصورة نظرة أقوى وأرسى ... واستقرت عليها عيناي بضع ثوان لا تحيدان!
ولم يكن ثمة شك في صحة ما رأيت، إذ إن لهب الشموع المنسكب بقوة عليها لأول وهلة قد بدد ذاك الخدر الجارف الذي كان يشل حواسي ... ليأخذني بعدها إلى أعتاب الواقع، فأستشعر كينونة ما حولي في عالم اليقظة!
كانت الصورة - كما أسلفت - لفتاة صغيرة ما بدا منها غير رأسها وكتفيها، وقد رسمت فيما يسمى بالصيغة النقشية، فبدت أقرب إلى الحقيقة ما تكون ... ذابت تلك النهايات المتوهجة لشعرها في خلفية الصورة الداكنة بعفوية، في ذاك الظل الغامض العميق الآسر!
وكان الإطار بيضاوياً مشبعاً بالذهب والزخارف المغربية فأما الرسم ذاته فكان آية في الفن والجمال، لكن ما صعقني لم يكن جمال الصورة أو روعة الزخارف ... صحيح أن ذاك المحيا كان آية في الجمال، وأن اللوحة في مجملها كانت تهتن سحراً، على أنه يبدو أن ما قلب كياني أن خيالي الذي كان نصف غاف بعد أن هزته بعنف يد الواقع قد رأى في تلك اللوحة ... رأساً حقيقياً ينبض بالحياة والواقعية، وربما كان لإتقان تلك التحفة ... ولنوعية النقش في الإطار أكبر الأثر في إطلاق ذلك التصور من قمقم الرؤى، وحجب ذاك الاستمتاع الآتي الذي تثيره جزئياتها.
وشرعت أعمل فكري هنيهة بكل ذلك، نصف جالس ... ونصف مستلق، ونظري مصوب إلى الصورة أمامي ... قبل أن أتمدد على السرير ثانية ... منتشياً برحيق السعادة التي أحدثتها في فؤادي تلك الأسرار الغامضة تشع من خفايا اللوحة.
وشعرت بأن ذاك العمل المتقن قد بهرني بدءاً قبل أن يحتويني في نوبة من خدر غامض لذيذ، وأحسست برهبة عميقة وأنا أضع الشمعدان في موضعه السابق ... وما إن احتجبت تلك الصورة التي أثارت كل هذه المشاعر حتى تناولت الكتاب عله يكشف لي شيئاً من أستارها، ولما وقع نظري على الرقم الذي يندرج تاريخها تحته قرأت ما يلي:
"لقد كانت فتاةً بارعة الجمال ... ساحرة الألق نادرة الحسن، وكانت ساعة نحسٍ يوم أن رأت ... وعشقت وتزوجت ذلك الرسام ... كان صارماً ... جازماً ... جاداً في عمله ... وأحس أنه عندما التقى بها قد ملك الدنيا سماءً وبحراً ... كانت باسمة مشرقة ... مرحة ... وكانت تهوى كل شيء سوى فنه ذاك الذي رأت فيه منافساً قوياً في بعلها.
وكان منظر المحابر والملاون والفرشات ... وأدوات الرسم طراً ... باعثاً لأحزانها، فقد كان يحرمها من رؤية محياه ... وكم شعرت بإحباط غامر حينما كشف لها عن رغبته في رسم عروسه الصغير ... على أن طيبتها وطاعتها له جعلاها تقبع في وداعة واستسلام، ولأسابيع عديدة في إحدى زوايا ذلك الجناح المنعزل في ركن قصي من البرج حيث لا شيء سوى الظلام الدامس يفتق شيئاً من حجبه بصيص من نور متسلل من علٍ.
أما هو فقد كان يستشعر زهواً وأمجاداً وهو يمضي الساعة تلو الساعة ناقلاً ملامحها. كان عاطفياً ... مزاجياً ... عنيفاً ... ثملاً بأحلام اليقظة وخيالات الفنان ... حتى إنه لم يلحظ أن ذاك الضوء الواهن المنسكب في أعطاف ذاك الجناح النائي قد امتص عصارة روحها وأطفأ إشراقتها فبدت ناحلة حزينة هزيلة للرائين قاطبة سواه.
وكانت تبتسم وتبتسم له في صبر عجيب، فقد أسعدتها سعادته ... وذاك الحماس والتوهج يشعان من عينيه، وهو الفنان الشهير الذائع الصيت ... كان يغيب في لجج من النشوة وهو يرسم ليل نهار تلك التي أحبته الحب كله ... تلك الزهرة الرقيقة الشذية التي ازدادت بمرور الأيام نحولاً وذبولاً ... وذهولاً.
وبدا كل من لمح الصورة مأخوذاً بروعتها عازياً سحرها إلى موهبة راسمها وكلفه بصاحبتها ... وشد ما كان ذلك يؤلمها فلا تبوح بما يضج في فؤادها من ألم الجراح.
وشارفت اللوحة على الانتهاء فلم يسمح لأحد بالدخول، فقد كان الفنان في قمة حماسه حتى إنه لم يكن يرفع رأسه ليقلى نظرة على محياها الشاحب إلا لماماً ... كلا ... لم يكن ليلحظ أن ذاك اللون الذي ظل يسكبه فوق خميلة اللوحة كان ينضح من خديها، وعندما انقضت الأسابيع ولم يتبق سوى بضعة من الرتوش هنا وهناك ... فوق الشفتين ... وأعلى العينين ... خفقت المسكينة فجأة كما يخفق لهب المصباح ... ووضع الفنان عدته جانباً، فقد أتم لوحته ووقف أمامها مبتهجاً مأخوذاً بما أنجز ... على أنه ما إن ألقى عليها نظرة ثانية حتى ملئ دهشة ورعباً وذهولاً ... وامتقع لونه وهو يصيح "كأنما دبت الحياة فيها حقاً!". ولما أن التفت إلى محبوبته في وله وجدها ... قد فارقت الحياة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا