مشكلة التوافق الاجتماعي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-10-08

 مشكلة التوافق الاجتماعي 

إنني طالب في إحدى المدارس الثانوية، في التاسعة عشرة من عمري، ذكائي فوق المتوسط، دائم الاصطدام بأساتذتي، عنيف المزاج، جاف في معاملاتي.

طلق والدي أمي بعد أن أنجبتني وأنجبت أختي فأصبحت الرجل المرتقب، وحظيت من أمي وأهلها بكل عطف وحنان، وبقيت على هذه الحال عشر سنوات، حين رآني أبي لأول مرة، لما جاء ليأخذني من والدتي ويدخلني بعيداً عنها مدرسة ابتدائية في إحدى القرى حيث أودعني أحد أصدقائه.

بعد عامين من افتراقي عن أمي، تسلم مدير المدرسة برقية تضمنت خبر وفاة والدتي، فاستدعاني لعنده وأخبرني بالأمر فلم يبد علي التأثر ولم أبكِ. إني لم أكن أفقه الموت بعد، تسلمت البرقية وأعدت قراءتها مرات، ولم أفطن إلى مصابي إلا في المساء حين شغلت طواله في التفكير في معنى الموت، وتخيلت أمي راقدة في قبرها تحت التراب. حينئذ أيقنت أن أمي قد ذهبت إلى غير عودة وزاد من وقع المصاب حين تسلمت بعد أيام رسالة جافة كل الجفاف من والدي يخبرني فيها بنفس الأمر.

أما شعوري تجاه إزاء الجنس الآخر فهو شعور غريب. إني إذا رأيت أية فتاة، أو امرأة، أحب أن أتصل بها مباشرة. وأتمنى ذلك، وإني أحب لمجرد الشهوة، وأتصل كثيراً جداً بالنساء وكلما خلا بي الجو بفتاة، ولو كانت قريبتي، تنتابني عوارض شتى، وأعتقد بأن من أحدثها ترى ذلك، لأني ألمس الرغبة في عينيها. وإني أكتب هذا والقلم يضطرب في يدي، كثيراً ما أفكر في الفصل في مناسبات من هذا القبيل، وأعتقد أن ذلك مرض ينتابني، كما أعتقد أنني غير جميل، وبذلك لا أقدم على معاكسة الفتاة إلا التي تؤجر أي التي تبيع جسدها بالنقود.

فبربك كيف تحلل حالتي؟

عصام. و

قبل الدخول في تحليل حالتك سأتطرق إلى أصل المشكلة في الطفولة، حيث أن في الطفل إلى جانب سيل غرائزه العرم، إمكانيات فطرية على التكيف للظروف والمثل الاجتماعية، إلا إنها لا تكفي وحدها أن تحقق هذا التكيف، ولا مناص من أن تتدخل التربية والخبرة الشخصية، لتنمية هذه الإمكانيات، واستغلالها لتحقيق توافق الطفل مع الجماعة. وهكذا يتلقى الطفل من والديه، أو ممن يقوم مقامهم مثل الجماعة ومطالبها، ويتشربها عن طريق الإيحاء أحياناً، والتوجيه أحياناً أخرى. ويتعلم بخبرته الشخصية أن يتنازل عن بعض اللذات العاجلة التي تثير سخط المجتمع، في سبيل أخرى آجلة، يرضى عنها المجتمع، ويفطن بالتدريج إلى أن رضاء المجتمع يجلب لذة لا تقل عن اللذة التي يجلبها إشباع الرغبات الغريزية على نحو بدائي. معنى ذلك أن مبدءاً جديداً قد نشأ واتخذ مكانه إلى جانب مبدأ اللذة في التحكم في أسلوب حياة الفرد. هذا هو مبدأ الواقع الذي يحمي الفرد من مطالب اللاشعور الغريزية ويمكنه من التعامل الناجح مع الجماعة واكتمال هذا المبدأ خلال نمو الطفل يعني حدثاً خطيراً في النمو النفسي هو تحقيق التوافق الاجتماعي.

أن التوافق هنا مع الحياة تبتدئ منذ الطفولة المبكرة. وفترة تكونه الحاسمة هي السنوات الأولى من حياة الطفل، وأهم عواملها البيئة المنزلية وعلى الأخص تأثير الوالدين. وما مهمة التربية إلا أن تصوغ إمكانيات الطفل في قالب اجتماعي مقبول، فتنقله من المستوى اللااجتماعي إلى المستوى الاجتماعي، وذلك بأن تعلمه كيف يتخلى عن السلوك الطفلي من أجل سلوك رشيد اجتماعي، ولها علاوة على ذلك مهمة أخرى هي الحيلولة دون نمو الإمكانيات المضادة للمجتمع، فإذا أخفقت في تحقيق هذين الغرضين، نشأت شخصية عاجزة عن التوفيق بين رغباتها وبين مطالب المجتمع، شخصية لا اجتماعية أو معادية للمجتمع، دائبة العمل على إلحاق الأذى بأفراده.

كما أن التوافق الاجتماعي لا يحقق إلا إذا سار النمو الانفعالي للطفل سيراً سوياً، فلا يلحقه أزمات أو صراع، ولن يسير على هذا النحو السوي إلا تحت شرط أساسي، هو أن تجد الطاقة الغريزية وسيلة سليمة للتعبير عن نفسها.

ففي الطفل حاجة إلى الحب والمحبة، أي إلى أن يحب غيره ويحبه غيره. إلا أن هذا الحب ينبغي أن يكون معتدلاً، فيأخذ في النقصان من حيث شدته قبل مرحلة المراهقة، حين تحتم الصحة النفسية أن يطرح الطفل موضوعات خارج الأسرة والاضطراب الذي يلحق بالطاقة الغريزية عبارة عن تثبيت عند مرحلة الطفولة نتيجة الأفراط في بذل الحب للطفل، أو عن فقدان الأمان الانفعالي نتيجة الحرمان من الحب أو الحيرة بين المعاملة اللينة والمعاملة الجافية. وهذا الاضطراب في نمو الطاقة الغريزية هو مصدر الشخصية العصابية.

أن الطفل حين يجابه المجتمع تتنازعه قوتان: قوة الدوافع اللاشعورية، وقوة الأنا الأعلى. الأولى تبغى الإشباع والثانية تمنع الإشباع. والأنا بينهما نهب لهذا الصراع. ولابد من حلول ثلاثة يقدمها الأنا حلا لهذا الموضوع:

1. الحيلولة دون الرغبة الغريزية عملا بمبدأ الواقع، وفي هذه الحالة يقال إن الطفل أعلى الرغبة بترجمته إياها إلى شكل من أشكال السلوك يقبله المجتمع.

2. تغليب الرغبة الغريزية على الأنا الأعلى، أي القوانين الخلقية، فيبدو الشخص (متوحشاً) بسلوكه سلوكاً بدائياً. وينتفي بهذين الحالين أي صراع نفسي.

3. ولكن قد يحدث أن تكون كلا القوتين جارفتين بحيث يتعذر تغليب إحداهما على الأخرى، وبذلك ينشأ صراع نفسي مؤلم، فيعمد الشخص إلى محاولة التوفيق بين القوتين: الرغبة اللاشعورية ونواحي (الأنا الأعلى). وينتج عن هذا التوفيق سلوك شاذ فيه إرضاء جزئي لكل من الدافعين.

بعد هذا العرض يمكننا الولوج إلى مشكلة القارئ عصام. و

كنت في صغرك مع إقرانك تسرح وتمرح في حياة طبيعة لا تشوبها شائبة حين جاء والدك لينتزعك من عطف أمك وينقلك من بيئتك حيث الحرية المطلقة وحيث تلبي أمك كل رغبة لك، إلى البيئة المدرسية حيث القيود، وحيث لا تتحقق لك الرغبة.

نأتي بعد ذلك إلى خبر وفاة والدتك وتأثيره عليك حيث بدأت تنفرد وحدك في حجرة المنزل كي تبكي ساعات وتذكر أمك التي لم تراها منذ عامين. ساعدتك هذه الوحدة أن تطيل التفكير في سر الموت وبعض المسائل المتعلقة بأسرار الوجود فاكتسبت عادة الشرود الذهني. لقد كانت صدمة نفسية عنيفة اعترضت حياتك الانفعالية فأصابتها بالخلل، وسببت لك اضطراباً شديداً وليس أدل على ذلك من إعادة قراءة رسالتك.

وبما إنك وحيد أمك، فقد استحوذت على عطف أمك وأهلها. حرمت من أبيك العشر سنوات الأولى من حياتك، والمعلوم أن شخصية الطفل تتحدد إلى حد كبير في السنوات الخمس الأولى من حياته، فلم تتهيأ لك فرصة تمثل صفات الأب وامتصاص شخصيته الرجالية. وعلاوة على ذلك لم تعتد تأجيل رغباتك. حتى إذا خرجت إلى المجتمع لم تجد المعاملة التي حظيت بها من قبل في كنف الأم حيث لا سلطة تعارض رغباتك. هنا في نفسك مشاعر النقمة على المجتمع، وابتدأت تنظر إليه نظرة الخصم غير المستعد للتعامل السوي معه.

لما اتصلت بوالدك لقيت من العنف ما لم تعهده، حب أمك لك غرس فيك بالتبعية، وقسوة الأب بعد ذلك هددت شخصيتك وعرقلت نمو ذاتيتك. هذان العاملان أفقداك الشعور بالأمن وأحلا بدلاً منه شعوراً بالنقص ولد في نفسك إحساساً بأن شخصيتك في خطر، وهذا هو السر في حساسيتك المرهفة الثائرة وتفسيرك كل موقف من زملائك أو مدرسيك على أنه جارح لكرامتك. لم تعرف أباك إلا عندما جاء ليدخلك المدرسة، فبخبرتك بأبيك اقترنت بدخولك المدرسة، وخبرتك بالمدرسة اقترنت في ذهنك بخبرة مؤلمة أخرى، هي حرمانك من الأم، ثم فقدانك إياها بالموت. وهذا تفسير كراهيتك للأب وكل من يمثله الأب من مدرسين أو سلطة تقف دون رغباتك، وكراهيتك للنظم المدرسية وانعدام الانسجام بينك وبين أقرانك فيها. وامتدت هذه الكراهية فشملت المدرسة على الثانوية. ونزيد ذلك أن معاملتك الشاذة لأقرانك كان يزيد من حدته إحساسك بالنقص الناتج عن التربية الأولى، فضلاً عن قصر قامتك قصراً كبيراً، وقلة حظك من الجمال.

من هذا القلق على ذاتيتك، وإحساسك الدائم بالنقص، نشا عنصر ثالث من سلوكك اللااجتماعي، وهو الاهتمام بتكوين العلاقات الجنسية بالفتيات الساقطات. لم يكن ذلك إلا تعبيراً عن ذكورتك، وتأكيداً لذاتيتك التي هددتها الأم ببذلها العطف كله، والأب بقسوته، وتنفيساً عن رغباتك اللاشعورية التي لم تجد إشباعاً في طفولتك.

ويبقى في الأخير العنصر الأخير وهو شرود الذهن والإغراق في أحلام اليقظة. لقد افتقدت السعادة والهدوء الانفعالي، فلابد أن تلتمسها في عالم الخيال. وأنت قد فقدت بسبب تربيتك الأولى الانسجام مع المجتمع. فمعظم المواقف لا تسرك ولذلك تتهرب منها بالإغراق في أحلام اليقظة. هذا إلى إنك دائم التفكير في الجنس الآخر كلف بإشباع رغباتك الغريزية فتجد لها منصرفاً في أحلام اليقظة عندما يعز عليك إشباعها فعلياً هذا فضلاً عن انشغالك بحب فتاة ملكت عليك كل لبك إلا أنك لا تفكر فيها جنسياً ولا يبعد أن يكون ذلك راجعاً إلى أنها رمز للأم الطيبة التي كنت تقدسها فهي بديل الأم التي حرمت منها منذ أمد بعيد وحرمت من توجيه انفعالات الحب نحوها الوقت الكافي هذا القول يفسر عجزك عن التحرر من التفكير فيها.

بعد هذا التحليل يتبين لنا في النهاية كيف تؤدي الصدمة النفسية إلى الاضطراب السلوكي. ولكن يجب أن نذكر أن الصدمة وحدها لا تكفي لأحداث هذا الاضطراب، بل لابد أن يكون الشخص على استعداد من قبل لهذا الاضطراب بسبب خبرات الطفولة المبكرة، وقد كانت خبراتك القديمة مؤلمة إلى حد الاعتقاد بأنه كان من المحتمل جداً أن تصاب بأحد الأمراض العصابية ولكن حل محله سلوك موضوعي لا اجتماعي موجه إلى المجتمع لا إلى ذاتك فنجيت بذلك من الملانخوليا.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا