يوميات مجنونة:
أدخل الكشف التالي
هكذا قال طبيب الأمراض النفسية للمساعد، عندما دخل الأخير عليه بعد سماعه لجرس الطبيب.
دخلت إليه.. سيدة في منتصف الثلاثينيات، هادئة الملامح، ترتدي حجابا أنيقا، وملابس تدل على أنها تنتمي للطبقة فوق المتوسطة.. كان يصحبها زوجها.. يبدو أكبر منها بقليل، ملابسه تدل على أنه إنسان متعلم ذو مركز محترم.. صافحه الزوج.. أشار لهما الطبيب بالجلوس.
جلست في الكرسي المقابل له، وزوجها أيضاً.. فتح الطبيب صفحة فارغة في دفتره ونظر إليهما وقال:
خيرا إن شاء الله.. ما المشكلة؟
رد الزوج:
خير.. زوجتي تعاني منذ فترة من اكتئاب نفسي.. نتيجة لبعض المشاكل التي واجهتني في عملي.. وقد أثر ذلك على حالتها الصحية كثيراً، فقدت شهيتها للأكل والخروج، بل أعتقد أنها فقدت شهيتها للحياة نفسها.
نظر الطبيب إلى السيدة وبدأ يسألها عن نفسها، قال:
خيرا.. ما الذي تشعرين به؟
نظرت إليه بعيون فاقدة للحياة:
أعصابي لم تعد تحتمل أي شيء.. كل شيء في الدنيا.. كل الأحداث اليومية أصبحت توترني وتثير عصبيتي جدا.. لم أعد أستمتع بأي شيء كنت أحبه من قبل.. حتى أحلامي أصبحت كوابيس مزعجة.. يدخل الليل فأخاف أن أنام حتى لا أرى في الأحلام ما يرعبني.. أحيانا عندما أحلم.. لا أعرف الحد الفاصل بين الحلم واليقظة.. حتى إنني أرى أحداثا كثيرة في الحلم كأنها حقيقة.. وكأنني أحيا حياتين، واحدة في اليقظة وواحدة في المنام.. حتى إنني أكمل أحداث حياتي التي أراها في المنام كل ليلة، كأنها مسلسل مستمر أرى تكملته كل ليلة.
تنهدت ونظرت إلى زوجها وأكملت حديثها قائلة:
لا أحد يشعر بما أعانيه من ألم كل ليلة عندما أدخل لأنام.. الرعب يملؤني، أخاف أن أرى كابوسا آخر.. أعصابي لم تعد تحتمل.
كتب الطبيب في دفتره كلمات لم تتبينها ثم التفت إليها وسألها:
هل يمكن أن تخبريني عن أحلامك المزعجة؟.. أحكي لي إحداها.
نظرت إلى زوجها بخوف واحتراس وقالت ببعض التردد:
أنا.. منذ فترة طويلة جدا.. ربما منذ أن كنت في المرحلة الإعدادية.. أرى شخصا ما في أحلامي.
سكتت وهي تنظر إلى زوجها مرة أخرى ثم أضافت كأنها قررت أن تزيح من فوق كتفيها حملا ثقيلا:
أرى نفس الشخص.. ليس كل ليلة، ولكن على فترات متباعدة.. لكنه معي دائما.
صمتت فترة من الوقت بينما أطرق زوجها ناظراً إلى أسفل كأنه يعتذر للطبيب عما سيسمع بعد ذلك.
أضافت:
إنه شخص أراه منذ أن كان عمري ثلاثة عشر عاما.. أو ربما هذه هي الفترة التي بدأـ أعرف فيها أن هناك شيئاً فوق العادي يحدث لي.. كنت أعتقد أن كل الناس لديهم هذه الصفة، حتى صارحت زوجي بها منذ عدة سنوات، لكنه نفى أن يكون لديه مثل هذه الأحلام.
قال الطبيب:
أرجو أن توضحي لي أكثر، ماذا تعنين بقولك شخصا.. هل هو شخص تعرفينه.. أحد أقاربك مثلا أم أنه من صنع خيالك؟
قالت:
لا.. إنه شخص غير موجود في حياتي.. أنا أراه فقط في أحلامي.. يأتيني كل فترة.. لا أعرف له موعدا ثابتا.. يأتيني عندما أكون سعيدة وعندما أكون حزينة وعندما تكون حالتي النفسية مستقرة.. ليس له وقت معين.. مجرد أنه يأتيني ليقول لي أشياء معينة.
قال الطبيب:
ما هذه الأشياء؟
قالت:
عندما أكون مهمومة بأمر ما مثلا.. فإنه يأتيني ليساعدني بأحد الحلول التي تبدو مفيدة لهذا الأمر.. عندما أرى شيئاً ما في أحلامي غامضاً لا أفهمه.. أجده إلى جواري يشرح لي معنى الحلم.. عندما أكون خائفة من شيء ما.. يأتيني.. ليهدئ من خوفي ويزيل عني التوتر.. في أثناء امتحاناتي كان يأتيني مسبقا ليبشرني بأني قد نجحت.. بل وأحيانا كان يحدد لي درجاتي قبل حتى أن أدخل الامتحان.. أحيانا كنت اسمع صوته في أذني يمليني إجابات بعض الأسئلة التي سهرت أذاكرها لكني أنساها من خوفي من الامتحان.. أحيانا أخرى كنت أجد في ذهني فكرة ما تلح علي كي أكتبها لعدة ليال، وعندما مسك بقلمي أجده يمليني الكلمات.. فأكتب بسهولة وسرعة كأني أنقل ما أكتب من كتاب مفتوح.. أحيانا كنت أرغب في فعل شيء ما بشدة، لكني لا أستطيع فعله، فكان يطلب مني أن أفعل شيئاً له في مقابل أن ينفذ لي ما أريد.
قاطعها الطبيب قائلا:
وضحي لي أكثر ماذا يطلب منك ومقابل ماذا؟
قالت:
مثلا.. كان لدينا منذ نحو عام ستارة على إحدى النوافذ وكانت دائما ما تقع بدون أي سبب. وكنت أتعب عندما أعيد تركيبها.. فطلبت منه أن يثبتها لي بعد أن قمت بتركيبها.. فطلب مني طلبا بسيطا للغاية.. أن أغني له إحدى الأغنيات التي أرددها دائما لنفسي وأنا أقوم بشغل المنزل.. وهكذا أمور كثيرة، كنت أطلب مساعدته فيها في مقابل بعض الطلبات البسيطة.
قال لها الطبيب:
وماذا تعتقدين حول طبيعة هذا الشخص.. هل هو ذكري؟ شخص عزيز افترقت عنه مثلا أم ما هو رأيك؟
قالت بدهشة:
الأمر واضح يا دكتور إنه أحد الجن!
نظر إلهيا زوجها وقد بدت على وجهه علامات الشك في قواها العقلية!
قال لها الطبيب:
ما علاقة الجن بما تقولين؟
قالت:
ألم تقرأ عن موضوع علاقة الجن بالإنسان من قبل؟ لقد بدأت القراءة في هذا الموضوع منذ زمن طويل جداً.. عندما أدركت الهبة التي من الله علي بها.. وعرفت أشياء كثيرة عن هذا الموضوع.. إذا أردت.. أستطيع أن أقول كل موجزاً عن هذا الأمر؟
رد الطبيب:
طبعا أريد أن أسمع كل ما لديك عن هذا الموضوع.
أخذت نفسا عميقا ثم قالت:
حسنا.. إن الجن يعيش معنا في كل مكان.. في منازلنا المهجورة والتي تعيش فيها وفي الجبال بل والبحار أيضاً. يرانا ولا نراه، وهذا موجود في القرآن وكل الكتب السماوية.. وهو ينقسم إلى نوعين، جن مسلم يؤمن بأحد الأديان السماوية مثل اليهودية أو المسيحية أو الإسلام، وجن كافر لا يؤمن بشيء وهؤلاء هم المردة والشياطين.. ونحن نعرف من السنة أن الإنسان يمكن أن يتحكم في نوع الجن الذي يحيا معه في منزله.. فمثلا إذا ذكرنا اسم الله عند فتح باب المنزل.. فإن الجن المسلم فقط هو الذي يدخل أما الكافر فإنه يهرب.. ولهذا يجب أن نسلم على أهل المنزل عند الدخول.. حتى لو كان المنزل خاليا من الإنس.. لأننا نعرف جيداً أن هناك من يسكن فيه معنا.. أيضاً عندما نسمى الله عند بداية الطعام فإن الجن المسلم فقط هو الذي يجلس معنا للطعام.. أما الكافر فإنه يهرب من الطعام الذي ذكر اسم الله عليه، وهذا كله ثابت من حديث للرسول صلى الله عليه وسلم.
هناك أيضاً حقيقة معروفة.. إن الجن يعمر أكثر من الإنسان بآلاف السنين.. ولأن الجن يرانا ولا نراه، فإنه أحيانا يختار أشخاصا ًمعينين للارتباط بهم، بمعنى مؤاخاتهم.. وهذا يكون بصفة وراثية.. أي أن عائلات بأكملها من الجن تؤاخي عائلات من الإنس.. على مدى سنوات العمر ويتم ذلك برغبة الجن فقط. فيبدءون في دخول عالم الإنس عن طريق الأحلام وباختيار الجن أيضاً.. يمكن أن تتطور العلاقة بينهما حتى تصل إلى مرحلة من الثقة.. تتيح للجن أن يتجسد للإنس.. فالجن مخلوق من مارج من نار أي من الدخان الساخن الذي يعلو النار.. ولكنه ذلك التجسد به ضرر كبير على الجن.. لأن الجن عندما يتجسد فإنه يفقد الميزة التي تميزه عن الإنس وهي الاختفاء.. فلا يستطيع الإنس أن يؤذيه لكنه عندما يتجسد يجري عليه ما يجري على الجسد الذي دخله.. فيمكن أن يمرض ويموت أو يقتل في أي لحظة مثلما يحدث للإنس.. ولهذا يجب أن تكون ثقة الجن في الإنس كبيرة بدرجة تطغي على خطر تجسده.. وهذا يكون في أغلب الأحيان عندما يتزوج الجن من الإنس وتكون لمدة محددة.. كل ليلة مثلا أو كل عدة ليال وتتوارث الأجيال المختلفة جيلا بعد جيل هذه المنة التي يعطيها الله تعالى لمن يشاء.. وهذا ما حدث معي.. فعائلتي معروف عنها أن هناك من يساعدها من الجن.. ليس معنى هذا أن هناك سحرة أو دجالين في العائلة بل هي عائلة بسيطة. ولكن لديها هذه الهبة منذ زمن طويل يتوارثها من يراه الجن أهلا لذلك.. فأنا مثلا الوحيدة بين إخوتي التي لديها هذه الهبة.. كذلك لدي أحد أبنائي هذه الهبة.. وقد حكى لي عن الشخص الذي يأتيه أحيان.
نظر إليها الطبيب في ارتياب وقال لها:
وماذا يستفيد الجن والإنس من هذه العلاقة المزدوجة؟ هل قرأت في هذا أيضاً؟
قالت:
إنها علاقة تكاملية، فالجن يعيش مع الإنس في نفس المسكن.. يأكل من طعامه.. وهكذا أما الإنس فأحيانا يحل له الجن بعض مشكلاته البسيطة، وهذا كله يتوقف على رغبة الجن في تطوير هذه العلاقة.
قال الطبيب:
وهل وصلت العلاقة بينهما إلى مرحلة التجسد؟
قالت:
لا لقد طلبت منه ذلك، لكنه قال إنني لن أتحكم لهذا الموقف.
سألها الطبيب:حح
وما طبيعة العلاقة بينكما؟ هل طلب منك أن يكون زوجا لك؟
ردت:
نعم لقد طلب أن يكون مثل زوجي لكني رفضت وأخبرته أنني أحب زوجي ولا أتحمل أن أكون لشخص غيره. فزواج الجن من الإنس يكون مرهقا للإنس أكثر، نتيجة اختلاف طبيعة جسد كل منهما عن الأخر، ويؤدي غالبا إلى إيذاء الإنس.
قال الطبيب:
وما المشكلة إذا كنت قد تعودت على وجوده في حياتك منذ فترة طويلة.. ما الذي زاد على علاقتكما فسبب لك مشكلة؟!
قالت:
في الفترة الأخيرة.. توترت العلاقة بيني وبين زوجي نتيجة وجود مشاكل في عمله أثرت على علاقته مع الجميع.. ثم فوجئت بأن هذا الشخص يحاول أن يخرجني مما أنا فيه.. فأخذني معه ذات ليلة في الحلم إلى مدينته.. التي اكتشفت أنها المدينة التي أزورها باستمرار في أحلامي بنفس بيوتها ومحالها وطرقاتها.. وأخذني وعرفني إلى زوجته وتنقلنا في طرقات هذه المدينة.. بل وجعلني أشاهد مدخلها الذي يقع أسفل أحد الكباري القريبة من منزلي.. ذهبت معه عدة مرات في مناسبات مختلفة.. والآن أنا أجد نفسي كل ليلة أحيا فيها معهم كأني واحدة منهم، حتى بدأت أفقد إحساسي بحياتي.. بدأت أجد صعوبة في التفريق بين ما أعيشه في الحلم وما يحدث فعلا في الواقع.. لم يعد يأخذني إلى هناك فهو لا يأتيني كل ليلة، لأن اليوم عندهم يختلف عن يومنا.. فهو ليس 24 ساعة مثلنا، بل يوم واحد من أيامهم ربما يساوي عدة شهور من أيامنا.. وأعتقد أن هذا هو السبب في امتداد أعمارهم كل هذا القدر.. لقد بدأت أهرب من واقع مشاكل حياتي إلى هناك كل ليلة، مع علمي التام أنه ليس معي.. أريد أن أعود إلى حياتي.. لقد اقترحت على زوجي أن أذهب إلى أحد الشيوخ المشهورين الذين يعالجون بالقرآن.. لكنه لا يعترف بما أنا فيه. إنه يقول أن ما أعانيه مجرد اكتئاب نتيجة ضغوط مشاكل عمله التي تؤثر في عقلي.. إنه لا هيفهم ولا يريد أن يصدق كل ما رويته لك الآن.
قال الطبيب:
هل تستطيعين أن تثبتي أي شيء مما قلته لي الآن؟ إذا استطعت ذلك فسنصدق كلانا ما قلته.
قالت:
لقد قلت لك أن العلاقة تعتمد على إرادة الجن وليس الإنس.. فأنا لم أحضر أحد العفاريت بطريقة شيطانية لآمره بفعل ما أريد.. بل هو يأتيني بكامل إرادته ولا تدخل لي في هذا نهائيا.. وبإجابة صريحة لا.. لا أستطيع أن أثبت لك حرفا واحداً مما قلت إذا كان هو لا يريد ذلك.
قال الطبيب:
ولكن كيف نصدق أن ما هبك هو مس من الجن كما تدعين.. وليس مرضاً نفسيا يجعلك تهربين من الواقع إلى قصة عالم خيالي مثالي بعيد عن مشاكلك الحالية؟
قالت:
إن ما بي ليس مسا من الجس، فالمس يختلف تماما عما أنا فيه المس فيه إيذاء للإنس، وأنا لم أتأذى من وجوده معي يوما.. وقد قلت لك إن هذا الأمر مستمر معي منذ سنوات طويلة.. قبل حتى أن التقي بزوجي وأتزوجه.. كما أن هناك أموراً كثيرة قد حدثت معي لم يكن لها أي تفسير.. غير أن هناك من ينقل لي أخبار أناس أبعد عنهم مئات الكيلومترات.. فأحيانا عندما كان زوجي مسافراً خارج البلاد كنت أشعر بالقلق عليه إذا تأخر في مهاتفتي.. وكنت أذهب إلى النوم وأسأل هذا الشخص عن زوجي.. فكنت أراه في غربته وأرى ما الذي يفعله في تلك اللحظة.. وأعرف أخباره بهذه الطريقة.. وكذلك إذا تأخر أحد أولادي بالخارج ولا أعرف أين ذهب ولا ماذا جرى له.. كنت بعد فترة من القلق أسمع صوت هذا الشخص يهمس في أذني أنه بخير.. وأنه في طريقه إلى المنزل وفعلا.. بعد فترة بسيطة أجده عائداً.. أيضاً قبل زواجي عندما كنت اذهب للبيات عند إحدى عماتي في مدينة أخرى.. ويحدث أي شيء عند والدتي.. كنت أعرفه على الفور حتى إنها تفاجأ عند عودتي بأني عرفت ما جرى عندها دون أن يخبرني أحد بذلك. أيضاً هناك أحداث كثيرة جداً أراها في الواقع وأفاجأ بأنني قد عشتها من قبل في الحلم فأعرف مسبقا ما سيحدث في تلك اللحظة، وهذا ما يراه أبني في مرحلته العمرية الحالية.. وهو ما بدأت أنا برؤيته عندما بدأ هو في دخول حياتي.. وعمري يقترب من عمر ابني الآن.
نظر إلهيا الطبيب وقال:
ألا تخشين من رد فعله إذا عرف أنك قد بحت بسره إلى زوجك ولي؟
قالت:
لا.. إنه لن يغضب.. لأني لم أبح بشيء غير معروف.. كل ما قلته الآن موجود في كتب.. كتبها كبار علماء الإسلام.. وليس هناك من ضرر في أن قول ذلك لأحد.
سكت الطبيب ثم نظر إلى زوجها كأنه يريد التأكد من حالتها العقلية في نظرات زوجها لها.. ثم قال لهما:
إن ما تعانيه.. مرض نفسي معروف بالذهان.. وهو انفصال الشخص عن الواقع.. وحياته في عالم خاص من صنع خياله.. وهو مرض مزمن يجب أن يؤخذ له علاج مدى الحياة.. حتى لا تتفاقم الحالة أكثر من ذلك وينفصل المريض كليا عن واقعه.. وسوف أكتب لك بعض الأدوية النفسية التي ستخفف من حدة حالتك، لكن يجب أن تستمري على تناول العلاج على الأقل ستة أشهر حتى نعرف نتيجته.. ويجب أن أحذرك.. أن العلاج له أثار جانبيه، أهمها زيادة فترات النوم.. وعدم القدرة على التفكير أو الإبداع.. فلن تستطيع مثلا الكتابة أو عمل أي شيء اعتدت عليه.. لكن سوف تنتهي كل هذه الوساوس من عقلك.. وسوف تتحسن حالتك تدريجيا ولكن ببطء، ويجب أن أحذرك منعدم الانتظام في أخذ الدواء بالجرعة التي سأكتبها لك.. لأن ذلك قد يؤدي إلى تفاقم الحالة حتى تصل إلى حد الرغبة في الموت.. أو حتى محاولة الانتحار.. وسوف أراك مرة أخرى بعد ثلاثة أشهر حتى نرى نتيجة تعاطيك هذا الدواء.
انهمك الطبيب في كتابة الدواء لها، بينما نظرت هي إلى زوجها كأنها تسأله التدخل لوقف هذه المهزلة.. لكنه أطرق ناظراً إلى الأرض.. فلم تجد مفراً من أن تتكلم.. قالت بصوت أقرب للشجار:
لكني.. لا أريد أن أنام فترات طويلة.. إن لدي أطفالا صغاراً.. أريد رعايتهم.. كما أني أعمل كاتبة في إحدى الصحف.. ورأسمالي هو تفكيري وكتاباتي.. لا يمكن أن أدمر كل هذا بالدواء.. أرجو أن تصف لي أي نوع من الأدوية لا ينتج عنه هذه الآثار الجانبية السيئة.
رد الطبيب:
للأسف هذا هو الدواء الوحيد لحالتك.
نظرت إلى زوجها بعيون تملؤها الدموع.. وتناولت الروشتة من يد الطبيب بيد ترتجف من التوتر.. وخرجت مع زوجها وهي تفكر في عدم أخذ هذا الدوام مهما ساءت حالتها النفسية.
دق الطبيب الجرس للمساعد.. وسأله عندما دخل عن عدد الكشوفات المتبقية.. فقال له إن هذا كان آخر كشف.. فقام الطبيب وغير ملابسه وارتدى معطفا ثقيلا وتوجه إلى الشارع.. استقل سيارته وقادها متوجها إلى منزله.. وهو يفكر بعمق في كل ما قالته تلك السيدة المسكينة.. ثم نظر إلى ساعته.. فوجد أنه قد تأخر عن موعده اليومي معها!! وأنها سوف تغضب مرة أخرى من ذلك.. وسيكون عليه أن يعتذر.. ويعتذر.. ويقضي الليل بطوله ساهراً معها.. محاولا إرضاءها.. حتى يطلع عليه الصبح وهو لم يأخذ كفايته من النوم والراحة.. ليذهب إلى عمله وهو متعب.. يتثاءب ويبدو عليه الإرهاق الشديد.. أحس ساعتها برغبة في عدم العودة إلى منزله.. برغبة في مواصلة القيادة إلى أبعد مكان يمكن أن يوصله إليه الوقود المتبقي في خزان سيارته.. لكنه يعرف أنه لن يستطيع الابتعاد عنها أبداً.. وأنها سوف تعرف مكانه لا محالة.. وساعتها.. قد تحاول الانتقام منه.. وتذكر اضطرابه أول مرة رآها فيها.. منذ سنوات طويلة جداً.. كانت أجمل من رأى في حياته.. كل ما كان يريد أن يمتلك في المرأة.. حيويتها وتجددها وشبابها الدائم.. كل ما كان يريد أن يمتلك في المرأة.. حيويتها وتجددها وشبابها الدائم.. كل هذا أعطته إياه بدون مقابل.. أسعدته بنفس القدر الذي أرهقته به.. استغنى بها عن كل النساء.. عن كل البشر.. عن كل الحياة.. كان ذلك منذ عشرات السنين لكنه الآن لم يعد قادراً على مجاراتها في شبابها الدائم وبات يخشى أن تنتهي حياته على يديها.
أخذ نفسا عميقا من هواء الليل خارج منزله.. ثم مد يده بهدوء وفتح باب المنزل.. وعندما دخل وأغلق الباب.. وأضاء النور.. جاءه صوتها.. جميلا حالما رقيقا لكن حازما كما اعتاده.. قالت:
كل ليلة تأخير.. ألا تعرف أنني أنتظرك على أحر من الجمر.. يا حبيبي..
التفت ببطء ليواجهها. وجدها تجلس على الأريكة المفضلة لها.. تنظر إليه.. بحب وشوق ورغبة.. كانت قطة كبيرة بيضاء اللون ذات عيون زرقاء واسعة كأنها بحر نقي لا يلوثه شيء.
نظر إليها وابتسم قائلا:
آسف يا حبيبتي.. أنت تعرفين ضغط العمل وتعرفين أيضاً حبي لك.. ورغبتي في العودة إليك مسرعا.. ورغبتي في تمضية كل الوقت معك لكني مضطر إلى العمل.. لأن حياتنا تختلف عن حياتكم.. فلابد لنا من العمل لنعيش.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا