من روائع القصص العالمية للكاتبة حصة إبراهيم العمار كفاح المغتربين

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-09-21

كفاح المغتربين 

للكاتب الأمريكي: /w. hnri O. Henry

لفظت حافلة النقل العام مجدداً السيد (لورنس هولكمب) في شارعٍ معين بأحد الأحياء الفقيرة النائية. ولورنس هذا هو رجل أعمال وسيم موسر في الأربعين من العمر، وذو مستوى اجتماعي وعلاقات وطيدة بعلية القوم وصفوة المجتمع كانت مثار حسد الكثير، فأما مقر سكناه الوثير في الضواحي فيبعد عن المكان الذي نزل فيه بحوالي خمسة أميال ... وبدا جلياً أن تردده على ذلك الموقع قد كثر في الآونة الأخيرة.

وغمز جابي التذاكر بالحافلة راكباً يعرفه وهو يشيع خيال (لورنس) المترجل على عجل: أصبح ذلك شيئاً مألوفاً!

وشق (لورنس) طريقه ونشوة جذلى تخامر فؤاده، ثم عبر إلى شارع جانبي تراكمت فيه علب المرطبات الفارغة وأجساد مهزولة لصغار عابثين، ثم ... توقف قبالة كوخ صغير بائس رصفت أرضية فنائه الخارجي المسور ببعض الحجارة، فيما تناثرت حوله شجيرات بدت كما لو أنها قد ضلت الطريق.

لدى الباب كانت سيدة قوية البنية، ... في منتصف العمر تغسل بعض الملابس، وانفرجت شفتاها عن ابتسامة من رأى شخصاً يعرفه حينما وقعت عيناها على (لورنس).

- طاب مساؤك سيد (هولكمب) ستجد كاتي في الداخل سيدي. 

- وهل تحدثت إليها نيابة عني - سألها بصوت خفيض - هل تمكنت من إقناعها بالقبول كما وعدتني؟

- أجل ... فعلت لكنك تعرف طبع البنات ... كلما زدت في تدليلهن والتحبب إليهن ما زادهن ذلك إلا عتواً ونفوراً - لا أظنها تقبل إلا إذا طلبت أنت ذلك منها شخصياً، وآمل أن تفعل فقد أكدت لها أنها لن تجد أفضل منك. إنها فتاة رائعة وهي تجيد صنع كل شيء، تأكد سيدي بأنها ربة بيت ممتازة ... لا عيب فيها سوى ... حبها للحفلات والسهرات والرقص على أن ذلك أمر طبيعي عطفاً على ما تتمتع به من جمال وشباب ... اعرض الأمر ثانية عليها علها توافق إلا إذا كان ذلك الوغد الملقب ب (داني كونلان) قد تمكن من إقناعها برفض قاطع!

وامتقع لون (لورنس) وزم شفتيه لوهلة قبل أن يقول: 

- سمعت بهذا الفتى قبلاً - لماذا يتدخل؟ أهناك علاقة تربطه بكاتي؟ أهي مهتمة به؟

وأطلقت السيدة (فلين) تنهيدة حرة شبيهة قاطرة بخارية ثم هوت بكفها على ماء الغسيل، فما كان من الزبد المذعور إلا أن طار فجأة مغرقاً لباس (لورانس) رغم أن المسكين كان يبعد عنها بمسافة لا تقل عن ستة أقدام. 

- لا تسلني عما يعتمل في فؤاد الفتاة، ولن أكذب عليك - ما المسؤول سيدي - بأعلم من السائل!

ومضى (لورنس) إلى الداخل ... فبصر ب (كاتي فلين) وقد كشفت عن ذراعين بضتين ... كانت منهمكة في كيِّ فستان من (الموسلين) وشعر الرجل بأن ذاك النقد الجارح الذي كيل له جزاء انحداره إلى نجم مجرة أدنى منه قد انحسر كثيراً إبان مرأى الفتاة. كان جمالها آسراً ... أخّاذاً ... عينان أيرلنديتان بلون الغسق الثمل بأحلام المساء، وشعر كشلال لا يكف عن الانهمار، وحاجبان يعكسان عواطف وانفعالات صاحبتهما، وقوام ممشوق فتيّ قوي يضج بالحياة ... كانت أهلاً لكل جهد يبذل للظفر بها!

وسار حتى حاذها ثم شرع يتأملها وهي تكوي بحماس وساعداها البضان يعملان بحركة دؤوب وقد وشاهما جلد ناعم كالحرير.

- كاتي! - بادرها وصوته يخفي رنة قلق جهد أن يحتويها فيض حنانه وحنينه - جئت لأسمع ردّك - لا داعي لتكرار ما قيل آنفاً على أني واثق أنك تدركين جدية طلبي، ثقي بأنك ستجدين هناك كل ما تحملين به من وسائل الراحة، قولي نعم (كاتي) وسأكون أسعد رجل اليوم في هذه المدينة إن تزوجتني.

ووضعت (كاتي) آلة الكيّ جانباً ... ثم ... أراحت مرفقيها على لوح الكيّ، فيما تدرجت العواطف والانفعالات في عينيها الواسعتين اللامعتين بزرقة المحيطات البعيدة، مزاوجة بين نشوة المرح وتأملية الأحزان السرمدية. 

- أواّه سيد (هولكمب) لا أدري - في حقيقة الأمر - ما أقول أُدرك مدى لطفك وبأنك ستوفر لي كل شيء ... لكن (داني) يعارض ذلك بشدة.

"داني" ثانية؟! قال (لورنس هولكمب) في نفسه وهو يذرع المكان مقطباً جبينه: مَنْ هو هذا الملقب ب (داني) يا (كاتي)؟

- سألها - ... كلما أوشكت على الخروج بموافقة منك تدخل ليفسد كل شيء - أيحلو له أن يراك في وضعية مزرية كهذه؟ لم تصغين لما يقول؟ 

- إنه يريدني! ردت (كاتي) في رنة ... طفل عابث مدلل.

- لكني أريدك كذلك! قال (لورنس) بثقة وكبرياء - إن تمكنت من مقابلة هذا الفتى المقنع فسوف أحسم معه الأمر.

- إنه بطل الوزن المتوسط في المصارعة في هذه المدينة - قالت (كاتي) في عدائية طفولية نوعاً.

- حقاً؟ هذا لا يخيفني يا (كاتي) إني واثق أني سأهزمه بعد جولات قليلة إن كنت الجائزة ... رغم عدم إلمامي بفن المصارعة.

- مهلاً ... إنه قادم - قالت (كاتي) بعينين متسعتين رهبة وتخوفاً! ورنا (هولكمب) صوب الباب فرأى شاباً يدخل. كان يمشى الهوينا ومسحة من ضراوة تكسر ملامحه. وكان يرتدي قبعة أمالها على إحدى عينيه وسار حتى وصل إلى غريمه وفتاته:

- فأنت إذاً تجد في طلب فتاتي ... أليس كذلك - قال بصوت أجش ألغمه الغضب - لا أحب ذلك، لقد قلت لها ذلك ويجب أن تدرك بدورك حقيقة ما أعنيه ... أتفهم ... بإمكاني أن ألقى بك أرضاً مقابل عشرة سنتات.

- هيا سيد (كونلان) قال (لورنس هولكمب) محاولاً تفادي معركة طاحنة.

- أصغ إلى صوت العقل - كن عادلاً ودع (كاتي) تختار من تريد. لولا تدخلك لكانت جنبات بيتي تضمها منذ زمن.

- مقابل خمسة سنتيمات - قال كونان في تحد شرع يتناذر ككرة من الجليد المتدحرج - أطرحك أرضاً.

وتراءى لعيني (لورنس) حلاً أخيراً شع كأمل ضئيل ... كشمعة في مهب الريح ... ما كان أمامه سواه لإزالة ذلك العائق البشري من طريقه:

- قيل لي - قال بهدوء وثبات - بأنك مصارع - استشف من ذلك أن عقلك لا يستدني سوى قوة الجسد كفيصل لحل المشاكل ... لست مصارعاً (كونان) على أني مستعد لمنازلتك حتى النهاية خلال الدقائق الثلاث القادمة كيما نحسم الأمر وستكون (كاتي) جائزة للرابح منا. اتفقنا؟

وشعت عينا (داني) الزرقاوان ببريق الإعجاب:

- لا بأس بك - أنت رجل شجاع. ما كنت أظن أنك من تلك الفئة - واقتراحك عادل ... سوف أتقيد بالشروط الموضوعة للنزال، هيا ولنحسم الأمر.

وحاولت (كاتي) أن تتدخل على أن إشارة من (داني) أسكتتها واتجه و(لورنس) إلى مكان لا يسترعي الانتباه، فيما كان الليل يزحف على المدينة بجحافله، وخلع الرجلان قبعتيهما وكذا معطفيهما واستعدا لمعركة غريبة جائزتها الظفر بابنة غسالة آيرلندية!

ولم تدم المعركة بينهما طويلاً، ولو أنها استمرت لخسرها (لورنس) إذ إن لياقته وخبرته في مجال المصارعة لم تكن لتسعفه فحمد الله في سره أن هيأ له فوزاً سريعاً أعاد جله - بعد توفيق الله - إلى عنصر المفاجأة الذي باغت به خصمه، كما وأن انغماس الآخر قبل مجيئه في احتساء أم الكبائر قد أثر سلباً على أعصابه وقدرته على الحكم في الأمور، وعلاوة على ذلك فإن الرغبة في ذلك الزواج - كما يقال - تصنع المعجزات - بذلك حدث (لورنس نفسه) وهو يستعيد بسعادة تلك اللحظة التي غفل خصمه فيها عن حماية ذقنه، فما كان منه حين لمحها بارزة أمامه إلا أن سدد لها لكمة خطافية طرحت بطل المصارعة السابق أرضاً فجثم فوقه وأنهى العد القانوني للعبة.

ونهض (داني) مرتجفاً حتى استقام على أنه أثبت أنه كان يتحلى بروح رياضية نادرة.

- أنت شجاع ... على أنه لو كان بنظام الجولات لاختلفت النتيجة ... باتت (كاتي من نصيبك ... أنا عادل كما ترى.

وعادا إلى الكوخ:

- انتهى الأمر - قال (لورنس) لن يتدخل السيد (كونلان), ما عاد لديه أي اعتراض.

- أجل - قال (داني) مؤكداً تصريح خصمه - قضى الأمر الذي كنا فيه نختصم.

ونظرت (كاتي) إليهما فلمحت آثار المعركة جلية على وجه (داني) عين مزرقة وشفة دامية وكانت طيبة القلب عاقلة متزنة، فسارعت إلى مواساة المغلوب قبل تهنئة الغالب، وانتصب (هولكمب) بقامته المديدة الأبية مبتسماً غير مبال بما أبدته حيال الآخر من عطف ورقة مشاعر ... ما تسللت إلى قلبه ذرة غيرة.

- غداً - قال ل (كاتي) وعيناه تشعان ببريق الكبرياء: يضمنا عش الزوجية!

- غداً - إن شئت - جاءه ردها.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا