فيلسوف يحاكمه عامة الشعب
قدمت حكومة أثينا المعلم والفيلسوف اليوناني سقراط الذي تجاوز السبعين ربيعاً إلى المحاكمة بسبب أساليبه التدريسية التي كان يتبعها في تعليم شباب أثينا؛ فقد كان سقراط يحث طلابه على طرح تساؤلات بشأن ما كان يدرس لهم ويدفعهم نحو التفكير المستقل، وهو أمر كان يرفضه المسؤولون الحكوميون إلى حد كبير إبان تلك الحقبة.
خلال فترة تعليمه لشباب أثينا والتي استمرت لعقود من الزمن لم يتهم أحد سقراط بإفساد شباب أثينا من قبل، لماذا إذن لم يوجه له هذا الاتهام إلا في عام 339 قبل الميلاد تحديداً، ومن كان وراءه؟
خاضت الديموقراطية الأثينية فترات عصيبة لا سيما في السنوات الأربع التي سبقت اتهام سقراط ومحاكمته: خلال فترة أربعة أشهر ما بين 10 و411 قبل الميلاد، وفي فترة أطول ما بين 403 و404 قبل الميلاد.
أثناء هذين الإطارين الزمنيين أطاحت مجموعة من الرجال عُرفت باسم "الطغاة الثلاثين" بالديموقراطية الأثينية، حيث أحدثت انقلاباً ضد الديموقراطية بالتعاون مع العدو الإسبارطي لتتمكن في نهاية الأمر من السيطرة على حكومة المدينة واستلام زمام الحكم فيها. كان اثنان من أهم قادة هذه الحركة - كريتياس وألكيبياديس تلميذين لسقراط. وكان كريتياس رجلاً قاسياً وشجعاً. حيث وصفه أي. ف. ستون في كتابه (محاكمة سقراط) بأنه "كان النسخة الأولى لروبسبير. فقد أصر على إعادة تشكيل المدينة بقالب مناهض للديموقراطية مهما كلفه ذلك من خسائر بشرية".
أدت هذه الهجمات التي شنها "الطغاة الثلاثون" ضد الديموقراطية الأثينية وما نتج عنها من فظائع إلى جعل الأثينيين يعيدون تقييم رأيهم بشأن سقراط وأفكاره الفلسفية. فتلك تعاليمه ومعتقداته التي بدت غير ضارة من قبل لم تعد كذلك بعد الآن، وبدا حينها أن مجموعة الطغاة هذه ما هي إلا وليدة تساؤلات سقراط اللانهائية ومنطقه الجامد - لا سيما أن سقراط كان معروفا بأفكاره المعادية للديموقراطية - إلا أن ذلك كان محض افتراض خاطئ.
باتت المدينة تنظر إلى سقراط كعدو للديموقراطية والإنسان العادي، ومضلل لعقول الشباب أكثر من كونه مجرد رجل هرم غريب الأطوار. وممن ألقوا عليه هذه التهم الشاعر مليتس الذي مثل الادعاء في محاكمة سقراط، إلى جانب أنيتس وليقون.
استدعى المدعي العام مليتس سقراط لحضور جلسة استماع أولية لتحديد ما إذا كان يجب اتهامه بارتكاب الجرائم المذكورة، وحالما قرر القضاء الشروع في تنفيذ إجراءات قانونية ضد سقراط صدرت لائحة اتهام بحقه فوراً. رغم أنه قد كُتب الضياع لوثيقة الاتهام الفعلية بين طيات التاريخ، إلا أنها كانت ما تزال متاحة في القرن الثاني بعد الميلاد حينما نقل إيجونيس ليرشاس وثيقة الاتهام على النحو الآتي:
"قُدمت لائحة الاتهام هذه والمرفقة بإقرار مشفوع بقسم، من مليتس بن مليتس من قبيلة بيثوس، ضد سقراط بن سوفرونيسكوس من قبيلة أنتيوخس، والتي يتهمها فيه برفضه الاعتراف بالإله المعترف به من قبل الدولة، والترويج لآلهة جديدة، وإفساد عقول شباب أثينا، والعقوبة المطلوبة بحقه هي الإعدام".
نُقلت محاكمة سقراط على لسان معاصريه الفيلسوف أفلاطون والمؤرخ زينوفون؛ إذ كان أفلاطون تلميذاً لسقراط، وكان يبلغ من العمر سبعة وعشرين عاماً حينما شهد وقائع المحاكمة من بين جمهور المتفرجين.
حوكم سقراط علناً أمام هيئة من المحلفين بلغ عددها خمسمئة عضو من المواطنين العاديين. والذين كانوا جميعهم من رجال أثينا؛ فقد كانت النساء لا يشاركن في هذا النوع من الإجراءات القانونية.
ويتبين لنا في محاورة "مينون" التي كتبها أفلاطون على لسان معلمه سقراط أن أنيتوس (أحد متهمي سقراط) كان يكن بعض العداء لسقراط. حيث أشار إليه: "واضح لي يا سقراط أنه من السهل عليك قول السوء عن الناس، ولهذا فإني أنصحك بالتالي: إذا أردت إطاعتي، أن تكون على حذر".
كان سقراط غير راغب في اتباع هذه النصيحة أو أي نصيحة أخرى. بل كان مصراً على الاستمرار في التعبير عن رأيه وتوضيح أسباب معتقداته حتى أثناء محاكمته. ووفقا لما نقله أفلاطون فإن سقراط واصل استخدام أسلوبه التساؤلي والجدلي حتى أثناء استجوابه، فمع أنه كان هو المتهم إلا أنه كان يوجه باستمرار أسئلة إلى مليتس حول التهم المنسوبة إليه.
وفيما مضى من التاريخ كانت هنالك عشرات الروايات التي تصف خطاب الدفاع الذي ألقاه سقراط والذي دام لثلاث ساعات متتالية. لكن جميعها فقدت ولم يتبق سوى ما رصده تلميذاه أفلاطون وزينوفون. رغم أن خطاب الدفاع عُرف كرسالة اعتذار في المؤلفات الضائعة غير أن كلا هاتين الروايتين الناجيتين اتفقتا على أن خطاب سقراط كان ليس دفاعياً أو تبريرياً على الإطلاق؛ فقد أخذ سقراط يخاطب شعب أثينا والمحلفين بلهجة تنم عن التحدي، قائلاً:
"أيها الأثينيون، فإني أكنّ لكم الحب والاحترام. لكتني أوثر طاعة الله على طاعتكم، وطالما أني حي قادر فلن أتوقف عن ممارسة الفلسفة وتدريسها"؛ فقد كان سقراط يأبى طوال محاكمته التراجع عن أفعاله ومعتقداته التي آلت به في نهاية المطاف إلى خوض هذه المشاق.
لقد سارت إجراءات المحاكمة وفق الأسلوب الديموقراطي؛ فلم يكن هناك رئيس محكمة أو قاض يتلقى منه المحلفون الأثينيون توجيهات سير المحاكمة؛ بل كانت بمثابة محكمة شعبية يمثلها عامة الناس، فكان عليهم أن يقرروا بأنفسهم عن طريق التصويت ما إن كان يجب تجريم سقراط أو تبرئته بناءً على فهمهم للقانون ووقائع القضية.
انقسمت هيئة المحلفين في نهاية المداولات إلى فريقين. فمن بين خمسمئة صوت أدلى به المحلفون، صوت مئتان وثمانون محلفاً بتجريم "سقراط"، بينما صوّت المئتان والعشرون الباقون بتبرئته.
وبعد أن قضت هيئة المحلفين بثبوت التهمة على سقراط دخلت المحاكمة في مرحلة تحديد العقوبة المستحقة. فكان على كلا الجانبين (سقراط وهيئة المحلفين) بحسب القانون الأثيني اقتراح نوع العقوبة المناسبة. طالب المدعون بعقوبة الإعدام بينما أخبرهم سقراط أنه يجدر بهم مكافأته وليس معاقبته؛ وذلك لأنه أنفق حياته كلها في تقديم الخير للشعب الأثيني. واقترح أيضاً بنبرة ساخرة منحه وجبات مجانية في إحدى قاعات الطعام الكبرى للمدينة، وهو أمر كانت تفعله الدولة على حسابها للفائزين في الألعاب الأولمبية.
كانت تلك خطوة مفاجئة من سقراط والذي كان بوسعه التماس عقوبة النفي بدلاً من تعمد إثارة سخط المحلفين واستفزازهم، وبالتالي دفع حياته ثمناً لذلك، حيث كان من الممكن التوصل إلى عقوبة النفي كتسوية مقبولة بين جميع الأطراف لاسيما أنه كان هناك تقارب كبير في عدد أصوات إدانة سقراط ضد تبرئته، أو حتى كان بإمكانه ظفر العفو إن أبدى سلوكاً مرضياً تجاه هيئة القضاء، لكن لربما أقدم سقراط على هذا التصرف لكونه مستعداً لإنهاء حياته؛ فالموت كما يقول ليس ما يخشاه.
عندما ضُغط عليه لتقديم عقاب حقيقي أمام هيئة المحلفين؛ اقترح سقراط دفع غرامة مالية تعادل تقريباً خمس قيمة ثروته. وأضاف أفلاطون وآخرون على مقدار الغرامة في محاولة لإقناع المحلفين، إلا أنها بدت لهم عقوبة غير كافية لمجرم لا تظهر عليه مشاعر الندم أو التوبة.
وعن طريق الاقتراع أيضاً صوت ثلاثمئة وستون محلفاً لعقوبة الإعدام، بينما صوت مئة وأربعون محلفاً لعقوبة الغرامة المالية. تتمثل عقوبة الإعدام بموجب القانون الأثيني في هذا النوع من القضايا في إرغام المتهم على شرب كأس من شراب الشوكران السام.
ينسب أفلاطون في محاورة "الدفاع" إلى سقراط هذه الكلمات التي نطق بها بينما كانوا يقتادونه إلى السجن وهو شاعر بهلاكه ودنو أجله:
"لقد أزفت ساعة الرحيل، وسينصرف كل منا إلى سبيله، فأنا إلى الموت، وأنتم إلى الحياة، والله وحده عليم بأيهما خير".
قضى سقراط ساعاته الأخيرة في أحد السجون الأثينية، والذي ما تزال آثاره موجودة حتى عصرنا الحالي. وعندما حل وقت تنفيذ العقوبة أخذ سقراط يتجرع شراب الشوكران بهدوء ليقتله السم ببطء شديد مسببا له شللاً مؤلماً وتدريجياً في جميع أجزاء جسده.
حينما نفكر في سلوك سقراط المستفز أمام هيئة المحلفين والذي أدى إلى إثارة غضبهم وحصوله على عقوبة الإعدام في نهاية المطاف، يتبادر إلى أذهاننا سؤال ما إن كان سقراط يعتقد أنه كان عليه تجرع الشوكران وفاءً لمهمته الإصلاحية في الحياة وهي عدم التوقف عن تعليم مبادئه وأفكاره الفلسفية التي تدعو إلى التسلح بالفضيلة والحكمة ما دام حياً. وبقدر ما يعرفه المؤرخون فإن محاكمة سقراط التاريخية خلفت أول شهيد لحرية الفكر والتعبير.
استطاع الرسام الفرنسي جاك لويس دافيد تخيل مشهد موت سقراط وهو يتجرع الشوكران وتلاميذه يشهقون بالبكاء حوله. وجسّد ذلك في لوحة زيتية حملت اسم "موت سقراط" عرضها ضمن مجموعة أعمال كلاسيكية أخرى في عام 1887. ويمتلكها حالياً متحف المتروبوليتان للفنون بمدينة نيويورك.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا