لُج 3 للكاتب أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-08-10

نصف زعنفة  وقلبٌ كامل 

شاب يدخل منزله الصغير نهاية النهار.. منزل متواضع على أحد الشواطئ.. أمه العجوز ترقد على حصيرة افترشتها على الأرض.. تنتبه لدخول ابنها فتنهض وتقول: (كوفان)؟ هل هذا أنت؟

كوفان وهو يجلس أمام أمه العجوز: نعم يا أمي

الأم وهي تمسح على خد ابنها: ما بك؟ أرى الحزن في عينيك ونبرة كلامك

كوفان وهو يضع يده على يد أمه ويبتسم بحزن: أنا بخير يا أمي

الأم: لست بخير

كوفان: صدقيني أنا بخير

الأم وهي تبتسم: لا تجادل أماً في من حملت وأرضعت..

كوفان بوجه حزين: ...

الأم: ما الأمر؟ ألم تجد عملاً اليوم أيضاً؟

كوفان وهو ينهض ويتوجه لأحد أركان المنزل: لا.. ويبدو أني لن أجد عملاً أبداً

الأم: أخوك الصغير رحل مع البحارة هذا الصباح وقد وجد عملاً مع القبطان

كوفان: وهو يبحث بين أواني المنزل: لكنه لا يجيد السباحة جيداً.. كيف سمحتِ له بالخروج لعرض البحر؟

الأم: لقمة العيش يا ابني

كوفان يستمر في تقليب الأواني بصمت..

الأم وهي ترفع نظرها وتحدق بابنها: لا يوجد شيء لتأكله يا بني (كوفان) وهو لا يزال يبحث بين الأواني الفارغة: هل أكلتِ أنتِ؟

الأم وهي تستلقي على الحصيرة وتتوسد كفها وعينها على ابنها: نعم

كوفان وهو يدير نظره نحو أمه: لا تكذبي يا أمي فالزاد لم يدخل منزلنا منذ أيام

الأم تبتسم بصمت..

كوفان: أين شبكة أبي؟

الأم: على حالها معلقة خلف المنزل.. هل تنوي الذهاب للصيد

كوفان: نعم

الأم: لا تملك قارباً

كوفان: سأصطاد على الساحل

الأم: الشبكة تحتاج إلى إصلاح وحل لعقدها

كوفان بوجه محبط: لا تغلقي الأبواب في وجهي يا أمي

الأم: ألم تذهب لابن خالتك كما طلبت منك؟ لقد وعدتني أختي بأنه سيجد لك عملاً معه عند الشاطئ

كوفان وقد تغير وجهه للاستياء: لا أريد أن أعمل معه!

الأم وهي تنهض وتتوسد الجدار: لماذا؟ عمله شريف ويوفر له قوت يومه ولعائلته

كوفان: القتل ليس بعمل يا أمي

الأم: قتل؟ عن ماذا تتحدث؟ ابن خالتك يعمل في الصيد

كوفان: نعم صيد الدرافيل

الأم بتعجب: أليست الدرافيل من الأسماك؟

كوفان: بلى لكن..

الأم: لن أستطيع إجبارك على العمل معه لكن كما ترى نحن في وضع لا يسمح لنا بأن نفرض شروطنا

كوفان: لن أعمل معه يا أمي

الأم: لا بأس.. سوف أقبل بالعمل الذي جلبته لي خالتك 

كوفان: أي عمل؟

الأم: لا بد أن يعمل أحدنا كي نعيش يا بني

كوفان: لكنك مريضة ولا تقوين على التحرك

الأم وهي تستلقي على الحصيرة: لا بأس العمل ليس شاقاً

كوفان وهو يقترب من أمه ويجلس أمامها: أي نوع من الأعمال جلبته خالتي لك؟

الأم وهي تبتسم: سأعمل مع خالتك في قصر السيدة الكبيرة

كوفان: في القيام بماذا تحديداً يا أمي؟

الأم: حمل النفايات التي يخرجونها من القصر وأخذها للمحرقة

كوفان باستياء: في جمع القمامة؟!

الأم: هو في النهاية عمل شريف ويعفنا عن سؤال الناس

كوفان وهو يضع يده على كتف أمه مبتسماً: تعرفين أني لن أسمح لكِ بذلك

الأم: ومن أين سنأكل؟

كوفان: سأخرج صباحاً وأبدأ عملي مع (ناجل)

أول الصباح وقبل أن تشرق شمسه خرج (كوفان) من المنزل خلال نوم أمه وتوجه لمكان يبعد مسافة نصف ساعة من السير على الأقدام حيث كان ابن خالته (ناجل) يعمل مع مجموعة من زملائه الصيادين. كانت تلك المجموعة من الصيادين تعمل بالأجرة اليومية ومع ذلك لم يكن الانضمام إليهم ليس بالأمر السهل ويحتاج بعض الوساطة التي وفرها (ناجل) ل (كوفان) بحكم صلة القرابة التي جمعتهما. العمل تمحور حول صيد الدرافيل التي تمر أسرابها في خليج قريب من تلك المنطقة. كانت تلك الدرافيل تمر في عرض البحر حيث ينتظرها مجموعة من الصيادين على قواربهم لاعتراض سيرها بإحداث أصوات مزعجة بالطرق على أدوات مثل الطبول المعدنية والتي تصدر أصواتاً مزعجة للدرافيل تدفعها بلا شعور نحو خليج بين جبلين بالقرب من الشاطئ وهناك تمركزت المجموعة الأخرى من الصيادين بانتظارها بأدوات حادة من سكاكين ومناجل كبيرة لقتل وتقطيع تلك الدرافيل وتحميلها على عربات مجهزة خلفهم لهذا الغرض. كانت لحوم الدرافيل تجمع ودماؤها تحول ماء الخليج للأحمر القاتم وكان ذلك من الأمور التي جعلت (كوفان) يرفض العمل أول مرة بعد ما رأى تلك المجازر التي ترتكب في حق تلك المخلوقات لكن أكثر شيء أزعجه هو صراخها الذي كان يشبه على حد قوله صراخ البشر وهم يتألمون. حاول (كوفان) إقناع (ناجل) بأن يجعله ضمن المجموعة التي كانت في عرض البحر تطرق الطبول الحديدية لكن ابن خالته رفض وقال:

هذا العمل محصور بالصيادين القدامى وليس المبتدئين.. والأمر يحتاج لخبرة

كوفان بعصبية: أي خبرة يحتاجها المرء لقرع بعض الطبول؟!

ناجل وهو يمد سكيناً كبيرة بنصل صدئ: هل تريد العمل أم لا؟!

كوفان وهو يمسك بالسكين بإحباط وحزن: لا خيار أمامي

وقف الجميع عند نهاية الخليج المحصور بين الجبلين شاهرين سكاكينهم ومناجلهم الضخمة في ترقب.

كوفان بصوت خفيض ل (ناجل) وهو يشاهد بقية الصيادين يحدقون بالأفق:

ماذا ننتظر؟

ناجل وعينه على البحر في الأفق: لا تصدر صوتاً

صمت (كوفان) وظل صامتاً حتى بدأ يسمع صت الطرقات من قوارب الصيد في البحر والتي كانت إشارة لهم بأن سرب الدرافيل قادمٌ نحوهم. بدأ الصيادون على الشاطئ بأخذ مراكزهم وتوزعوا على امتداد ساحل الخليج الصغير وخلال دقائق ظهرت أسراب الدرافيل المفزوعة من طرقات الطبول وبدأت تتجمع في ذلك المضيق. تمركز عند أطراف مدخل المضيق شخصان يمسكان بطرفي حبل وعندما اكتنز المكان بالدرافيل وبدأت رؤوسها وذيولها تخرج من السطح وأخذ بعضها بالتراجع عائداً للبحر شد الرجلان أطراف الحبل بقوة وربطاها بإحكام لترتفع من القاع شبكة منعت تلك الدرافيل من العودة للبحر وبمجرد ما ارتفعت تلك الشبكة صرخ أحد الصيادين ليعطي الإشارة للبقية بالدخول والبدء بذبح وتقطيع تلك الدرافيل في مجزرة دموية.. وقف (كوفان) متسمراً مكانه وهو يشاهد تلك الكائنات المغلوبة على أمرها وهي تقتل بوحشية وتسبح في دمائها وبالرغم من نداء وصراخ (ناجل) عليه للانضمام إليهم إلا أنه بقي محدقاً في ذلك المشهد المرعب دون حراك. لم يستمر تسمر (كوفان) طويلاً فبمجرد أن بدأت تلك الدرافيل بالصراخ وإصدار تلك الأصوات شبه البشرية، رمى بالسكين التي كان ممسكاً بها على الأرض وغطى أذنيه. انتهت المجزرة وبدأ الصيادون بحمل اللحوم المقطعة من جثث الدرافيل منه (ناجل) وركله على مؤخرته وهو يقول بعصبية واستياء شديد: لقد جعلتني أضحوكة بين الصيادين!

كوفان وهو ينهض وينفض التراب عن ملابسه: أعتذر

ناجل: أسفك لن يطعمك أنت وأمك! لقد أقنعت رئيس الصيادين بأن يعطيك ربع الأجرة إذا ساعدتنا في تحميل اللحوم.. أم هذا كثير عليك أيها الوسيم؟!

كوفان وهو يتقدم نحو البحر: لا لا سوف أساعدكم في حمل القتلى

ناجل وهو يضع نصف درفيل على كتفه: أي قتلى؟

تقدم (كوفان) حتى غمر الماء الأحمر ساقيه إلى ركبتيه وبدأ يغوص الآخرون للتحميل وخلال بحثه أمسك بشيء صغير يتحرك فظن أنه سمكة حبست مع سرب الدرافيل لكن ما أن رفعها حتى رأى أنها دخس صغير لم يصب بأي أذى لكنه فيما يبدو كان منهكاً مما حدث. صم (كوفان) الدرفيل الصغير لصدره ولاحظ خلال إمساكه به أنه يملك زعنفة أصغر من الأخرى فأشفق عليه وخرج من الماء على عجالة وهو يجري مسرعاً مبتعداً عن المكان وابن خالته ينادي عليه دون استجابة منه. لم يتوقف (كوفان) عن الجري حتى وصل للشاطئ خلف الخليج بين الجبلين وبمجرد رؤيته للماء وضع الدخس فيه وبدأ يمسح عليه في محاولة لإنعاشه. بدأ الدرفيل الصغير في بادئ الأمر لا يستجيب لكن بالتدريج ومع ضرب الأمواج لجسده بدأ ذيله الصغير بالتحرك وخلال ثوانٍ من بعد تحركه انطلق في الماء بلا عودة. وقف (كوفان) يراقب ذلك الدخس الصغير وهو يستعيد حريته على وجهه ارتسمت ابتسامة عريضة لم تنكسر إلا بصوت (ناجل) من خلفه وهو يصرخ فيه ويقول: لن تعمل في هذا الشاطئ مرة أخرى!

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا