28. الإشاعة
أنا فتاة في الخامسة والعشرين من العمر، أكملت دراستي الجامعية، أعمل معلمة في إحدى القرى النائية، جميلة القوام، سمراء الوجه. مضى علي ثلاث سنوات وأنا أزاول مهنتي في هذه القرية وسط جو من الأقاويل والشائعات التي يطلقها علي كل من عرف اسمي في هذه الرقعة النائية من هذه البلاد عن رجولتي واختلاطي بالرجال وتعنتي وكل ما يناقض تفكيري.
أن أعصابي لم تعد تتحمل هذه الحرب من الشائعات التي لا أساس لها من الصحة والتي تهدد بتحطيم مستقبلي وكياني. وإني لا تساءل لم كل هذه الحرب الضروس ضدي.
أرجو تحليل مصدر الشائعات هذه التي تكال لي.
إيمان. ن
يبدو لي إنك من جهة بعيدة عن المنطقة التي تعملي بها، وأنت بجمالك وثقافتك قد لفتي الانتباه إليك من شبان ورجال القرية، وربما إنك تحملي قيم وعادات غير التي سارت عليها القرية، فأنت بنظرهم (متمردة) أو (مسترجلة) فكان سلاحهم ضدك هو حرب الشائعات.
وكثيراً ما يكون مصدر الإشاعة فردياً، وقد يكون جماعياً، إلا أن وقع الإشاعة في الحالتين يلاحظ في فئات اجتماعية كبيرة. فالميل إلى إكمال الفجوات يبين حقيقة نفسية مفادها أن الفرد ينظر إلى نفسه ككل متكامل وكذلك إلى الأفراد الآخرين. ليس هذا فقط، بل وإلى كل الظواهر. أن تطور الإشاعة في هذا الصدد لصيق بتضخمها، وبعبارة أخرى فإن تضخم الإشاعة وليد تطورها الكامن في تناقلها من وإلى أفراد كثيرين حيث أن كل فرد يملي على الموقف ما يراه مناسباً مع ملء الفجوات الظاهرة فيه. وملء الفجوات التي هي في حقيقتها نتيجة فردية لإدراك الفرد للموقف، يؤدي بنا إلى حقيقة أخرى إلا وهي أن الإدراك المختلف لتبصر موقف واحد أو مواقف مختلفة عند أفراد مختلفين يؤدي بالإشاعة إلى الخروج عن صياغتها الأولى والابتعاد، أي حد ما، عن حقيقتها.
كما أن الفراغ الاجتماعي هو مفسدة للمجتمع والفرد على حد سواء، وتصدع للفكر والعاطفة. وذلك لما يولده هذا الفراغ من فعاليات لا تخدم، من قريب أو بعيد، الفرد أو المجتمع. حيث يغدو الفراغ غير الموجه سبباً في توجيه الطاقات البشرية في طرق ومسالك تبعدهم عن التفكير المثمر والعمل الجدي. وهذا يظهر بوضوح في انتباه الأفراد وتبنيهم لكل فكرة جديدة تطرأ، وخاصة ما يتعلق بالفراغ الفكري والفراغ السياسي اللذين هما واجهتان بارزتان، في عصرنا الحديث، للفراغ الاجتماعي.
ويمكن أن ينظر إلى الفراغ الفكري، في وقت واحد، على إنه أساساً للإشاعة ونتيجتها، فهو أساس للإشاعة وذلك في أن الفرد الذي ليس بإمكانه إن يقارن بين ما هو صالح وطالح، سيغدو نهبا لكل ما يلقي عليه. ولكن من أين كان انتقاء القدرة على التمييز بين هذا وذاك؟
في الواقع أن عدم وجود رصيد من الأفكار لدى الفرد يجعله يبني كل طارئ - على الأقل - لكي يتشدق به في مجتمعات يحتك بها. هذا فيما يتعلق بكون الفراغ الفكري أساساً وسبباً للإشاعة. أما عن كونه نتيجة لها، فهذا الجانب تضمنه تلك الإشاعات الهادفة إلى عرقلة الفكر، سواء أكان على نطاق فردي أو اجتماعي، وذلك متمثلاً بالهاء الأفراد والجماعات عن تحميص وتفحص ما يلاحظونه من ظواهر مختلفة، أياً كانت نتيجة تضارب الشائعات في دخيلة الأفراد حيث يفقدون - إلى حد كبير - قدرة حماية أنفسهم من أثرها فيذهبون إلى الفروق عن الاستنتاج والمقارنة بين الكثرة الكاثرة من الإشاعات التي اقفلت عليهم إطار تفكيرهم ووعيهم.
إن التحليل الاجتماعي بمسبباته المتعددة لا يقتصر فقط على ما يرافقه من تغيير في التركيب الاجتماعي والمثل والقيم السائدة بل تظهر آثاره جلية في التحليل الشخصي وفي انعدام الثقة بكل ما كان مصدر ثقة. وأمام هذا التحلل تطغى الظواهر والأفكار الطوبائية على الإيديولوجية منها، وكثيراً ما تغلف الطوبائيات بين طياتها شائعات لا تمت إلى الواقع الاجتماعي بصلة يطمئن إليها، إلا أن الأفراد يتقبلونها ويدعون إلى تحقيقها أملاً في ضمان بعض الأمن الشخصي والاستقرار الاجتماعي، ليس هذا فقط بل أحياناً يكون لتلك الإشاعات الطوبائية من القوة والدعم ما يترك آثاره على شكل تغيير اجتماعي.
ويلاحظ أن الإشاعات كأفكار تجد الأرض الخصبة لها في نفس الأفراد الذين لهم القابلية لتقبل الايحاءات من الآخرين. ولهذه الظاهرة - تقبل الإيحاء - أكثر من سبب فقد تكون بسبب عدم الثقة بالنفس، أو قد تكون بسبب ضعف الثقة بالموضوع الذي روجت حوله الإشاعة، أو بسبب الأوضاع ككل، أو بسبب الجهل، بحيث يجعل الأفراد غير قادرين على دراسة وتمحيص ما يسمعونه ومن ثم إدراكه والوقوف على عدم حقيقته.
من الواضح أن الإشاعات في الجماعات البدائية في أنماط حياتها تكون أكثر تقبلاً وأسرع انتشاراً مما هي عليه في الجماعات المتحضرة. وهذا، أيضاً، يمكن الوقوف على سببه، بوجه عام، في ماهية الثقافة البدائية والثقافة المتحضرة، فالثقافة البدائية غالباً ما تأخذ الظواهر على علاتها، وتؤمن بها. وبعبارة أخرى فإن المجتمعات البدائية غالباً ما ينتفي من معتقداتها وملاحظاتها عامل الشك، بعكس المجتمعات المتحضرة التي تميل إلى الوقوف على أصول وأسباب الظواهر وتحليلها وتعليلها والشك فيها.
ويلاحظ الباحث النفساني أن الطرق والأساليب، المعترف بها اجتماعياً، والتي يعبر بها الأفراد عن مكنوناتهم كثيراً ما تنطوي تحت ما يسمى بالأسقاط. ومحتوى الأسقاط، سواء أكان مقبولاً أم مرذولاً، عند اسقاطه على موضوع الأسقاط يكسب الفرد المسقط بعض الراحة فيخفف بها عن التوتر الذي يعانيه. ومعنى هذا أن القلق هو الرصيد الذي ينطلق صاحب الفكر منه.
كما أن وجهات نظرنا تجاه الأفراد الآخرين قد لا نكشف عنها بصورة علنية ومفضوحة وذلك لما تقتضيه الآداب والعلاقات الاجتماعية ومركزنا ضمن الجماعة المعنية. وغالباً ما تكون وجهات النظر هذه مشبعة بعامل الحقد، وفي هذه الحال يذهب الفرد الحاقد إلى جمع وتشخيص كل الصفات السلبية التي يتصف بها موضوع كرهه وحقده، وإلى المبالغة فيها أحياناً، وهو لا يريد أن يكتشف الآخرون بأنه بعامل أو بدافع من الحقد يجمع كل جوانبه السلبية ويكشفها للآخرين ويشيعها بينهم، بل إنه يعمل - وقد أقنع نفسه - بأن إلصاق تلك التهم، سواء كانت صادقة أم باطلة، بموضوع الحقد سوف يبرر حقده عليه.
أن الفرد ينفس عن بعض مشاعره وانفعالاته تجاه الآخرين بعامل أو آخر متخذاً واجهة مقبولة عند الهيئة الاجتماعية المعنية، إلا أن التنفيس لا يقتصر على شخص واحد تجاه آخر، بل قد يتعدى ذلك إلى مشاعر أشخاص تجاه شخص واحد أو مجموعات تجاه مجموعات أخرى. ليس هذا فقط، بل أن بواعث الإشاعات قد لا تقف عند حد مشاعر معينة، وإنما تتعداها إلى عدة مشاعر. ولتوضيح هذا نذهب إلى ما نلحظه في بعض المؤسسات حين تبدو توقعات تشير، مثلاً، إلى ترفيع موظف إلى مركز محترم في تلك المؤسسة فتسمع الإشاعات تنطلق من أكثر من موظف في المؤسسة، كلها تهدف في جوهرها إلى التقليل من قيمة الرئيس المرتقب، فمثلاً يقال عنه إنه غير كفوء وسيء الخلق ولا يصلح للقيادة الخ .. وهم بهذا ينفسون عن عدة مشاعر مكبوتة تجاه ذلك الشخص كأن تكون الغيرة أو الأنانية أو الخوف، حيث يعلمون إنه في حالة توليه لمهمته الجديدة سوف يجري تغيرات فيهم لأنه قد وقف على حقيقة كل منهم في تلك المؤسسة.
أما الفروق الفردية بين الأفراد فلها أثرها الكبير في تحديد وتعيين الوسائل التي يلجأ إليها الأفراد في كسب تأييد الآخرين لهم أو جذب انتباههم. ومهما كان الاختلاف في الطرق التي يسلكها الأفراد في ذلك، فإنهم يلتقون في هدف واحد إلا وهو حب الظهور أمام الغير أو جلب عطف الغير نحوهم. وقد يكون هذا بدافع من الشعور بالنقص أو الافتقار إلى العطف أو إلى أي ناحية أخرى من النواحي التي تكون دعائم الطمأنينة والصحة النفسية السليمة عند الأفراد. ولهذا فالأفراد الذين ليس بإمكانهم أن يحققوا ذواتهم بين الآخرين بوسائل غير الإشاعة أو الكذب أحياناً فإنهم لا يجدون أبداً من ركوب هذا المركب لنيل الخطوة عند الغير، ولفت الانتباه لهم.
ويمكن أجمال القول إن الإشاعة، قبل تحقيقها، تولد عند الأفراد اضطراباً في وجهات نظرهم نحو أنفسهم ونحو غيرهم من الأشياء سواء أكانت مادية أو معنوية، ذلك لأن الفترة التي بين انطلاق الإشاعة وتحقيقها - إذا تحققت - يشيع فيها القلق حول ما أشيع، وهو حالك في الوقت الراهن. وكلما زادت الفترة بين بدء الإشاعة وتحقيقها أو ظهور بعض معالم صحتها، كلما زاد القلق. ولذلك آثاره السيئة البعيدة المدى في نفوس الأفراد وعلى صحتهم النفسية، بل وعلى تردي الأوضاع الاجتماعية التي يقفون منها موقف الحذر والشك.
وإذا كان لنا من نصيحة نسديها إليك فهي أن تبتعدي عن هذه القرية أو أن تغيري أسلوبك الذي تتعاملين به مع سكانها، هذا فيما إذا كان عندك المقدرة على ذلك. وهي موجودة - أي المقدرة - عند بعض الأفراد الذين استطاعوا أن يتركوا بصماتهم على المكان الذي وجدوا به.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا