على قارعة السكة الحديد
السماء داكنة، والأنوار خافتة، وأصوات الليل المعتادة، وسكة حديد وصوت قطار قادم من بعيد، ذلك الصوت الذي تصدره عجلاته مزعج، مزعج جداً.. أنواره توقظ عتمة المكان، وقطار يزن ستة آلاف طن، يمضي بحسب خطته المعتادة ليلا إلى منطقة ليتل روك في مدينة أركنساس الأمريكية، ويقطع 52 ميلا في الساعة، وعلى متنه أربعة أشخاص جميعهم من الفريق، وقائد القطار هو المهندس ستيفن شروير، والتاريخ هو الثالث والعشرون من آب عام 1987م، والساعة كانت نحو الرابعة والنصف فجرا، اقترب القطار من تلك المدينة الصغيرة براينت في أركنساس.
كان هنالك شيء ملقي على السكة الحديد، ولكنه كان بعيداً على أن يراه فريق القطار بوضوح، فلم يستطيعوا معرفة ما كان ذلك. وعندما اقترب القطار قليلا، كان الاكتشاف المفجع!
صبيان مستلقيان على السكة! سرعان ما ضغط ستيفن زر الطوارئ ليجعل القطار يتوقف وهذا يأخذ بضع ثوان - كما يقول ستيفن - من الوقت الذي ضغطت فيه زر الطوارئ وأطلت الضغط على بوق القطار، وكانت تقريبا بين ثلاث ثوان وخمس ليتوقف القطار، وذلك ربما لا يبدو وقتا طويلا، ولكن! أن تمر على أجساد كانت عندي تساوي دهراً كاملا.
يا للأسف لم يقف القطار إلا بعد أن بتر جسد الصبيين، ولكن استطاعت الشرطة أن تتعرف الصبيين فقد كان أحدهما في السابعة عشرة من العمر وهو كيفين آيفيز، وصديقه دون هنري وهو في السادسة عشرة من العمر، كانا في الصف الأخير من المرحلة الثانوية، ومن الطلبة المألوفين جداً في مدرسة براينت الثانوية، قال الطبيب الشرعي للولاية: إن الصبيين كانا تحت تأثير الماريجوانا، وإن حالة الوفاة كانت حادثة. والدا كل من دون وكيفين لم يستطيعا تقبل ذلك، فبدأ لاري آيفز والد كيفين بحملة لمعرفة ما حدث تماما للصبين، وأيضاً لإنقاذ سمعة ابنه كيفين، فيقول: حسنا، لم أستطع تصديق أن ابني يتعاطى الماريجوانا، أو أي نوع من المخدرات الثقيلة! أي شيء كذلك، لأني كنت في المنزل ذلك النهار عندما عاد كيفين من المدرسة، وليندا (والدة كيفين) كانت هنا في الليل أيضاً، ولم نره في وضع يبدو وكأنه ثمل أو شيء من هذا القبيل، بل كان طبيعيا.
كيفين ودون كانا مراهقين عاديين، يحبان العمل على سيارتهما كما يحبان الصيد، ودون كان كوميديا بطبعه، وكيفين كان جمهوره المفضل. في يوم السبت الثاني والعشرين من آب 1987م، كان الثنائي برفقة أصدقائهما في مواقف السيارات، ذلك المكان المفضل في المنطقة لتجمع المراهقين.
في قرابة منتصف الليل، ترك الثنائي المكان للذهاب إلى منزل دون، انتظر كيفين في الرواق ريثما يذهب دون ليتحدث إلى والده كريس هنري الذي يقول: دخل دون نحو الساعة 12:15 وأخبرني بمكان ذهابه وبكل شيء، وأخبرته أن يكون حذراً، ثم أخذ معه ضوء كشاف وبندقيته عيار 22.
ذهب الثنائي كعادتهما للصيد الذي كان ممنوعا في أركنساس، وهذا النوع من الصيد خاصة يسمى (سبوتلايتنق - تسليط الضوء) وهو غير قانوني، حيث إن واحداً من الصبية يسلط الضوء على عين الحيوان المراد صيده ليثبت الفريسة ثم يطلق الآخر النار عليها. وفي تلك الليلة اختار الثنائي المنطقة المعتادة نفسها لصيدهما وهي تقع على طول خطوط السكك الحديد التي تمر خلف منزل دون.
ثلاث ساعات آتية. كان القطار مسرعا إلى أسفل تل براينت، والصبيان كان مستلقيان بشكل متواز تماما على السكة وأذرعهما كانت مستقيمة بجانبهما. وبحسب ما قاله فريق القطار: كان الصبيان مغطيين جزئياً بقطعة قماش ضد الماء خضراء. وكانت بجانبهما أيضاً بندقية دون، وفي أثناء قدوم القطار مع كل ذلك الإزعاج كما قال ستيفن لم يتحركا! والسؤال الذي كان يطرح نفسه في تلك الآونة: ما السبب الذي جعل الصبيين يستلقيان أحدهما بجانب الآخر على خط السكة الحديد من دون أن يشعرا بقدوم القطار ولم يحركا ساكنا؟
لخص الطبيب الشرعي كل ذلك بأن الصبيين كانا قد تعاطيا ما يعادل عشرين سيجارة ماريجوانا، فقال: إن كيفين ودون دخلا في نوم عميق بسبب ذلك، ولم يسمعها أبداً صوت القطار القادم، وكان القرار النهائي من الطبيب الشرعي أن ما حدث للوالدين كان محض حادث. ولكن عائلة أيفز وهنري لم تتقبل البتة ما قاله الطبيب الشرعي؛ فلاري والد كيفين عين محققا خاصا ليكتشف ماذا حدث تماما، ولكن يقول لاري: في كل مرة يحاول فيها المحقق اكتشاف أمر ما، كان الأمر وكأنه يواجه مقاومة من سلطات مختلفة، ثم لا نخرج بشيء مفيد.
بعد خمسة أشهر من موت كيفين ودون، عقدت عائلتاهما مؤتمراً صحفيا، آملين بذلك أن يرغموا السلطات على فتح القضية والتحقيق فيها ثانية. وبعد يوم من المؤتمر، أعيد فتح القضية رسميا وعينوا المدعى العام ريتشارد غاريت الذي طلب استخراج الجثث وإعادة تشريحها، فقال الطبيب الذي شرح الجثث: إن الصبيين قد دخنا الماريجوانا حقا، ولكن ليست عشرين سيجارة، بل من سيجارة إلى ثلاث سجائر. ووجد أيضاً دليلا وهو أن واحداً من الصبية كان قد مات حقا قبل أن يبتره القطار بينما الآخر كان فاقداً للوعي، وهذا ما دفع هيئة المحلفين العليا أن تعيد النظر في قرار الطبيب الشرعي السابق، وتغيره من حادثة إلى جريمة قتل محتملة.
ركز المدعى العام ريتشارد بعد ذلك على القماش الأخضر الذي ذكره فريق القطار أنها كانت تغطي أجساد الصبيين. عندما تفحصت الشرط المكان بعد الحادثة لم يكن هناك أي أثر لقطعة القماش تلك المذكورة، وأراد ريتشارد أن يعرف واضع ذلك القماش فق جسديهما، ولماذا؟
على كل حال، الشرطة التي فحصت المكان بعد الحادثة نفت قول المهندس ستيفن، وقالت: إنه لم يذكر أبداً أي شيء عن القماش الأخضر، ولكن وفقاً لما قاله ستيفن أنهم سألوه حتى عن وجود القماش الأخضر! ويقول: ذلك كان عندي كأنهم كانوا يسألونني عن وجود جسدي الصبيين، عما هو حقيقي وما هو غير حقيقي فلا، ذلك أقماش الأخضر كان موجوداً كما كان الصبيان موجودين أنا واثق بذلك.
ولكن هذه القصة الغامضة لا تلبث أن تهدأ حتى تظهر معلومات تزيدها إشعالا، فبعد مدة من ذلك أدلى أحد ضباط المنطقة بمعلومة قادت إلى فضول آخر، يقول الضابط: إنه قبل أسبوع من حادثة موت الصبيين شاهد رجلا كان يرتدي زيا عسكريا قريبا من خطوط السكة الحديد، فأثار سلوك هذا الرجل شك الضابط، فتوقف الضابط عنده لاستجوابه، ولكن ما لبث حتى بدأ الرجل بإطلاق النار وهرب، ما لبثت ثواني حتى اختفى ذلك الرجل.. بحثنا في جميع المنطقة ولكن لم يكن هناك أي أثر له.
وفي الليلة نفسها التي مات فيها دون وكيفين، أخبر شهود الشرطة عن رؤيتهم رجلا بزي عسكري كان يمشي نحو طريق يبعد 200 ياردة عن البقعة التي حدثت فيها الحادثة. على كل حال، لم تستطع الشرطة الوصول إلى ذلك الرجل أبداً أو أن تعرفه.
من كان ذلك الرجل؟ وهل له علاقة بوفاة الوالدين؟
لا أحد يعم.
والدا كل من الصبيين لم يهدأ لهما بال، وكانا على يقين أن هنالك شيئاً ما حدث للصبيين قل أن يمشي فوقهما القطار، ولكن حال القضية ظل سنين هكذا كلما اكتشفت خيطا جديداً في القضية ازدادت غموضاً.
أحد أهم الشهود كان شخصا يدعى روني قودوين الذي قال: إنه في تلك الليلة كان يقود سيارته عائداً إلى منزله بعد قضاء الليلة في النادي الليلي، ولكن في أثناء مروره ببقالة محلية رأى ضابطي شرطة يضربان الصبيين.
كانت المنطقة ريفية وتلك البقالة كانت مغلقة في تلك الساعة نظراً لتأخر الوقت، ولأن روني كان شاربا تلك الليلة وأنه قدتم القبض عليه مرات عديدة لقيادته وهو ثمل، لم يشأن أن يمر من أمام البقالة والضابطين خوفا من أن يقبضا عليه، فبدلا من ذلك رجع إلى الوراء قليلا بين شاحنات نقل البضائع وأطفأ سيارته، ولكنه كان لا يزال يرى الضابطين بوضوح منتظراً أن يذهبوا ليعود إلى منزله.
فشاهد - بحسب ما قاله - الضابطين وهما يضربان الولدين ضربا مبرحا، ثم بعد ذلك رمياهما في سيارتهما التي كانت لا تحمل علامات الشرطة، فقطعا الشارع متوجهين إلى طريق ترابي يقود إلى جبل إليكسندر.
كان روني يعلم أن تلك الطريق مسدودة؛ لذلك علم أنهما سيعودان فلم يتحرك من مكانه، وبعد 15 دقيقة.. عاد الضابطان وقادا سيارتهما إلى خطوط السكك الحديد، في اليوم التالي سمع روني خبر وفاة الصبيين دعسا بالقطار، واثقا بأن الضابطين هما من قتلاهما ولكن.. لماذا؟
يقولون هنا إن تلك المنطقة كانت منطقة معروفة بالمتاجرة بالمخدرات، وكان هناك تعاون بين السلطة وتجار المخدرات لمصالح كثيرة، وفي أركنساس كانت تقع أكبر منطقة للمتاجرة بالمخدرات، هي حول مطار مينا الذي كانت تحدث فيه عمليات تسمى بهبوط المخدرات، وهذه العمليات تتم بأن تأتي طائرة محملة بالمخدرات وتحدد منطقة في المطار ترمي عليها المخدرات، وكانت هذه العمليات سرية جداً وتحدث في أوقات لا يكون أي مدني فيها.
فما قد يكون حدث بحسب الاحتمالات هو أن الصبيين قد كانا موجودين في تلك المنطقة ورأيا العملية، وكأي عملية تجارة مخدرات من يشهدها فهو ميت لا محالة.. ما دام الصبيان قد رأيا العملية مصادفة، وما دامت هناك يد للسلطة فالتخلص من مراهقين كان أمراً سهلا.
فجريمة دون وكيفين هي أنهما كانا في المكان والوقت الخاطئ.
على كل، عثر في نقطة ما على قميص دون الذي كان يرتديه عندما مات؛ ذلك القميص غير حالة القضية من (جريمة قتل محتملة) إلى (جريمة قتل مؤكدة) حيث كان على القميص آثار طعن عدة، مما يدل على أن دون قد تعرض للطعن قبيل وفاته أو قبيل أن يبتره القطار، وفي عام 1995 تم إغلاق القضية رسميا من دون تعرف المجرم أبداً!
في حقيقة الأمر لم تكن هذه الجريمة الوحيدة التي ارتكبتها السلطة الأمريكية في ذلك الوقت مع من شهد عملية تجارة مخدرات، فقد حدثت جرائم عدة ومات عدة ضحايا موتا غامضا كموت دون وكيفين تماما. يقولون في تلك المنطقة: إنه طالما إن القضية متعلقة بتجار المخدرات فالسلطة لن تحل قضية كيفين ودون أبداً.
في عام 1997م، استطاع والدا كيفين أن يحصلا علىه كل المستندات المتعلقة بالقضية مقابل مبلغ أكثر من 500 دولار. فقاما بفحص كل مستند كلمة فكلمة، وكان هناك كثير من المقابلات لشهود أدلوا بمعلوماتهم ولكن لم تكن هناك متابعة منق بل الشرطة أو تحقيق حتى مع الشهود مثل روني قودوين. وفي السنة نفسها التي حصلا فيه على المستندات بحثا عن مكان روني وذهابا إليه وذلك كان بعد إحدى عشرة سنة من الحادثة.
فما قاله لهم روني هو نفسه الذي قاله تماما سنة 1987م شاهداً.
تقول والدة كيفين وأنا أعجبا بسلوك روني وملنا إلى تصديقه على الرغم من حقيقة أنه تم وصفه بالكحولي الكاذب من قبل شرطة الولاية آنذاك، ففي وجهة نظرنا أنه قد يكون من المستحيل أن يتذكر ما حدث بكل تلك التفاصيل والوضوح إذا كان قد اختلقها سنين مضت.
اختلقت الشرطة كثيراً من المقابلات الكاذبة لأخت روني وأمه لتكذيبه؛ ويقصد هنا المقابلات الكتابية، ولكن عندما سألهم والدا كيفين أنكروا ذلك وقالوا أنهم لم يتم استجوابهم من قبل الشرطة قط والآن قد مرت ثلاثون سنة من دون القبض على مرتكب تلك الجريمة النكراء، فالأمر أشبه بالمستحيل بأن تقبض الشرطة على نفسها.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا