حديث القمر وقصص النجوم
مجموعة من المسافرين على متن سفينة كبيرة تعبر المحيط.. يقفون عند أطرافها يتأملون جمال البحر الواسع. أمضوا في تلك الرحلة أسابيع ووجهتهم لا تزال بعيدة. شاب يقترب من سيدة بدت عليها مظاهر الثراء كانت تراقب الأفق وحدها فسألها: هل أنتِ مسافرة وحدك؟
السيدة وهي تلتفت إلى الرجل: نعم.. وأنت؟
الرجل مبتسماً: أنا مسافر برفقة أخي
السيدة وهي تعيد نظرها نحو الأفق: البحر جميل في هذا الوقت من النهار أليس كذلك؟
الرجل وهو ينظر للأفق: بلى معك حق
السيدة: لكن بالرغم من هذا الجمال إلا أنه يحمل الكثير من الألم والأحزان
الرجل ممازحاً: وأي ألم وحزن قد يصيب هذا البحر الكبير
السيدة بهدوء وهي تنظر للأمواج المرتطمة بقاع السفينة: البحر لا يحزن لكنه يجمع أحزاننا..
الرجل مبتسماً: تتحدثين عنه وكأنه كائن حي يشعر ويملك إحساساً
السيدة وهي تعيد نظرها للبحر في الأفق: رأيت البحر يغضب ويثور ورأيته هادئاً ساكناً.. مشاعره متلاطمة كأمواجه..
الرجل وهو يشارك السيدة النظر في الأفق ويقول ساخراً: لا أعتقد
السيدة وهي تلتفت إلى الرجل: هل تعرف لمَ ماء البحر مالح؟
الرجل وهو يتلفت إلى السيدة مبتسماً: لا.. أخبريني
السيدة: البحر اكتسب ملوحته من دموعنا وغضبه من صرخاتنا..
الرجل: ألا ترين بأنكِ تبالغين في وصفه وتعطينه أكبر من حجمه؟
السيدة: وما هو حجم البحر؟
الرجل وهو يبتسم: أنتِ غريبة الأطوار
السيدة وهي تعيد نظرها للأفق: أنت من تحدث معي ولست أنا من تحدث معك
الرجل وهو يهم بالرحيل: معكِ حق.. أعتذر على إزعاجك..
رحل الرجل وترك تلك السيدة تحدق بالبحر بصمت..
عاد الرجل للغرفة التي كان يقيم بها مع أخيه ووجد أخاه نائماً فركل سريره وهو يقول: انهض!
استيقظ أخوه مفزوعاً وهو يقول: ماذا حدث؟! هل غرقنا؟!
الرجل وهو يصعد للسرير الآخر فوق سرير أخيه ويستلقي واضعاً ساقاً على ساق: لقد قابلت امرأة قبل قليل..
الأخ وهو يزفر ويستلقي على فراشه مغمضاً لعينيه: هل أفزعتني بسبب امرأة؟
الرجل وهو يحك جبينه بإبهامه ويحدق بسقف الغرفة: لم تكن امرأة عادية كانت غريبة الأطوار
الأخ وهو يتثاءب ويحاول العودة للنوم: كل النساء غريبات
الرجل وهو سارح في سقف الغرفة: لا فهذه المرأة مختلفة
لم يرد أخوه عليه إلا بالشخير فابتسم الرجل وحاول أخذ قيلولة هو الآخر..
استيقظ الرجل من تلك القيلولة ليلاً وعندما أفاق نهض بكسل وألقى نظرة على سرير أخيه أسفل منه ووجده فارغاً. نزل من سريره واغتسل من إناء ماء معد لذلك ثم مد يده وتناول قطعة من القماش وبدأ بتجفيف وجهه وما أن أنزل قطعة القماش حتى رأى أخاه يدخل الغرفة وهو يقول: لقد فاتك العشاء
الرجل وهو يعلق قطعة القماش مكانها: ولمَ لم توقظني؟ لمَ تركتني أنام لهذا الوقت؟
الأخ وهو يستلقي على فراشه ويحاول النوم: أمي كانت المسؤولة عن إيقاظك للعشاء وليس أنا
خرج الرجل من الغرفة متجهماً وذهب للمكان المخصص للركاب لتناول وجباتهم اليومية ووجد المكان خالياً من الناس عدا بعضاً ممن كانوا يرفعون الصحون الفارغة ويجمعونها لتنظيفها. تقدم الرجل نحو أحدهم وقال: هل بقي شيء يمكنني تناوله؟
العامل: لا يا سيدي.. الوجبة التالية ستكون في الصباح
الرجل بوجه محبط: حسناً
صوت امرأة من خلف الرجل يقول: يبدو أنك نمت طويلاً
التفت الرجل إلى مصدر الصوت ليرى السيدة التي تحدث معها في الصباح عند طرف السفينة وهي جالسة تحتسي بعض القهوة. تقدم نحوها وجلس أمامها مبتسماً وقال: لم أرَ أحداً يحتسي القهوة ليلاً من قبل
السيدة وهي تأخذ رشفة من قهوتها: ملذات الحياة لا تعرف وقتاً محدداً..
الرجل بسخرية: وهل كوب القهوة من ملذات الحياة؟
السيدة وهي تضع الكوب أمامه وتحتضنه بكفيها: بالنسبة لي نعم.. كوب القهوة الذي تستخف به هو الذي يسحب كل ما بالروح من ألم ليستقر بقعره..
الرجل: تبدين ميسورة الحال وغنية وبلا شك أن هناك أموراً أخرى تستمتعين بها غير كوب بسيط من القهوة
السيدة وهي تحدق بالأبخرة المتصاعدة من الكوب: بعض النعم لا نعرف قيمتها إلا عندما نفقدها ويحل مكانها حزنٌ كبيرٌ لا تتسع له قلوبنا..
الرجل: أنا لا أصدق أن من هم مثلك يمكن أن يحزنوا أبداً
السيدة: مثلي؟ ماذا تقصد ب "مثلي"؟
الرجل: أغنياء.. أصحاب مال وترف.. أياً من مشقات الحياة تعرفون غير جمع وعد أموالكم؟
السيدة وهي تبتسم: تبدو ساخطاً على الأثرياء
الرجل: فقط من يدعون الحزن وهم يملكون مفاتيح السعادة
السيدة: وما هي مفاتيح السعادة؟
الرجل: المال أهم وأكبر مفتاح للسعادة ولا تحاولي إنكار ذلك
السيدة: هل ترغب بكسب بعض المال؟
الرجل: ماذا تقصدين؟
السيدة: ألم تقل بأن المال هو مفتاح السعادة؟ سأقدمه لك
الرجل: بدون مقابل؟
السيدة: لا يوجد شيء بلا مقابل
الرجل بوجه مرتاب: وما المقابل؟
السيدة وهي تنهض وتدير ظهرها للرجل وتبدأ بالسير خارج المكان: اتبعني
تبع الرجل السيدة حتى توقفت عند المكان الذي تحدثا فيه أول مرة وكان الوقت ليلاً وبدأت تحدق بالقمر شبه المكتمل بصمت..
الرجل وهو ينظر للسيدة ثم ينظر للقمر: وماذا الآن؟
السيدة وهي تحدق بالقمر بوجه خالٍ من المشاعر: كم من المال يكفيك لتصبح سعيداً؟
الرجل باستغراب: لا أعرف.. ما يكفي كي لا أعمل مجدداً طيلة حياتي
السيدة: وكم بقي من حياتك؟
الرجل متعجباً من سؤال السيدة: ومن منا يعرف كم بقي من عمره؟
السيدة: إذاً كيف ستعرف ما يكفيك؟
الرجل بتجهم: إذا كنت تريدين التلاعب والتسلي بي فلا وقت عندي لذلك!
خلعت السيدة خاتماً بفص أزرق كانت تلبسه وقالت: هذا الخاتم قيمته تعادل أضعاف قيمة السفينة التي نركبها الآن.. هل هذا كافٍ كي تجد السعادة الأبدية؟
الرجل وهو يحدق بالخاتم: نعم على ما أظن
السيدة وهي تقلب الخاتم في يدها: وهل تستطيع إعطائي قيمته؟
الرجل: أخبرتك بأني لست ثرياً مثلك
السيدة: لا أريد مالاً مقابل هذا الخاتم
الرجل: ماذا تريدين إذاً؟
رفعت السيدة يدها وأشارت لأحد العاملين بأن يأتي إليها..
العامل وهو يحني رأسه: بم تأمرين يا سيدتي؟
السيدة: اطلب من القبطان أن يوقف السفينة
العامل وهو يهم بالرحيل: أمرك
الرجل بسخرية: وهل ثراؤك يخولك لإيقاف هذه السفينة أيضاً؟
السيدة وهي تعيد نظرها للأفق: فقط عندما تكون مالك السفينة
بدأت السفينة بالتباطؤ تدريجياً حتى توقفت بالكامل وعاد العامل الذي أرسلته السيدة سابقاً واقترب منها محني الرأس وقال: متى ما شئت يا سيدتي سوف نستأنف الرحلة
السيدة موجهة كلامها للرجل: هل أنت مستعد لدفع قيمة الخاتم الآن؟
الرجل: ماذا تريدين مني؟
السيدة وهي تبتسم وتنظر للبحر: اقفز في الماء
الرجل بتعجب شديد: ماذا؟
السيدة: ألم تسمع أم لم تفهم؟
الرجل: ولماذا تريدين مني القفز في البحر في هذه الساعة
السيدة وهي تلتفت إلى الرجل مبتسمة: مجرد ترف يمكنني ممارسته لا أكثر
الرجل بتجهم: هل تحاولين إذلالي؟
السيدة وهي تعيد نظرها للبحر: لا تضيع وقتي.. هل ستقفز ويكون الخاتم لك.. أم أعطي الأمر بتحريك السفينة مرة أخرى؟
بدأ الرجل بالتفكير وهو يراقب أمواج البحر تصطدم بأسفل السفينة وبعد أقلم من دقيقة: موافق لكن بشرط
السيدة دون أن تلتفت إلى الرجل: ما شرطك؟
الرجل: أن تعطيني الخاتم الآن
السيدة وهي ترمي الخاتم على الرجل: هل هناك حجج أخرى
الرجل وهو يتلقط الخاتم ويلبسه ثم يبدأ بتسلق طرف السفينة: لا
قفز الرجل في البحر وغاص لمسافة قصيرة قبل أن يخرج رأسه من الماء ويقول بصوت مرتفع: لقد نفذت طلبك والخاتم أصبح لي!
السيدة وهي تنظر للرجل مبتسمة: نعم الخاتم أصبح لك
همت السيدة بالرحيل فصرخ الرجل فيها وهو يقول: إلى أين؟!
السيدة وهي تعود وتطل من طرف السفينة على الرجل: لقد حان موعد نومي
الرجل: ارمي لي بحبل كي أصعد!
السيدة: هذا لم يكن جزءاً من اتفاقنا
الرجل وهو مصدوم: ماذا؟ هل ستتركينني هنا؟!
السيدة وهي تبتعد عن طرف السفينة تشير للعامل بتوجيه القبطان للتحرك: لقد حصلت على المال.. استخدمه للحصول على السعادة..
تحركت السفينة مبتعدة عن الرجل الذي كان يصرخ ويستنجد لكن لا أحد يستجيب إليه وبعد أن اختفت من الأفق لم يبق سوى صوت الأمواج المتلاطمة أحس الرجل بألم طاعن في خاصرته تحول على أثره الماء من حوله للون الأحمر ولم تمض ثوانٍ حتى تقطع جسده وافترسه كائن مجهول.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا