لُجّ ل ملحمة البحور السبعة الروائي أسامة المسلم 1

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-07-25

البحر.. 

ذلك السر الأعظم..

الذي يُخفي أكثر مما يظهر..

يمكن أن يكون عشقاً أو هلاكاً لكل من غاص في أعماقه أو حتى طفا على سطحه..

يحفظ أسراره بقوة كأم ممسكة بطفلها الوحيد..

لكن هذا الطفل يتفلت من وقت لآخر من يدها القابضة ليكشف لنا بعض خبايا أمه..

 

الثمن الزهيد

سلطعون صغير يمشي على رمال الشاطئ الدافئة.. يختبئ في قوقعته مع كل موجة تضرب الساحل.. يخرج رأسه ليتفقد بعينيه المكان من حوله بعد تراجع الأمواج ثم يسير مرة أخرى لمسافة قصيرة قبل أن يختبئ مرة أخرى خوفاً من زبد البحر المندفع نحوه.. رجل يتلقط ذلك السلطعون ويحدق به لثوانٍ ثم يصرخ منادياً: هذا سيكون طعماً مناسباً!

فتى صغير يقترب من الرجل بوجه حزين ويقول: اتركها يا أبي

الرجل: أتركها؟ الأسماك تحب هذا النوع من القشريات وستلتهمه بمجرد نزوله للماء من على طرف صنارتنا

الفتى: وما ذنبه؟

الرجل باستغراب: ذنب من؟

الفتى: ذنب السلطعون

ضحك الرجل من كلام ابنه وقال: كن مستعداً غداً عند إشراقة الصباح الأولى!

قبل بزوغ الفجر بدقائق وعند أحد الشواطئ النائية والبعيدة عن ضجيج المدينة جلس الرجل مع ابنه الوحيد الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره يعدان العدة للخروج في رحلة صيد بقارب صغير استأجره لهذا الغرض. كان الرجل يريد الترويح عن ابنه الذي أصبح منطوياً على نفسه مؤخراً بسبب وفاة أمه قبل أشهر قليلة مضت. لم يكن الفتى متحمساً للرحلة ولكن والده حاول رفع معنوياته وإثارة حماسه قائلاً:

"لقد كنت مثلك أول مرة حاول فيها أبي أخذي لرحلة صيدي الأولى.. لم أكن متحمساً على الإطلاق لكن بمجرد أن اهتز خيط الصنارة في يدي تعلق قلبي بالصيد مثلما علقت سمكتي الأولى في الخطاف ذلك اليوم وأنا واثق أن الشيء نفسه سيحدث معك".

لم يبدِ الفتى حماساً حتى بعد كلمات أبيه المشجعة له لكنه استمر بمساعدة والده في تحميل القارب بما يحتاجانه لتلك الرحلة. كانت المنطقة التي اختارها الرجل منعزلة جداً وهادئة وقلما يشاهد فيها أحد سواء للصيد أو التنزه لكن تعلقه عاطفياً بالمكان كان الدافع الأول وراء اختياره للصيد هناك مع ابنه بالإضافة إلى وفرة الأسماك بسبب قلة الزوار لتلك المنطقة. بعد ساعة من الإبحار بالقارب توقف الرجل وطلب من ابنه البدء يرمي الصنانير التي أعداها سابقاً. رمى الفتى ثلاث صنانير في الماء بعد ما علق والده الطعم فيها. أمسك كل منها بخيط وربطا الثالث في مقدمة القارب. بدأ الرجل يتحدث مع ابنه وكان الحديث ذا شجون تحدث فيها ولأول مرة عن مشاعره منذ وفاة أمه وكيف أنه كان يفتقدها بشدة. لم يصطدِ الاثنان شيئاً ذلك اليوم لكنهما كسبا حديثاً جميلاً افتقداه منذ أشهر.

بدأت الشمس بالمغيب فهم الرجل بالعودة لكن ابنه أخبره بأنه يرغب بالبقاء مدة أطول عله يصطاد سمكته الأولى. ابتسم الرجل ولم يرفض طلبه رغم معرفته بأن البقاء في البحر في ليلاً خطر في حال تعرضا لأي عارض مفاجئ لكنه وافق بشرط أن يعودا فور نزول قرص الشمس واختفائه من الأفق. هز الابن رأسه مبتسماً بالموافقة ورمى خيطه في الماء بعدما جدد الطعم على الخطاف.

مضى الوقت المحدد ولم يصطدِ الفتى شيئاً فأخبره والده أنهما يجب أن يرحلا ووعده بالعودة غداً للمحاولة مرة أخرى فقد استأجر القارب لمدة أربعة أيام وما زال أمامهما وقت كافٍ للصيد. ابتسم الفتى وبدأ يسحب خيطه ليتمكن أبوه من التحرك والعودة نحو الشاطئ البعيد وخلال سحب الصبي للخيط شده شيء قويٌ ففرح وصرخ في أبيه وقال: لقد أمسكت بواحدة!!

نهض الأب من مكانه مبتسماً ليساعد ابنه لكن ابتسامته تحولت لصرخة عندما شُد الخيط مرة أخرى بقوة أكبر أخلت بتوازن الفتى ليسقط في الماء. في تلك الأثناء حل الليل لكن لحسن حظ الرجل كان قرص القمر هلالاً تلك الليلة وكافياً لتسليط بعض الضوء حولهما مما مكنه من رؤية ابنه الذي يصارع للعودة إلى القارب. مد الرجل يده والتقط ابنه وانتشله من الماء بسرعة لكنه تفاجأ خلال رفعه للقارب بأن هناك شيئاً ممسكاً بقدمه فظن أنها علقت بالخيط فحاول سحبه بقوة أكبر فأخرجه وهو يبكي من الخوف. عانق الرجل ابنه وطمأنه وسحب غطاءً على سطح القارب وحاول تجفيف ملابسه من الماء البارد وتغطيته كي لا يصاب بالبرد. اطمأن الرجل على ابنه وتركه عند مقدمة القارب وهو ملتحف بذلك الغطاء وتوجه لمؤخرته كي يلتقط المجداف ويبدأ بالتجديف نحو الساحل وما أن ابتعد عن ابنه مسافة بسيطة حتى رأى شيئاً يشبه الظل في حلكة الليل التي لم يكسرها سوى ضوء القمر البسيط يخرج من الماء بسرعة خاطفة ليسحب ابنه للأعماق.

صرخ الرجل بكل قوته ولم يقطع صراخه إلا ارتطامه بالماء عندما قفز خلف ابنه وذلك الشيء الذي سحبه. أمضى الرجل أكثر من ساعة في الماء البارد وهو يغوص بحثاً ويصرخ منادياً على ابنه لكن دون جدوى ولم يتوقف عن البحث إلا عندما طفت فردة حذاء ابنه على السطح.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا