قطعة الشطرنج القاتلة لميعاد راشد

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-07-23

رقعة الشطرنج القاتلة 

موسكو العاصمة، أكثر مدن روسيا اكتظاظا بالسكان، باردة جداً وليست هادئة. تكثر بها المتنزهات الخضراء الشاسعة، ولكن متنزه بيتسا بارك مميز لسبب ما. متنزه شاسع جداً تغطيه الأشجار الخضراء الطويلة، ويقع في جنوبي موسكو، وهو مشهور بكبار السن الذين يمضون فيه أوقاتهم الممتعة في لعب الشطرنج والتنزه. ولكن هذا التنزه أخفى سنوات سراً مروعا.

ففي الخامس عشر من تشرين الأول عام 2005م، عثرت الشرطة في المتنزه على جثة امرأة تدعى نيكولاي فوروبيوف ذات الواحد والثلاثين عاما. لم يكن منظر تلك الجثة مطمئنا، فقد كان جليا أنها قتلت، والأدهى من ذلك أنه تم غرز زجاجة فودكا خمر في رأسها.

ذهلت الشركة مما رأته، وعلمت أن هنالك أمراً جديا جداً قد حدث، والذي لم تعلمه هو أن ذلك الأمر كان لا يزال يحدث.

فبعد شهر تماما، وجدت جثة أخرى لرجل يبلغ الثلاثة والستين عاما من عمره في المتنزه نفسه. وبعد أسبوعين من ذلك، جثة أخرى وجدت. وبعد أسبوع أيضاً وجدت جثة ثالثة.

ففي غضون شهرين تم العثور على سبع جثث مقتولة ومشوهة بالطريقة نفسها. كان الأمر وكأن سماء المتنزه كانت تمطر جثثا.

لم تكن أي من الجثث مخبأة بطريقة ما، بل كانت مكشوفة للعلن، ولا أي من الضحايا تم سلبهم قبل قتلهم؛ وهو الأمر الذي يدل على أن الدافع لم يكن السرقة. وكانت جميع الجثث تملك العلامة المروعة نفسها؛ زجاجة فودكا مغروزة برؤوس الضحايا.

علمت الشرطة أنهم يتعاملون مع قاتل متسلسل محترف؛ جرائم معقدة وقاتل خطير طليق في موسكو. لذلك تم تعيين أكفأ المحققين في روسيا الذين تعامل بعضهم مع أخطر الجرائم المعقدة التي حدثت من قبل.

فبعد اكتشاف سبع جثث في متنزه موسكو علم العامة أن القاتل طليق، عاش أهالي موسكو في رهبة وخوف شديدين. وأطلقوا عليه اسم: وحش متنزه بيتسا، المتنزه الذي عرف للتسلية، لكن الأمر تغير بعد تلك الجرائم المتسلسلة، فأصبح الناس يخافون من الذهاب إليه.

حاول المحققون تتبع أي أثر قد يتركه المجرم، فجمعوا من مسارح الجرائم أي شيء اعتقدوا أن من شأنه إعطاء لمحة عن المجرم. ولكن لا جدوى من كل ذلك، فالتحليلات لم تظهر أي أثر ولا حتى بصمات. نعم، كنا نتعامل مع سفاح حذر جداً.. الأمر الذي أرعبنا- هذا ما قاله أحد المحققين.

وبمساعدة الطب الشرعي اقتربت الشرطة من معرفة سلاح الجريمة؛ وذلك بعد تشريح جثث الضحايا وتحليلها ولا سيما جماجمهم. الأمر الذي قاد إلى معرفة أن سلاح الجريمة قد يكون مطرقة، وذلك احتمال كبير جداً نظراً إلى الإصابات التي كانت على جماجم الضحايا.

ولكن من كان ذلك القاتل الذي كان يجول في المتنزه مدة أسابيع ومعه مطرقة؟

وفي غضون أسابيع..

أحيط المتنزه بأكثر من مئتي شرطي، لمراقبة تصرفات كل شخص، واستجواب المشكوك في أمرهم.

امرأة، أو رجل.. أو مراهق، أو طفل، لا أحد يعلم جنس القاتل ولا عمره. هل يعيش بجانب المتنزه أو بعيداً عنه. لا شيء. يقف رجال الشرطة هنا وهناك في المتنزه. على اعتقاد بعضهم أن تعبهم لا فائدة منه. فالأمر بالتأكيد أشبه بالبحث عن إبرة في كومة قش. ومع ذلك كان أغلب الضحايا رجالا أعمارهم متوسطة؛ أشخاصا لا أحد يهتم بأمرهم، ولن يبحث عنهم أحد.

طوال تلك المدة، شائعات تنتشر بكثرة حول القاتل وهويته، ولكن واحدة من تلك الشائعات لفتت انتباه المحققين، وهي أن القاتل قد يكون أحد المرضى في تلك المصحة النفسية القريبة جداً من المتنزه. ففي هذه المصحة يسمح للمرضى المستقرين عقليا شيئاً ما، بالتنزه في هذا المتنزه.

تقول النظرية إن القاتل هو أحد المرضى الذين هرب في أثناء التنزه واختبأ في المتنزه فاعلا فيه جرائمه. ولكن على مدى واقعية هذه النظرية وقربها من الواقع إلا أنها بطلت لعدم توصل الشرطة إلى أي خيط فيها. ولكن على الرغم من ذلك كان لا يزال استجواب المتنزهين المشكوك في أمرهم قائما.

في أحد تلك الأيام المحيرة، كان رجلان من الشرطة يتبادلان الحديث في أثناء نوبة عملهم في المتنزه، الوقت الذي مرت فيه سيدة غريبة الأطوار شعرها أشقر قصير، ترتدي معطفا طويلا تحمل معها حقيبة سوداء. الأمر المريب حول هذه السيدة هي أنها كانت تمشي بسرعة كبيرة في أثناء رؤيتها الشرطيين، وهو الأمر الذي جعلهما يشكان في أمرها من فورهما، فرفع أحدهما صوته أن تتوقف حتى يأتيا إليها، ولكن فعلت غير المتوقع وبدأت بالركض! فهب رجلا الشرطة خلفها ركضا حتى أمسكاها، فكانت الصدمة.. وقع شعر مستعارا! ماذا؟ أكان ذلك رجلا؟ نعم، ولما فتشوا حقيبته وجدوا مطرقة.

اعتقدت الشرطة أخيراً أنها قبضت على مرادها. المشتبه به الأول كان ذلك الرجل، وبدأ التحقيق الذي مع الأسف قاد إلى نتيجة غير محببة؛ وهي أن ذلك الرجل هو متحول جنسياً.

وأما ما يخص المطرقة فقد كان يحملها دائما للدفاع عن نفسه لكونه شاذاً وهو الأمر غير المقبول في المجتمع الروسي الذي يجعله يتعرض لكثير من المضايقات التي تصل إلى الضرب ومحاولة القتل، وازداد حذره بعد وحش متنزه بيتسا. ولقد كان محقا، ولم يكن هو المجرم بعد اختبارات كشف الكذب.

وبعد مدة أسبوع من ذلك، عاملة في السوبر ماركت تبلغ من العمر خمسة وعشرين عاما وجدت مقتولة. جثة أخرى، وثالثة أخرى، ومع كل اكتشاف لجثث جديدة يزداد اضطراب الشرطة أكثر، فتضغط أكثر على المحققين لاكتشاف القاتل في أقرب وقت قبل سقوط مزيد من الأرواح. فكان قد وصل عدد الضحايا إلى اثنتي عشرة ضحية.

عند تلك النقطة، غير القاتل خطته؛ فبدأ بقتل النساء أكثر من الرجال وهو الأمر الذي زاد من حيرة المحققين. ولا يزال عدد الضحايا في تزايد حتى شهر حزيران من عام 2006م، عندما عثرت الشرطة أيضاً على جثة عاملة سوبر ماركت تبلغ من العمر ستة وثلاثين عاما تدعى مارينا موسكاليوفا. لا شيء مميز، مقتولة في المتنزه نفسه، وفي رأسها قد غرزت زجاجة فودكا. لا شيء مميز سوى تذكرة القطار التي وجدت في جيب معطفها. أخيراً، أمل جديد في القبض على وحش المتنزه. قامت الشرطة بتفحص كاميرا مراقبة محطة القطار بعناية لترى عم إذا كانت مارينا تتمشى وحدها أم برفقة أحدهم.

وبعد يومين من العثور على جثة مارينا تعرف ابن مارينا جثتها، وأدلى بمعلومة أحدثت فارقا عظيما في القضية وهي أن والدته تركت ملحوظة في المنزل حول أنها ستخرج مع شخص يدعى ساشا، وقد كتبت أيضاً رقمه.

كان الرقم مسجلا باسم شاب يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عاما، اسمه الكامل هو أليسكندر بيتشوشكن يعمل في سوبرماركت. ومن الجدير بالذكر أن الاسم اليكسندر يختصر عادة في روسيا إلى ساشا.

وفي أثناء ذلك، تثبت المحققون من كاميرات المراقبة الخاصة بالقطار، فوجدوا الأم العزباء مارينا تمشي حقا برفقة رجل غريب، فعرضت مقاطع فيديو كاميرات المراقبة آخر لحظات مارينا وهي برفقة إليكسندر الذي كان يحمل معه حقيبة بها مطرقة وقد عزم بالتأكيد على قتلها.

في مساء السادس عشر من حزيران تم القبض على إليكسندر بيتشوشكن الذي كان هادئا جدا ورافضا لجميع التهم التي وجهت إيه. ولكن تلك الملحوظة التي تركتها مارينا وا للقطات التي تثبت وجوده معها قبيل وفاتها كانت تقف ضده وتزيد من تأكيد المحققين أن إليكسندر هو المجرم المنشود.

مضت ساعات طويلة في التحقيق معه، ومحاولات كثيرة لاعترافاته أدت في نهاية المطاف إلى نتيجة إيجابية وهي اعترافه بقتله هلمارينا، التي تعرفته في عملها وبدأت تواعده حتى خططا للذهاب إلى نزهة في متنزه بيتسا، وهناك ارتكب إليكسندر جريمته.

وعثرت الشرطة أخيراً بعد ثمانية شهور من العمل الشاق ورحلة البحث عن القاتل، على الوحش الذي كان في اعتقاده أنه قتل 14 ضحية في المتنزه. ولكن ما أدلى به إليكسندر كان الصاعقة، وهو العدد الحقيقي للجرائم التي ارتكبها؛ وهي إحدى وستون جريمة قتل!

ما أدلاه صعق المحققين وأثار دهشتهم، وهنا وجب عليه إثبات ذلك، وإلا فلن تسجل عليه سوى الأربع عشرة جريمة المثبتة. ويا لدهشتهم الأخرى، لم يخف إليكسندر من ذلك بل على العكس فقد ذهب معهم إلى المتننزه حيث اعترف أن جميع تلك الجرائم قد ارتكبها هناك. فبدأ بإرشاد الشرطة إلى أماكن ضحاياه الذين دفن بعضهم ورمى بعضهم في الآبار المنتشرة على طول المتنزه وعرضه. فتم التثبت من كل جثة وجريمة، ثم إثباتها عليه.

غريب جداً وغامض، حاد جداً في تذكره للتفاصيل؛ فقد كان يروي كل ما قام به بدقة.. لم ينس شيئاً. دهشه المحققين منه وذهولهم جعلهم يبحثون مليا عن السبب وراء ارتكابه كل تلك الجرائم لأشخاص لم تكن تربطهم به أي صلة.

وفي أثناء تفتيشهم شقته كانت الصدمة.

عثروا على لوح شطرنج مرقم ب 64.. هذا عدد رقعات الشطرنج الاعتيادي، ولكن كانت الأرقام الموضوعة هي من العدد 1 إلى العدد 61. كان كلما ارتكب جريمة قام بتثبيت رقمها على اللوح.

فقد كان هدفه أن يقوم بارتكاب أربع وستين جريمة قتل ليكمل بذلك رقعة الشطرنج القاتلة. كنت كالأب لأولئك الناس، أنا من فتحت لهم البوابة إلى عالم آخر. - هذه إحدى مقولات إليكسندر في أثناء تحدثه إلى الطبيب النفسي. كان مهووسا بالقتل، يفعله تماما كما يشرب الماء.

في نهاية المطاف تم إثبات تسع وأربعين جريمة قتل ارتكبها اليكسندر، الذي يلومهم على عدم اجتهادهم في إثبات بقية الجرائم، مقسما أنه ارتكب أكثر من تسع وأربعين. وفي الثالث عشر من أيلول عام 2007م كانت محاكمته، التي سئل فيها عم إذا كان نادما أم لا؟ فكانت إجابته أنه نادم حقا على شيء واحد.. وهو أنهم قبضوا عليه مبكراً قبل أن يكمل باقي جرائمه.

كان إليكسندر مجنونا لا شك في ذلك، ولكن بتأكيد الأطباء أقروا أن أليكسندر كان يعلم تماما وواعيا لما كان يفعله. وفي التاسع والعشرين من تشرين الأول حكم عليه بالسجن مدى الحياة، وهو الحكم الذي أرضى كثيرين ضد أخطر السفاحين في تاريخ روسيا.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا