25. كيف نواجه أسئلة أولادنا
عائلتنا عائلة سعيدة بكل معنى الكلمة. فنحن زوجان في العقدين الرابع والثالث، لنا ثلاثة أولاد: صبيان توأمان في الحادية عشرة وبنت في الثامنة من عمرها، وهم مجتهدون في دراستهم. زوجتي تعمل موظفة وأنا أعمل بالمحاماة.
كثيراً ما نستمتع بأحاديث الأولاد ونبادلهم أخبارنا وآراءنا، فيروعنا منهم سيل من الأسئلة لا ينقطع، قد نقف منها موقف الأعجاب والدهشة أو موقف الضحك والتسلية أو موقف الحيرة والعجز، أو موقف التردد والتبرم .. حسب ما يكون للسؤال من دلالة في أذهاننا، وكثيراً ما يعجب الأطفال لهذه المواقف، فتنال أعجابهم حيناً ويألمون لها أحياناً.
سؤالي كيف نجابه أسئلة أولادنا؟
منصور. س
قد يدهش البعض أن يعلموا أن مستقبل الطفل في سلوكه واتجاهات حياته ووجهات نظره يتوقف إلى درجة كبيرة على السبيل التي نعالج بها ضروب أسئلتهم في مواقفهم المختلفة. وليس شيئاً هيناً ولا فناً رخيصاً تناول هذه المواقف التي تحتل فيها أذهان الأطفال بأذهاننا، ودوافعهم واستجاباتهم بدوافعنا واستجاباتنا. فعلى نوع العامل بين الطفل وبيئته ومن يعيش بينهم في سن طفولته الأولى تقوم مستوياته السلوكية وانهاجه التعبيرية في مستقبل أيامه. ولعل أهم أداة للتعامل في هذه السنوات هو السؤال أو ما يقوم في الوظيفة السيكولوجية. فأكثر ما يصدر عن الطفل في ذلك الحين: إما سؤال صريح صاغه ألفاظاً، أو سؤال ضمني صاغه فعلاً أو عملاً يقصد به نوعاً من التجربة في بيئته ليعرف من ردود الأفعال المختلفة نحوه تلك القيم التي تأخذ بها البيئة وهو يجهلها وتلك المعاني التي تراها في الأشياء ولا يدركها.
وإذن فنحن أمام ظاهرة: اشكالها في نوع الوظيفة السيكولوجية التي يؤديها السؤال بعيداً عن ظاهر دلالته، وعمقها في تنوع ضروب الأسئلة وما تشير إليه من دلالات مختلفة في المواقف المتباينة، وخطرها في تحديد مستويات السلوك وانهاج التعبير.
وعلى ذلك، فللسؤال وظيفة سيكولوجية هامة، ذات وجهات ثلاث: الأولى تعبيرية والثانية معرفية والثالثة عملية سلوكية.
فمن الوجهة التعبيرية نقصد أن السؤال كثيراً ما يكون تعبيراً عن حاجة نفسية يشعر بها الطفل، كمشكلة انفعالية اعترضت سبيله وأراد التعبير عنها ... فجاء تعبيره بشكل سؤال. ومثل هذا السؤال لا يجوز أن ينظر إليه في ذاته بقدر ما ينظر إلى الدافع إليه، ولا يجوز الاهتمام بالإجابة عليه بقدر الاهتمام بمعالجة السبب الذي دفع الطفل إلى هذا السؤال.
أما الوجهة المعرفية فهي كسابقتها تختلف باختلاف وجه الصعوبة، فيقصد بها أن السؤال يحمل رغبة في الوقوف على جوهر هذه الصعوبة إلى جانب التعبير عن شعوره بها. وهكذا يقال أيضاً في المواقف التأملية والتفكيرية.
وفيما يتعلق بالوجهة السلوكية فيقصد بها أن كل سؤال يتضمن كما أشرنا من قبل رغبة في استجلاء حقيقة الشيء المسؤول عنه من ناحية، ورغبة في معرفة طريقة استخدامه أو الوقوف منه من ناحية أخرى. فالطفل الذي يسأل عن سر عدم رؤيتنا الله يريد شيئين: السبب في عدم الرؤية ثم الوسيلة التي يمكنه بها أن يراه أو أن يتجنبه أطلاقاً. ولقد تبدو هذه الوجهة ضعيفة وغير ملحوظة في المواقف التأملية والتفكيرية. ولكن إذا اعتبرنا التفكير في شيء ضربا من السلوك ينتهي عند الوقوف على موضوع التفكير وعناصره وخصائصه أمكننا أن نتبين وضوح هذه الوجهة السلوكية في الوظيفة السيكولوجية للسؤال.
كل هذا يفسر لنا أن الوظيفة السيكولوجية للسؤال إنما هي وظيفة ديناميكية ترتبط بالمجال الحيوي كله للطفل بما فيه من نواح وجدانية وإدراكية وسلوكية .. بحيث إذا نظرنا إلى الأسئلة جميعها على اختلاف أنواعها وصيغها ألغيناها مؤيدة لما نذهب إليه.
ومن أهم الدلالات السيكولوجية للأسئلة يمكن النظر إليها من ناحيتين: الأولى تطورية والثانية تكوينية. فمن الناحية التطورية يمكن القول أن أسئلة الأطفال حتى سن الرابعة تمتاز بتمركزها حول الطفل نفسه في حاجاته البيولوجية والنفسية كعلاقته بوالديه مثلاً، أما في المرحلة التالية حتى سن السابعة فتنصب أكثر الأسئلة على علاقات الطفل بالمجتمع الأسري الذي يعيش فيه، من مكانته من أفراد الأسرة وموقفه من قوانينها ومبادئها حين يبدأ نشاطه شاملاً لأكثر أنواع النشاط التي يقوم بها الكبار فنستطيع أن ندرك بوضوح الناحية الانفعالية التي تكمن وراء أسئلته. أما في المرحلة من السابعة إلى الثانية عشرة فنجد في أسئلة الطفل اهتماماً بالموضوعات الخارجية يتفق مع نمو الطفل النفسي وانتقاله من الذاتية إلى الموضوعية أو الغيرية فتدور أسئلته في جانب كبير منها حول المظاهر الطبيعية والكائنات الحية ووظائف الأشياء ومنافعها .. حتى إذا بلغ سن المراهقة شملت أسئلته جوانب أخرى نتفق مع مشاكله في هذه السن كالنواحي الاقتصادية والعقائد الدينية والنظم الاجتماعية المتعلقة بالزواج والحب.
أن للسؤال دلالة كبيرة على وجود التوازن في الشخصية أو انعدامه. ويستطيع المتتبع لأسئلة طفل ما أن يلحظ الصراع الذي يعتمل في داخله ويهدم كيانه أو يلحظ الهدوء والاتزان والتكامل الذي يتيح إليه في يقين وثبات: ومن السهل أن نتبين من سير بعض الأسئلة نوع الأزمة النفسية التي يعانيها الطفل، وأن نلحظ أهمية العناية بها وبطريقة الإجابة على أسئلته. وكما أن للأسئلة دلالة كبيرة على وجود التوازن فكذلك لها صلة كبيرة بالتفكير من الوجوه المختلفة المتعلقة بالذكاء والمنطق والخرافة، فكثيراً ما تكون الأسئلة دالة على الذكاء، ولو أن أكثر اختبارات الذكاء اللفظية قامت على إجابات لا على صياغة أسئلة. غير أنه مما لا شك فيه أن السؤال يحمل دلالته الخاصة من هذه الناحية لأن الإجابة عن سؤال إن دل على إدراك علاقات معينة في المشكلة المراد حلها، وهو جوهر الذكاء كما يرى سبيرمان، فإن صوغ السؤال أيضاً، عبارة عن التنبه إلى علاقة ضرورية بين بعض عناصر الموقف الذي تمكن الطفل من فهمه، فعالج بعض أجزائه وعسر عليه معالجة جزءاً آخر سأل عنه.
يبقى أن العامل الانفعالي من أهم العوامل في تفسير الأخطاء المنطقية في تفكير الأطفال بجانب العوامل الأخرى المؤثرة في المجال الإدراكي في المواقف العادية. ولعلنا نستطيع أن نتخذه أساساً في تفسير الخرافة والسحر اللذين قد نلحظ علائمهما في تفكير الطفل فتقرن بتفكير الرجل البدائي. إننا إذا التجأنا إلى نظرية اللاشعورية وعمله عند فرويد لوجدنا ما يساعدنا على تفسير هذا الجانب. فإن اللاشعور وهو مرتبط بالجانب الانفعالي لا الجانب المنطقي - إنما يعمل على أساس قاعدة التشابه. وقاعدة التشابه الوجدانية إنما تقرن بين الأشياء بحسب آثارها فينا. كالربط بين سطل ماء وسيدة أو بين عصا غليظة ورجل، فإن الطفل الذي يقول (هذه فلانة) مشيراً إلى سطل الماء، وهذان فلان، مشيراً إلى العصا الغليظة لا يفسر قوله إلا بأن الأثر الفعال الذي تركه سطل الماء في نفس الطفل شبيه بالأثر الانفعالي الذي تركته تلك السيدة في نفس الطفل، فربط بينهما. ومن أجل هذا لم نكن ننتظر في المواقف التي يسود فيها الانفعال أن نرى تعلقاً بالقيم المنطقية.
كما أن الاهتمام الذي يعطيه المرشدون لمادة الإجابة عن أسئلة الأطفال لا يجوز أن يصل إلى حد الارتباك والحيرة أو الضيق والانتهار. فهذه الاستجابات أبلغ أثراً من المعلومات التي يريد الطفل الوقوف عليها بينما يريد البالغون إخفاءها عنه .. فليس هنالك أقل ضرر من الأدلاء بالمعلومات والإجابات إذا التزم فيها جانب الصدق والاقتصاد. ونعني بالصدق عدم التمويه أو الإجابة الخاطئة، أو الامتناع عن الإجابة بحجة عدم المعرفة مع إشعار الطفل بكذب هذا الادعاء بأنك تخفي عنه أشياء تعلمها .. ونعني بالاقتصاد استخدام الألفاظ والمدركات التي يتعامل بها الطفل بحيث لا يكون هناك مبرر للدخول في تفصيلات أو الادلاء بمعلومات لا يستطيع أن يفهم حقيقة مدلولها لبعدها عن جوه أو لعدم نضجه. ففي المسائل الجنسية مثلاً يجب أن تعطى إجابة صحيحة عن كل ما يسأل عنه الطفل ولكن بالقدر الذي يحتاج إليه والذي يتعامل معه في بيئته ومشكلاته. فلا الصراحة الكلية محمودة ولا التكتم الشديد صحيحاً.
أخيراً .. فإن الإجابة على سؤال قد تستتبع أسئلة أخرى تكون الإجابة عليها عديمة الفائدة ما لم يعالج الدافع الذي يكمن وراءها. فالطفل الذي يشعر بارتجاج مكانته في الأسرة لمولد طفل جديد لا تحل مشكلة الإجابة عن سؤاله (من أين يأتي الأطفال؟) بأية إجابة علمية، وإنما تحلها معالجة الدافع بسلوك عام في المنزل يعيد للطفل أمنه. وكما يجب الاهتمام بالدافع يجب كذلك الاهتمام بميول الطفل العلمية والعملية بحسب ما تكشف عنها أسئلته لنقوم على تغذيتها وتنميتها. ولعل من بين أحدث الدراسات السيكولوجية الهامة اليوم ما يدور حول الكشف عن ميول الأطفال بدراسة أسئلتهم. فإن ذلك مما يسهل عملية توجيههم في الحياة باتخاذ أسلوب سلوكي عام نحوهم يكفل لهم النمو السوى المزدهر.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا