لعنة الحب
بعد هبوط الطائرة، فتحت الأبواب وسارع الركاب إلى مغادرة الطائرة، منهم من تمنى السلامة لنا ومنهم من أمطرنا بجمل كراهية تصب معظمها على قائد الطائرة، اتهموه بالإهمال، ومنهم من استطرد في شكر الرحمن على نجاته من موت محتمل، لكننا نحمل جميعًا ذلك الإحساس المرعب بقرب الموت لنا ومدى ضعفنا مهما تظاهرنا بالقوة.
بعد خروج الركاب جلست منهكة بين يدي طبيب الطوارئ الذي قدم لي الإسعافات الأولية للحرق الذي في يدي، جلس كل منا في مكان ما وحيدًا يحاول ترتيب أفكاره، كم كان قريبًا منا شبح الموت اللعين، وكم هو مرعب الرحيل فجأة!
اجتمع بنا الكابتن وحاول شرح أسباب الهبوط المفاجئ للطائرة، وأنه كان يحاول تفادي المطبات التي فاجأتنا، أعتذر مرارًا وتكرارًا، ثم أخبرني أنه سيكتب تقريرًا مفصلاً وسيرفق معه روشتة الطبيب الذي أوصى بإعطائي يومين راحة مع استشارة طبيب جلدية.
بدأ الجميع في الاستعداد للعودة وجلست أنا في كابينة القيادة حتى ينتهي الركاب من الدخول، وكانت الفكرة المسيطرة علي هي (أنني غير محظوظة), وبدأ عقلي يجتر ذكرياتي المؤلمة المختزنة في ذاكرتي، بداية من التحاقي بجامعة لم أخترها، كانت رغبة والديا اللذين حثاني على التفوق فيها كي يتم تعييني معيدة وانصعت لنصائحهما، بالفعل كان ترتيبي الأول على دفعتي في السنة الأولى والثانية، إلى أن جاء دكتور علم النفس، شخص مريض نفسيًا يعشق التملق وينتظر من الطلبة أن تندفع لتقبيل يده لنيل الرضا، لم أكن منهم، وبناء عليه أصبحت من المغضوب عليهم، حتى أنه قال في صراحة (لن أسمح بتعيينك وسوف ترين), وبالفعل استغل منصبه في التلاعب بنتيجتي كي لا يتم تعييني ولقد نجح، حيث تخرجت في الجامعة بترتيب الخامسة على الدفعة وقد تم تعيين الأوائل الأربعة فقط.
وكانت تلك أول جرعة ظلم أتذوقها في حياتي، ثم عملي بماسبيرو مع سيدة حقودة وغيورة، كانت مديرتي المباشرة في إحدى القنوات التليفزيونية الخاصة حيث تم اجتيازي اختبارات المذيعات وتعييني مذيعة في تلك القناة بعد تخرجي مباشرة، ولكن للأسف تلك السيدة تفننت في قهري أنا وكثير من المذيعات الجدد كانت الغيرة تنهش في قلبها مما دفعها لوقف حالنا وإبعادنا عن الشاشة وتكسير همتنا إلى أن قررت أن أترك لها الجمل بما حمل6، وأخيرًا رحلتي الأولى والتي انتهت بحرق في يدي ورعب في قلبي من الموت أثناء الطيران.
جميعنا قادرون على تحويل حياتنا إلى مأساة والعكس أيضًا إذا نوينا ذلك، تلك القدرة التي كتب عنها الكثيرون من أطباء النفس والأبحاث التي تتحدث عن طرق ترويض النفس على تقبل الحياة والتحكم في الأفكار لتحويل كل طاقاتنا السلبية لإيجابية مما يحث العقل على الشعور بالسعادة بدلاً من التعاسة.
قدم لي الكابتن طبق مكسرات راجيًا مني أن أسامحه، كم كان رجلاً كريمًا، قال لي رغم أنك تعرضت لتجربة صعبة في أول رحلة لكن هكذا الحياة تبدو صعبة لكنها أسهل مما نتخيل، أليس ممتعًا أن تجلسي معنا وتشاهدي جمال الكون.. كانت كلماته مريحة لي وكأنني وضعت بعضًا من البلسم على بشرة جافة فبدأت تلين، كنت في حاجة لأن تلين روحي لجمال الحياة.
بدأت الطائرة في الإقلاع وتحللت أنا من طاقتي السلبية وأحزاني وقررت أن أنعم بتلك اللحظات الجميلة، استحضرت أغنية من أغنياتي المفضلة ودندنت لحنها وأنا أنظر لتلك البقعة الخضراء الرائعة الصامدة بجبالها التي تحتضنها وكأنها تحميها من الغرباء، سمعت صوت مساعد الطيار يدندن معي، انضم لنا الكابتن وتظاهر بالغناء معنا رغم أنه لا يتحدث العربية لكنه أراد مشاطرتنا، تلك اللحظة النقية بجمالها من اللحظات التي تخفف عنا ملل الحياة.
في طريق العودة لم يكن معنا ركاب في درجة رجال الأعمال، حيث كانت الطائرة صغيرة منقسمة لدرجتين السياحية ورجال الأعمال، جلست أنا وآمال نستمتع بعصير البرتقال الفريش ونتجاذب الحديث، شعرت بالألفة تجاهها، كانت ترسم ابتسامة جميلة على وجهها طيلة الوقت، أؤمن بأن الابتسامة الحقيقية هي مفتاح لكل القلوب، هي إشراقة روح وإطلالة نفس وبلسم للألم ودواء الحزن، للابتسامة سحر خلاب يستميل القلوب، وقلبي دائمًا معلق بكل ما هو جميل، بدأت أتحدث معها عن المغرب وعن صديقتي حفصة وعن عشقي للشاي المغربي.
لمست مسحة حزن في عيونها رغم محاولاتها المستميتة في إخفائها، سألتها مباشرة عن سبب ذلك الحزن المستتر، فأنا لا أجيد فن التحوير، لطالما كنت مباشرة وأعشق الوضوح، أجابتني باستسلام "إنه الحب".
كيف يكون الحب سببًا للحزن. أليس الحب ترياق السعادة! كنت وقتها ساذجة في فهمي للحب وللحياة وللناس، علمت منها أنها بسبب الحب أضاعت 5 سنوات من عمرها في انتظار المحبوب أن يتوج حبه لها أمام العالم ولكن للأسف لم يكن المحبوب سوى شبه إنسان أستباح قلبها وسرق منها شبابها وحبها للحياة، هزم قلبها وتملكه وأصبح هو سيدها وأبى أن يتوجها ملكته.
"الحب الحقيقي لا يطفئه حرمان.. ولا يقتله فراق.. ولا تقضي عليه أية محاولة للهرب منه.. لأن الطرف الآخر يظل شاخصًا في الوجدًان". - مصطفى محمود.
حدثتني آمال عن محاولاتها في الخلاص من حبها الذي انهك قلبها لكنها لم تقو على تحمل لوعة الفراق. تهجر ثم تعود مثل الطائر الذي يعود للقفص وهو يعلم أنه سجن. تعجبت كثيرًا من ذلك الرجل الذي صنع جرحًا عميقًا بقلبها وتركها تصارع الحياة للبقاء، هل يعد بشرًا مثلنا؟ كيف يهنأ بحياته وقد انتهك قلب وروح فتاة بريئة حالمة مع سبق الإصرار؟!
إنها "لعنة الحب".
"قد نضيق بالحب إذا وجد، ولكن شد ما نفتقده إذا ذهب". نجيب محفوظ.
لم أجد كلمات تواسيها، وأي كلمات تلك التي تواسي قلبًا مكسورًا جريحًا، لكن دموعي كانت أقرب لها من كلماتي، تلك الدموع التي تشاطرني لحظات فرحي وحزني، ألمي ومهجتي، تلك الدموع التي لا تتوانى في إحراجي ولا أقوى على منعها من احتلال وجنتي في أي لحظة شاءت.
بعد إعلان الاستعداد للهبوط، بدأ زملائي في تجهيز الطائرة والركاب للهبوط بسلام وجلست أنا في كابينة القيادة، لكن في تلك اللحظة كنت أشعر بغصة وخوف، ماذا لو كنت مكانها؟
حملت مخاوفي وغادرت الطائرة مع زملائي متجهين للمبنى الفني، وهناك تناسيت تجربة آمال بعد أن قبلتها متمنية أن أراها ثانية وبقي معي جرح يدي الذي كان سببًا في بقائي يومين بدون عمل.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا