(21)
ابتسمت حنين ابتسامة بلهاء أعرفها جيداً وقالت في سعادة.
يجب أن أعترف لك.. تبادلنا أرقام هواتفنا يوم زيارة سليم، ومن وقتها لم نتقطع عن الكلام، عن معرفة أدق تفاصيل حياتنا اليومية، عن الاهتمام يا فريدة.
ابتسمت بدوري وقلت لها بثقة:
كنت واثقة من هذا يا حنين، أتظنينني بلهاء لم أفهم لغة الإعجاب بينكما.
ضحكت وقالت:
لم أكن أعلم أنك لئيمة إذا.. وجدت به كثيراً ما أتمنى.. هل يدوم كل ذلك؟
قلت في صدق..
لا ضمان لشيء في الدنيا، عليك أن تستمعي بالحاضر ولا ترهقي ذهنك بالمستقبل.
دخلت أمي الغرفة حاملة القهوة ومخبوزات تصنعها بنفسها في البيت، تناولتها حنين من أمي وشكرتها، لاحظت نظرات ود بينهم، كانت أمي لا تحب حنين في الماضي لكنها بدأت ترحب بصداقتنا الآن بعد أن أطمأنت لها، ربما كانت مثلي تحكم بالمظاهر أيضاً، انصرفت أمي فسألتني حنين:
أصبح عملا علاقتك بيونس أشهراً الآن.. هل استمرت شعلة الفضول بينكما؟
قلت:
أشهر قليلة في عمر أية علاقة هي وقت قصير، لكن ما نحياه في هذا الزمن يجعلنا نفعل كل شيء في سرعة، التكنولوجيا دمرت كثيراً من معاني الحب التي نراها في الأفلام القديمة والتي حكى لنا آباؤنا عنها، مشاعرنا اختصرت في ةِّمىجية ، لم يعد الأمر بتلك الحلاوة، لذلك أكرر عليك نصيحتي.. استمتعي بما لديك الآن، الأحاسيس المرهفة والسعادة الغامرة لمجرد رؤية اسمه يتصل بك، الضحك معا، الشغف والمشاركة اليومية لأشياء قد تبدو تافهة، ربما لا تحصلي عليها غداً لأي من الظروف أو الملل أو المسئوليات، هذا ما أراه دوما حولي.
بدأت حنين تشرب القهوة وتنظر في عيني مباشرة، ففهمت ما تقوله عيناه وأجبتها.
أنا ويونس على خير ما يرام، هو فقط مشغول بأمر الكلية وما يحدث للطلبة بالطابق الثالث ربما أكثر مما هو مشغول بي ومعي، وبالتالي لا تستقر الأمور على وضع، مشاكسات في بعض الأوقات، وباقي أوقاتنا تذهب في حديث عادي أو مراجعات دراسية، أحيانا أقلق على علاقتنا، أتمنى لو أنهي دراستي فيها ويعمل هو بمكان آخر.
تركت حنين القهوة وقالت في جدية:
يونس شخص مسئول، يشعر بالمسئولية تجاه كل من حوله، عندما يكون في الكلية أشعر أنه يريد أن يحمي كل الطلبة، عليك أن تفخري بهذا يا فريدة، كما قلت لك سابقا هذا الرجل نادر، في عصرنا تتذمر الرجال من المسئولية وتهرب منها، اعذريه.. إن توالي الأحداث المريبة في الطابق الثالث أمر محير، ولا تنسى أن الأمور التي حدثت معنا كانت أكبر مما يرويه الطلبة.
قلت:
الشيء الوحيد المشترك في روايتهم هي تلك المرأة التي يرونها تروح وتجئ بالطرقة دون توقف!
قالت حنين:
وصوت الصرخات.. وكذلك صوت العزف والكركبة المنبعثة من غرفة مخزن الهالك كل يوم بعد الغروب! أتعلمين أنني لا أتحدث في الأمر ليلا أبداً حتى ولو كنت في بيتي؟
قلت:
مكان عجيب، لا أعلم كيف يبقون على استمرار الدراسة فيه إلى الآن!
نظرت حنين إلى ساعتها قامت منتفضة ثم قالت:
لن أذهب اليوم للكلية.. يجب أن أذهب مع أبي إلى المشفى، ويجب أن تقابلي أنت يونس في الكلية.. فلتستعدي حتى لا يسرقنا الوقت، مازلنا في الصباح الباكر، هاتفيني بعد أن ينقضي اليوم.
انصرفت حنين وبدأت بالفعل أستعد للذهاب إلى الكلية، وعندما وصلت رأيت العم سيد عند البوابة بشرب كوبا من الشاي، عندما رآني نظر في الاتجاه المعاكس يتحاشى النظر إلي فتجاهلته، ذهبت لمقابلة يونس في الكافيتيريا كما اتفقنا، بدا يونس مرهقا قلقا، بجانبه كثير من أكواب القهوة الفارغة، سألته في قلق..
يونس.. ماذا حدث؟
احتضن يدي بين يده دقيقة وهو يسلم علي، ثم قال..
فريدة.. كنت أنتظرك..
جلست وقد تضاعف قلقي عليه وقلت..
يبدو أن الأمر خطير؟
نعم هو كذلك..
علت دقات قلبي وفكرت أنه يريد إنهاء علاقتنا، هذا وجه يقول كل شيء، استجمعت قواي وتظاهرت بالقوة وقلت:
لا عليك.. فلتقل ما ترغب في أن تقوله.. كلي آذان صاغية. ابتسم يونس ابتسامة محيرة وقال..
في الفترة الأخيرة اقتربنا أكثر، عرفنا الكثير عن شخصياتنا، توافقنا واختلفنا، لا أنكر أنني استمعت برفقتك..
قاطعته:
لكن..
قال على الفور وهو لا ينظر إلي..
لكن كان هناك بعض المشاحنات، التي ولا شك تعلمنا منها.. لا أعرف ماذا أقول في الحقيقة..
قلت وأنا أكبح دموعي:
قل ما شئت.
انتظر قليلا وأنا أقاوم دموعا في طريقها لا محالة ثم قال وهو ينظر في عيني بجدية:
فريدة.. يجب أن نعلن خطبتنا، لا أطيق صبراً، كنت أفكر في الأمر طوال الليل، ماذا تريدين التريث أكثر من هذا؟
تنفست الصعداء ونزلت دموعي رغما عني، تأثر يونس وقال:
علمت ما كنت تفكرين فيه يا حبيبتي، على العموم لقد تحدثت بالفعل مع والدتك عبر الهاتف البارحة، يجب أن تشكري حنين، لأنها قامت بترتيب كل شيء بيننا، بل مهدت كل شيء لي. غلبتني فرحتي فعلا صوتي قائلة:
لم يقولا لي شيئا اليوم.. لهذا كانت الأجواء غريبة بينهم.. الآن فهمت.
قال يونس:
إن لك صديقة تتمنى لك الخير من كل قلبها، اتفقنا أن تفاجئك.. سوف نزوركم بعد الغد إن شاء الله لقراءة الفاتحة، ثم نعلن خطبتنا يوم التخرج، أتعلمين أنه سيكون الموافق يوم ميلادك أيضاً.. أنا لا أنتظر ردك، أنا أخبرك ما سيحدث فقط.
ثم ابتسم برقة وضحكنا معا وشعرت أنه لم يعد يهتم بنظرات المحيطين بنا كثيراً، فهو رجل يحترمني في كل الأحوال، لم يصدر منه تصرف واحد يخجلني أو يضعني في موقف محرج، ارتسمت ملامح جدية على وجهه وقال:
اليوم.. اتبعيني بدون أسئلة، سوف تعرفين كل شيء لاحقا.. اتفقنا؟
قلت وأنا أنظر في عينه وقد غمرتني الفرحة:
أتبعك حتى آخر عمري.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا