قصة السؤال
مر علينا الوقت بطيئاً ونعن الأربعة مراد و أسامة وراشد ومحدثكم سالم جلوس نفكر باستغراب اختفاء صديقنا شادي المريب! تبادلنا النظرات فيما بيننا وكادت الشكوك والأفكار السوداء التي عصفت برأسنا أن تدمرنا! هل قتل شادي؟ ومن الذي قتله؟ وهل يعقل أن يكون القاتل من العالم الآخر؟ ومن الذي اتصل بشادي على هاتفه تلك الليلة ونحن في المزرعة وجعله يغادر على عجل بعد أن تملكه الرعب وبدت علامات الشحوب مرتسمة بشكل واضح على وجهه! حدث كل ذلك منذ ثلاثة أيام بينما نحن نشاهد بشكل عرضي البرنامج الغير معلوم المصدر والذي كان يعرض على تردد جديد من محطة لم نسمع بها من قبل تبث برامجها من إحدى الدول الإفريقية!
كنا نتابع برنامجاً وثائقياً عن قرية أصابها وباء غريب جعل كل سكانها يعانون من أعراض مرضية غاية في الغرابة وليس لها تفسير علمي تقود الذين يصابون به إلى الموت في نهاية المطاف! بدأ الوباء بالانتشار دون سابق إنذار وبسبب قصاصات أوراق صفراء تحوي أسئلة كتبت عليها. تناثرت عن طريق الجو في أماكن متفرقة من أرجاء القرية والغريب في الأمر أن من يقرأ تلك الأسئلة يتوجب عليه الإجابة الفورية أو أنه سيواجه مصيره في الحال ويتعرض لذلك الوباء الغريب!
كانت اللقطات والمشاهد تتنقل بين صور لأطفال لم تتجاوز أعمارهم السبع سنوات وقد سقطوا جثثاً هامدة بعد أن قرؤوا المكتوب في تلك القصاصات! كانت الأسئلة تدور في عقولنا ونحن نشاهد تلك المناظر المؤلمة فما هو ذنبهم الذي اقترفوه ليجازوا عليه بالموت بتلك الطريقة البشعة؟ وهل ذنبهم أنهم ولدوا في تلك القرية المشؤومة لتحصد أرواحهم بلا رحمة؟ أم يا ترى ذنبهم هو: سوء التعليم في القرية وقلة الاهتمام بهم الذي أدى إلى سقوطهم فرائس سهلة لتلك الأسئلة الشيطانية التي لم يتمكنوا من فهمها والإجابة عنها! ولماذا لم يتم استثناء الأطفال والعجائز من هذه الأسئلة اللعينة! هل الرغبة في إبادة جميع من في القرية بلا استثناء هو السبب! هل يا ترى ما يحدث هو آخر ممارسات وأفكار النظام الاستعماري في القرن 21. بأن تبيد حضارات وثقافات وتاريخ شعوب عاشت في مكان ما لتحقيق غاية وأطماع معينة!
استمرت المشاهد تتوالى ونحن متحلقين أمام التلفاز. عرضت لقطة لعجوز طاعنة في السن في منتصف البرنامج تعاني من حالة صحية سيئة ومن وضع تعيس بعد أن تركت في العراء بلا رعاية.
أخذت تلك العجوز بعضاً من الأوراق المتساقطة في الطريق ومن بينها تلك القصاصات الصفراء فقامت بحرقها بحثاً عن الدفء فئ ذلك اليوم البارد وما هي إلا لحظات حتى سقطت العجوز المسكينة تتلوى من شدة الألم وبدأت الأدخنة تتصاعد من جلدها بشكل غريب جداً. كان مصدر الدخان قادم من داخل جسمها وخلال ثوان قليلة لمحنا لهباً عم جسدها كاملاً وقد بدأ بالتهامها وهو يتصاعد وكأن هناك من أشعل بها النار!
هذا البرنامج المرعب كان يبث بشكل حي ومباشر! وليس لدينا أدنى فكرة عن توجه القناة وتبعيتها لأي جهة أو شركة! فنحن لم نشاهدها من قبل ولا يوجد على الشاشة أي علامة أو شعار يميزها عن غيرها من المحطات، كل ما هنالك تلك الكلمة التي باتت تعني لنا كابوساً بل رعباً حقيقياً يتربص بنا وهي كلمة "مباشر"
عند انتهاء الفلم الوثائقي عن القرية، تحول المشهد إلى داخل أستوديو القناة ذي التصميم الغريب والمثير للجدل! كانت الألوان الغالبة على المكان هي الأسود وقد صبغت به الجدران جميعها وعلق عليها صور لشخصيات عديدة ومشهورة من رؤساء ودكتاتوريين ومناضلين وغير ذلك من أصحاب النفوذ والسلطة والكثير من الصور التي تبعث على التناقض والتعجب! أضف على تلك الغرابة شكل المذيع وهو يلبس عباءة حمراء وقد شذب لحيته الطويلة على شكل مثلث مقلوب يتدلى منه خيط أبيض يربط الجزء الأسفل من اللحية وهو يعتمر عمامة سوداء كبيرة الحجم!
شدنا صوت المذيع وهو يقرأ أسئلة بشكل غريب. شعرنا من نبرة صوته وكأنه تعمد توجيه تلك الأسئلة إلينا! أجل أقسم لكم بأنه كان يوجهها إلينا قائلاً:
- "يا هادي يا هادي يا هادي."
وكأنه ينادي شادي! خمنا ذلك ولكنا كنا متأكدين من أنه فعلاً ينادي شادي بسبب وصفه لأمور تخص شادي تحديداً! حيث ذكر في كلامه أموراً تنطبق بشكل لا يدع مجال للشك في أنه يوجه السؤال لنا وبالتحديد لشادي! ذكر بأنه عسكري وأنه تزوج حديثاً وسيرزق بطفل وبأنه ينوي أن يسميه على اسم والده ووصف مكان سكنه في ضاحية المدينة وبوجود علامة فارقة على خده أثر خياطة من جرح قديم! وكما يعرف الجميع بأن تلك المواصفات هي مواصفات شادي الذي وقف في مكانه مشدوها وهو فاغر فمه عن آخره!
- "يا هادي يا هادي يا هادي."
لقد سئل أناس قبلكم وسيسأل أناس بعدكم عن أسئلة مختلفة في أمور متعددة ولكنهم ومع الأسف الشديد لم يتمكنوا من الإجابة عليها خلال المدة الممنوحة لهم فلقوا حتفهم! فهل يا ترى ستجيب أنت وتنجو؟ قفز شادي من مكانه وراح يكبس على زر إطفاء التلفاز بخوف وارتباك واضحين ولكن دون جدوى! فنهض راشد وسحب سلك الكهرباء بقوة فانطفأ التلفاز حينها.
كنا قد وصلنا لمرحلة من الخوف لا يعلم بها إلا الله. أخذنا نلهث من فرط الرعب الذي سيطر علينا وكأننا تغشانا سكرات الموت! وساد المكان سكون أشبه بسكون المقابر ولا تسمع إلا أصوات التنفس وهي ترتفع من الصدور!
وفجأة. عاد جهاز التلفاز لوضعية التشغيل مرة أخرى ولكن بصوت عال جداً وظهر لنا وجه المذيع اللعين وقد ارتسمت على وجهه ابتسامه خبيثة وأكمل وكأن شيئاً لم يكن وقال:
- "خذ سؤالك يا هادي."
"من قتل هتلر؟"
وسكت المذيع وكأنه ينتظر الإجابة من شادي! "تبا له. إنه ينتظر الإجابة من شادي فعلاً!"
تبادلنا النظرات فيما بيننا ومنظر شادي وقد خطف لونه وأوشك على فقدان وعيه جعلنا نرثي لحاله! من منا يعلم الإجابة على ذلك السؤال عمن قتل هتلر؟!
قطع مراد علينا التفكير وكأنه يريد بذلك مساعدة شادي قائلاً:
- "هتلر مات منتحراً ولم يقتله أحد! أأأأعتتتقد ذلك!"
رد شادي كمن رجعت إليه روحه:
- "وهل هذا يعنى أنه هو القاتل. بعد أن قتل نفسه؟"
قاطعهم صوت المذيع قائلاً:
- "جوابك إذا هو أن هتلر قتل هتلر. أعزائي المشاهدين. حتى نلتقي بكم في الحلقة القادمة لكم مني أجمل تحية والى اللقاء.
صرخنا جميعنا وبصوت واحد:
- "مهلاً!"
ولكن التلفاز كان قد انطفأ بشكل تام!
صاح هاتف شادي بعد انطفاء التلفاز مباشرة فرد عليه بسرعة وما إن سمع صوت المتصل حتى شهق بطريقة مرعبة كالتي تحدث حين سماعك لخبر موت شخص عزيز! كان الاتصال كفيلاً بجعل شادي يفقد عقله ويجري كالمفزوع باتجاه سيارته وهو متجاهلاً كل أسألتنا لمعرفة ماذا يجرى أو من المتصل!
ها نحن الآن في اليوم الثالث بعد اختفاء شادي. بدأ القلق يتسرب إلى نفوسنا وينهش من أفكارنا عن مصيره المجهول! فهو لا يجيب على مكالمتنا الملحة والكثيرة التي يبدو أنها ومن كثرتها قد تسببت في نفاذ بطاريته! فهاتفه مغلق! وأصبح الوضع الآن جدي. فأين هو يا ترى وماذا جرى له!
نظرت إلى مراد وهو يتكلم على الهاتف وما إن انتهى من حديثه حتى سألته:
- "ماذا قال لك أبو شادي؟"
رد مراد بارتباك:
- تباً! شادي لم يعد بعد إلى المنزل. وقال لي أنه تحدث معه بالأمس وأخبره بتواجده معنا في المزرعة. كما قال لي أنه كان يسمعنا وهو يحدث شادي ونحن نتسامر ونضحك!"
- "ماذا! ولكن كيف؟"
- "أكاد أجن! فكيف يختفي منذ ثلاثة أيام ووالده يقول إنه تحدث إليه بالأمس؟"
قاطعه أسامة قائلاً:
- "وهل علم بأننا قلقون عليه وبأنه اختفى منذ ثلاثة أيام؟"
رد مراد نافياً:
- "لا لا! قلت له أننا فقدنا الاتصال معه منذ ساعتين بسبب نفاذ البطارية في هاتفه، وأنه كان في طريقه إلى بيت صاحبه ليجلب لنا بعض الحاجيات"
نظر راشد إلي وقال:
- ما العمل يا سالم! وكيف سنتصرف؟"
لا صرخت بوجهه معاتباً:
- "نحن في هذه المصيبة بسببك يا أحمق!"
رد راشد بعصبية حاول إخفاءها:
- لماذا تتهمني بأنني السبب؟ كل ما فعلته هو تغير القنوات حتى استقر بي المطاف على تلك القناة المجهولة! أنتم من طلب مني أن أستقر عليها وأن لا أغيرها فلماذا الملامة الآن! ثم إنه لا دخل للقناه في اختفاء شادي. فتلك المكالمة الغريبة التي تلقاها كانت السبب في تركه للمكان ومغادرته كالمجنون!"
كنا ننتظر سماع أي خبر عنه وقد اتفقنا على أن لا نخبر أحداً بما جرى! فنحن لا نعلم ما الذي يخبئه لنا غياب شادي. فلربما هرب من شدة الخوف حينها ولربما هو في طريقه إلينا! فقد أكد لنا والده بأنه تحدث معه فلماذا الخوف إذاً؟ كل ذلك بسبب برنامج غبي لا نعلم مدى صحته أو حتى من أين يبث!
كان راشد يذرع الغرفة جيئة وذهاباً وقد بانت على وجهه علامات الخوف، توقف ونظر إلينا قائلاً:
- "ما الحل يا ترى؟ هل تظنون بأن شادي قد مات؟ لا لا لا يمكن أن يحدث ذلك لا يمكن!"
لم يعلق أحد على كلام راشد وأطرق الجميع رؤوسهم وهم يفكرون بذلك الاحتمال.
قال مراد لأسامة:
- هل تمكنت من تشغيل السيارة؟"
- "لا. فجميع محاولاتي قد منيت بالفشل! أظن أن البطارية قديمة وأن."
قاطعنا صوت التلفاز وقد بدأ البث المباشر وعلى نفس تلك المحطة المجهولة المصدر ونفس ذلك المذيع اللعين في الخلفية يقول:
- "أعزائي المشاهدين. أهلاً ومرحباً بكم في برنامجكم الجماهيري "السؤال". وحلقة جديدة لنعرف من خلالها من سيكون الضحية التالية"
- "يا أوباما يا أوباما يا أوباما."
"لم يتمكن هادي من الفوز في الحلقة السابقة، فهل يا ترى ستتمكن أنت من الفوز والوصول إلى الجائزة الكبرى؟"
كنا ننظر إليه بحقد كبير بعد أن أنهى جملته وقد بانت على فمه ابتسامة صفراء خبيثة تليق جداً بوجهه المقيت.
- "سؤالك هو. من وراء أحداث تفجيرات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية؟"
هوت صخرة كبيرة على التلفاز بشكل مفاجئ جعلت منه أثراً بعد عين! تحطم على إثرها التلفاز بالكامل وتحول إلى قطع متناثرة في أرجاء المكان! كان أسامة هو من ضرب التلفاز بتلك القطعة وهو ينظر مشدوها تماماً وفي وضع لا يحسد عليه. كان يحدث نفسه قائلاً:
- "اللعنة عليه! السؤال موجه إلي! يا إلهي كيف أتصرف وماذا أفعل في هذه المصيبة!"
أتانا صوت المذيع من ممرات الفيلا التي كنا فيها، فهرعنا بسرعة إلى مصدر الصوت. كان تلفاز غرفة النوم قد عاد لوضعية التشغيل من تلقاء نفسه وصوت المذيع القبيح يقول:
- "تذكروا جيداً أعزائي المشاهدين قصة تلك العجوز التي أحرقت الأوراق ظناً منها أنها لا تعني شيئاً فالحذر كل الحذر أن تقوموا بما قامت به"
صرخ مراد بخوف بالغ:
- "إنه يهددنا! أرجوكم لا تحطموا التلفاز. أرجوكم."
قالها وسقط على ركبتيه كمن يتضرع وهو يندب حظه العاثر على تواجده معنا!
شد انتباهنا صوت أسامة الخائف وهو يقول:
- ساعدوني. أرجوكم! لا أريد أن أموت."
قلت له بارتباك لم أستطع أن أخفيه:
- "اسمك أسسسسامة. وقد اختارك أنت بالذات للإجابة عن هذا السؤااال. فهل من الممكن أنننتن يكووون."
قاطعني أسامة وكأنه وجد قشة يتعلق بها علها تنقذه من هلاك: محتم ينتظره! وقال بفرح:
- "أجل وجدتها. إنه أسامة بن لادن قال المذيع بطريقة تلفزيونية:
- "أعزائي المشاهدين وصلتنا إجابات مختلفة من جميع دول العالم، نشكر لكم هذا التجاوب وهذا التفاعل"
قال راشد بعصبية:
- "ماذا يعني بقوله من جميع دول العالم؟ هل هذا البرنامج مشهور ويشاهده أناس غيرنا أيضاً! وماذا سيحدث لو لم نجب على الأسئلة؟ هل هذا يعني بأننا سننجوا من الموت؟"
قلت له بحزم كالواثق من كلامي:
- "وما يدريك في حال أجبنا أو لم نجب عن الأسئلة بأنه سيحدث لنا مكروه؟ فنحن لم نفقد سوى شادي ولا نعلم يقيناً إن كان قد مات أم أنه يلهو ويستمتع في سهرة من سهراته تلك. تباً لهذا المذيع السافل لقد أفقدني عقلي بأسئلته؟"
كان المذيع في تلك اللحظات يقلب الأوراق وكأنه يستمع لحديثنا، رفع رأسه باتجاهنا وقال:
- للإجابة على استفساراتكم أرجو أن تبقوا معنا لحين الانتهاء من الفاصل"
تحولت البث فجأة إلى مشاهد قتل وذبح وإراقة دماء وتقطع أشلاء من مختلف أنحاء العالم. تصحب المشاهد المروعة تلك موسيقى "الروك أند رول" الصاخبة ممتزجة بصرخات وأصوات تفجيرات إلى أن عادت عدسة البرنامج على وجه المذيع من جديد:
- عدنا من جديد أعزائي المشاهدين وصلنا سؤال من أناس كثر يتعلق بالموضوع نفسه ألا وهو. ما هي عقوبة ومصير من لا يتمكن من الإجابة على أسئلتنا اللطيفة والخفيفة؟"
قالها وضحك بكل ثقة وأكمل حديثه:
- "إن لم تكن الإجابة صحيحة أو تركتم السؤال دون الإجابة عليه سيكون مصيركم الهلاك دون أي تردد ، ولكن إن تمكنتم من الإجابة الصحيحة فستكون الجائزة هي محافظتكم عل حياتكم. ولا أظن أن هناك أغلى أو أفضل من هذه الجائزة! أليس كذلك يا أعزائي المشاهدين؟"
كنا نستمع إلى حديثه ونشعر بدمائنا وهي تتجمد في عروقنا من شدة الخوف. ومنظر أسامة يبعث على الشفقة والقلق فهو بلا شك ينتظر مصيره المجهول الآن. جلس في إحدى الزوايا متكوراً على نفسه ووضع يده على فمه وهو ينتحب كالمكلوم على فقد عزيز!
قلت له في محاولة لمواساته:
- "لا تخف يا أسامة. فجميعنا نعلم بأن أسامة بن لادن هو الفاعل فكل العالم متفق على تلك الإجابة ولا يوجد أي جواب آخر. أمريكا قالت بأنه هو من فعلها وعرضت جميع الأدلة الدامغة. يجب أن تكون مسرورا بالحصول على هذا السؤال البسيط يا عزيزي"
ما إن انتهيت من جملتي الأخيرة حتى بدأ أسامة بالاستفراغ بشدة. فهرعنا جميعاً إليه وهو منهمك بالاستفراغ معتصراً بطنه بشدة وقد جحظت عينه! لم يتمكن من أخذ نفسه وهو يرجع ما في بطنه، استمر الحال هكذا فترة كأنها ساعات وأنا وراشد ومراد لا نعلم ما علينا فعله وكيفية التصرف في مثل هذه الحالة التي يمر بها! أمسكنا به بقوه وضربناه على ظهره بالتناوب في محاولة منا لمساعدته. لم يتمكن المسكين من التحمل أكثر فانفجرت عيناه من شدة الضغط وأخذ يفرغ أعضاءه الداخلية بعد أن فرغ بطنه من كل شيء. وسقط أمامنا على وجهه جثة ساكنة مفترشاً أحشاءه المندلقة!
اندفع مراد يجري إلى خارج المزرعة وهو يصرخ كالمجنون وأنا خلفه أحاول أن أوقفه ولكن دون جدوى. تركته بعد أن ابتعد ورجعت إلى الداخل. نظرت باتجاه راشد وقد أسند ظهره على الجدار من خلفه وهو مرتبك وعلامات الوجل بادية عليه وهنا سمعنا المذيع يقول:
- "أشكركم على حسن المتابعة أعزائي المشاهدين والى أن نلتقي بكم غداً، تقبلوا مني ومن أسرة البرنامج كل الشكر والتقدير"
وانطفأ جهاز التلفاز من جديد!
ساد المكان هدوء تام، مضت مدة ونحن على حالتنا تلك من السكون المطبق، غير رتم السكون صوت همهمة تخرج من بين شفتي راشد المرتعشتين:
- " أنا نن نننا. ننن. ااانن."
اقتربت منه كي أعي وأفهم ما يحاول قوله، اقتربت أكثر وألصقت أذناي بالقرب من فمه وسمعته يقول:
- "أنا التالي. جاء الدور علي. هلكت والله"
وبدأ يضرب رأسه بكلتا يديه وصرخ باكياً بشكل مفاجئ حتى كاد أن يصيبني بالصمم!
- "لن أموت! لاااااااا! لن أموت. فلا زلت صغيراً!"
وأخذ الهاتف النقال واتصل بالشرطة فرد عليه أحدهم:
- "شرطة المدينة، كيف لي أن أساعدك؟"
بصوت مختلط بالبكاء قال راشد وهو يستغيث:
- أرجوكم أنقذونا! إننا نموت هنا! أرجوكم لا تتركونا نموت في هذا المكان!
رد الشرطي بصوت ثابت:
- "هدئ من روعك يا أخي الكريم وأخبرنا من أين تحدثني وماذا يجري معكم بالضبط؟"
اندفع راشد يشرح للشرطي القصة من بدايتها بطريقة عشوائية مرتبكة والشرطي يستمع إليه من دون مقاطعة إلى أن أنهى راشد حديثه فقال له الشرطي:
- "لا تخف يا عزيزي. وكن رابط الجأش. هذا البرنامج الذي تتحدث عنه من أجمل البرامج التي تنقل اليوم عبر الفضائيات! وأنا. بل المركز كله الضباط والأفراد نشاهد هذا البرنامج أيضاً وننتظر أدوارنا بفارغ الصبر! ما بالك يا عزيزي. كلنا لها. لقد طال صمتنا واليوم ننال جزاءنا. هل كنت تتوقع أنك ستتابع البرامج الأخرى في جميع أنحاء العالم وتستمتع بما يعرض عليها دون أن يمسك ما مسهم أو تتعرض لما يتعرض له الناس من حولك! هل أنت ساذج إلى هذه الدرجة كي تظن نفسك أفضل من غيرك؟ وأنك ستظل في مأمن إلى الأبد!"
رمى راشد الهاتف النقال من يده وقد صدمه كلام الشرطي الغريب! وسقط على الأرض ببطء وهو يبكي ويقول:
- "هلكنا! لقد هلكنا لا محالة"
أخذت الهاتف الملقى بسرعة واتصلت بزوجتي:
- "عزيزتي هالة هل أنت والأطفال بخير؟"
ردت علي بكل هدوء:
- "نعم يا سالم كلنا بخير. وأنتم هل انتهيتم من متابعة البرنامج المشوق "السؤال؟"
وأطلقت ضحكة شيطانية لم أعهدها منها تسببت في صرعي في مكاني من دون سابق إنذار!
أفقت على صوت التلفاز وأنا أستمع إلى صوت المذيع اللعين وهو يرحب بالسادة المشاهدين من جديد. التفت حولي فوجدت راشد يجلس منكمشاً في زاوية الغرفة و . مهلاً هذا مراد موجود هنا!
- "مراد. متى رجعت إلى المزرعة؟"
مراد وهو يضحك والدموع تنهمل دون توقف:
- هل تعلم أن الخارج نفس الداخل. كنت أجري في دائرة مفرغة بدون أن أهتدي للطريق الذي أعرف مكانه. كنت أجري كالمجنون حتى وجدت نفسي وصلت أمام الفيلا هنا في المزرعة!"
- "يا إلهي ألطف بنا! لابد من التكاتف جميعاً لمواجهة مصيرنا المجهول!"
انطلق صوت المذيع:
- "أعزائي المشاهدين. نرجوا أن تكونوا مستمتعين مع ما نبثه من برامجنا المميزة لهذا اليوم. سيكون سؤالنا هذا اليوم في ذا مسحة تراجيدية ولكن لطيفة وذات طابع كوميدي وسيوجه إلى."
شخصت أبصارنا باتجاه التلفاز ننتظر السؤال وانحنت أجسامنا إلى الأمام في اندماج شديد لما سوف يقوله المذيع، فالاسم التالي سيكون هو اسم الضحية بلا شك إلا إذ ا تمكنا من الإجابة على السؤال المطروح! فهذه هي طريقة وشروط اللعبة الشريرة واللعينة التي نلعبها رغماً عنا!
- "فاصل أعزائي وسنعود لإكمال الحلقة. ابقوا معنا"
- اللعنة عليك يا خبيث. تريد أن تضفي على برنامجك اللعين طابع التشويق والإثارة على حساب حياة الأبرياء. تباً لك وسحقا لمسابقتك الغبية هذه!"
- "عدنا مجدداً أعزائي المشاهدين. وكلي حماس لألقي عليكم السؤال التالي:
ولكن قبل أن نسأل. "إليكم تذكير بشروط البرنامج. يجب عليك الإجابة. ويجب أن تكون الإجابة صحيحة وإلا سيكون المصير غير سار لكم. هذا كل شيء"
وابتسم بكل خبث واستهزاء وأكمل قائلاً:
- "يا عماد يا عماد يا عماد."
قفز مراد من مكانه وتخطى كتفي وضرب بركبته الضخمة بقوة واحتضن الشاشة وهو يرتجف من شدة الرعب.
كانت الضربة كفيله بفقداني لوعيي!
فتحت عيني ووجهي على الأرض. نهضت بتثاقل وشعور قاتل بالألم خلف رأسي. كان راشد لا يزال على وضعيته المزرية ومراد يعد له القهوة وهو في حالة طبيعية وتبدو عليه علامات الرضا واضحة.
وكان التلفاز مغلقاً!
نظرت إلى مراد ووجهت سؤالي إليه:
- "ما الذي حصل؟"
أجابني والابتسامة تكاد أن تشق وجهه من السعادة وهو يحرك الملعقة بداخل كوب القهوة.
- "لقد نفدت بجلدي يا صديقي وأجبت عن السؤال. كان الله في عونكم جميعاً. ولكن لا تخف سأقف معكم حتى النهاية وسأساعدكم على التخلص من هذا المأزق. لا أعلم بالضبط كيف سنتمكن من الخلاص ولكن سوف أجد ا لجواب المناسب حينها بالتأكيد"
جلس على الكرسي متربعاً وارتشف من القهوة بشكل درامي وأردف:
- "هذا المذيع الخبيث يظن أنه أذكى منا ويمكنه التلاعب بعقولنا ومشاعرنا. ولكن هيهات هيهات. لقد استغفل كل من شادي وأسامة المساكين وتلاعب بهم وجعلهم يسارعون بالإجابة على أسألته التي بدت لهم بسيطة وسهلة حينها. ولكن الخلاص والذكاء يكمن في التريث والتمعن في السؤال قبل الإجابة عليه"
كان مراد يتحدث بطريقة متعالية بانت عليه علامات الانتصار وبدأ يملي علينا ملاحظاته وكيفية التصرف حتى نتمكن من تحقيق النجاح والإجابة على الأسئلة مثله! لا أخفيكم أنني بدأت أحسده على ما حققه. فهو الآن في مأمن ونحن على وشك الهلاك. كان تفكيري ينصب حينها على كيفية الإجابة على السؤال الذي ينتظرني حتى أصبح في مأمن مثل مراد! سألته قائلاً:
- "وهل كان السؤال متعلقا بالسياسة؟"
- "نعم. فقد سألني من كان يحكم مصر في عام 1970. ههههه اللعين سألني سؤالاً سهلاً حتى أرتبك وأخطئ في الإجابة."
- "وبماذا أجبته؟"
- "هل تمازحني يا سالم؟ هل هذا وقت المزاح؟"
سمعت صوت راشد من خلفي بشكل مكسور وهو يقول:
- "قال له بأنه جمال عبد الناصر"
هنا أحسست وكأن ماء بارداً قد سكب علي وقد شلت حركتي تماماً! تباً لهذا المذيع الخبيث. لقد تمكن من خداع مراد المسكين أيضاً! فمراد يجهل ماذا فعل به هذا المذيع السافل. كان جمال عبد الناصر رئيساً لجمهورية مصر حتى وفاته في 28 سبتمبر من عام 1970 واستلم أنور السادات الحكم في أكتوبر من العام نفسه.
أي أن أنور السادات حكم جمهورية مصر أيضا قرابة الشهرين في ذلك العام!
يجب أن يكون الجواب جمال عبد الناصر وأنور السادات! يا إلهي ما العمل؟ هل أخبره بأنه أخطأ في الإجابة؟ أم ألتزم الصمت. وأجعله يعيش ما تبقى له من لحظات أخيرة في سعادة زائفة؟
تصارعت في رأسي الأفكار. لقد خدعنا أنفسنا ونعن نعيش في رفاهية وترف متجاهلين كل ما يحدث في العالم من حولنا! ليتني أعددت العدة لمثل هذا اليوم! وجمعت قدراً من المعلومات التي من الممكن أن أستفيد منها والتي كانت بلا شك ستساعدني أن أتخطى هذه المحنة بنجاح! سلاح العلم دائماً ما يتمكن من تخليصك من كل المنغصات التي قد تواجهك في الحياة. يا ترى هل فات الأوان لا هل أرى صديقي في خطر ولا أخبره بذلك لأن ما يهمني في المقام الأول هو أن أبقى على قيد الحياة! تباً لمثل هذه الحياة التي تجعلني لا أفكر إلا في نفسي!
نظرت إلى مراد بكل أسى وشفقة وأخذ هو يغني ويدندن بصوت مرح كالفائز في حرب كادت تودي بحياته متناسياً ما حصل لأسامة ولمصير شادي المجهول.
وبادلني مراد النظر بشفقة وقال:
- "تشجع يا سالم ولا تخف. أنا معك. لا تجب عن سؤاله حتى أساعدك. فأنت في حالة يرثى لها ولن تتمكن من الخلاص بمفردك فتفكيرك مشوش. وحتى أنت يا راشد لا تخف ولا ترتبك"
صرخ مراد بشكل مفاجئ دون مبرر:
- "تباً لك يا راشد لقد بللت الكرسي! ما هذا القرف. هل الخوف فعل بك هذا. تباً لرائحتك النتنة! أنت لا تستحق لقب رجل. الخوف سيجعل منك فريسة سهلة بلا شك!"
قاطعته بحزم وقد تغير لوني:
- "هل جننت يا مراد؟ لماذا تعامله باحتقار هكذا؟"
- "ألا ترى كيف بلل نفسه كالطفل؟ أنا أكره الجبناء ولا أطيقهم"
- "لقد كنت في حالة يرثى لها منذ قليل أيضاً! لقد نال منك الغرور والتعالي بعد أن أجبت عن السؤال وضمنت حياتك! وتناسيت خبث عدوك الذي لن يهنأ له بال حتى ينقض عليك ويفترسك من جديد.
- "يا سالم أنت دائماً تريد أن تبرهن للجميع بأنك الفيلسوف وصاحب الأفكار الحكيمة ولا يعجبك أي شيء نقوم به أو نقوله. وها أنت تنتظر مصيرك المجهول المعلق بسؤال لا تعرف كنهه. وأنا الآن في موقف القوي وقد بت بمأمن كما تفضلت. فلماذا تصر على عنجهيتك ولا تتنازل قليلاً وتسمعني ولو لمرة واحدة فقط! فلربما أكون سبيلك الوحيد للنجاة من هذه المصيبة!"
- "يا أحمق سوف تموت! إجابتك كانت خاطئة! فجمال عبد الناصر حكم حتى سبتمبر وأنور السادات أيضاً حكم من أكتوبر في السنة نفسها! هل ارتحت الآن؟"
انتبهت فجأة واستوعبت الوضع بعد توجيهي تلك الجملة الغير محسوبة العواقب! يا لي من أحمق فعلاً! ماذا فعلت! أحسست بالإهانة من كلام مراد ورددت له الصاع صاعين! كان يجب علي أن لا أندفع كالمجنون وأصيبه في مقتل بكلامي! لقد تسرعت ومزقته بالحقيقة شر تمزيق!
سقط كوب القهوة من يد مراد وبدأ يرتجف من شدة الخوف الذي اعتراه ما أن أنهيت جملتي تلك حتى نزل يقبل رجلي بذل وهو يتوسل إلي أن أنقذه من محنته التي ثمنها حياته! ارتفع صوت بكائه كالأطفال وهو يقول بحرقة لا أريد أن أموت! كان الذي يمر به مراد أقسى من جميع ما مررنا به مجتمعين. فقد باغته بالحقيقة وقلبت حياته رأساً على عقب بعد أن ركن للطمأنينة التي انتزعتها منه انتزاعاً دون قصد. ولكن كيف لي أن أنقذه وأنا نفسي أبحث عمن يستطيع إنقاذي!
وقف مراد فجأة وهو في حالة جنونية اعترته. واندفع باتجاه المطبخ واستل سكينا ًكبيرة. ونظر إلي قائلاً:
- "لن أجعل هذا الحقير ينال مني. ولن أكون عبداً له ولا لمسابقاته.
سوف أنهي حياتي بيدي"
وغرز السكين بكلتا يديه بقوة في قلبه حتى شعرنا بأنها ستخرج من الجهة الأخرى من ظهره!
حاولنا إسعافه بشتى الطرق ولكن دون جدوى. فقد تدفق الدم غزيراً من مكان الطعنة وتوقف قلبه عن الخفقان بشكل نهائي. لحق مراد بقافلة الذين قضوا بسبب هذا البرنامج اللعين وبقينا أنا وراشد ننتظر مصيرنا الذي أصبح واضح الملامح الآن!
- "أهلاً بكم أعزاءنا المشاهدين من جديد في كل مكان. نرحب بكم من خلال برنامجكم الجماهيري "السؤال"."
هز صوت المذيع اللعين أركان الغرفة. وسرت موجة كهربائية في جميع أنحاء جسدي وأنا متيقن تماماً أن دوري قد حان وأن ساعتي قد دنت وباتت وشيكة!
لم يكن راشد بحالة أحسن مني. فقد فضل الانعزال في انتظار مصيره بوضوح تام واستسلام مذل!
قال المذيع بصوت به حزن مصطنع:
- "قبل أن نطرح عليكم سؤال اليوم نود أن ننوه إلى حضراتكم بأنه قد حصل خطأ بسيط في سؤال البارحة. نعتذر عنه لكم ونرجوا ألا يتكرر مثل هذا الخطأ مستقبلاً. لقد تمت الموافقة من قبل القائمين على القناة بأن إجابة سؤال البارحة الصحيحة هي "جمال عبد الناصر" حيث أنه قضى في الحكم مدة أطول في تلك السنة! نبارك لجميع من توصل إلى الإجابة الصحيحة ونعتذر لباقي المشاركين الذين لم يحالفهم الحظ!"
انهرت وسقطت أرضاً بعد سماعي لما قاله المذيع الحقير. وبدأت أسب وأشتم وأكسر ما تصل إليه يدي من أثاث الغرفة وقد انتابتني موجة عارمة من اليأس والحزن الشديد! لقد تسببت في قتل مراد! المسكين كانت إجابته صحيحة ولكنني وبسبب أنانيتي المطلقة زعزعت ثقته بنفسه وأقنعته بأنه مخطئ! كان سينجو من الموت لولا اندفاعي وغبائي! ولكن مهلاً! كيف لي أن أعلم أن إجابته ستبقى صحيحة وبأنه لن يكون هناك تغيير في النتيجة! فالعادة جرت بأن لا يعلن المذيع اللعين عن الإجابات أبداً! هل فعلها هذا الوضيع كي يفرق بيننا ويجعلنا نتقاتل مع بعضنا لنجسد نظرية "فرق تسد" حتى يحكم سيطرته علينا! ولكن احتجازنا هنا والتحكم بجميع أدوات الاتصال والسيطرة على عقول وتصرفات أهالينا وجعلهم يساندون فكرة البرنامج وكأنهم مسحورين. من المؤكد بأن الكلمة الأخيرة ستكون لهم! هل هو استفزاز لخدمه أجندتهم الخفية؟ دارت كل تلك الأسئلة في رأسي وأنا لا أعرف لها إجابة شافية!
كل ذلك يجري أمام راشد الذي يضع يده في فمه كالأطفال وكأن لا دخل له في هذه الأحداث التي مر بها!
- "يا خالد يا خالد يا خالد"
هنا بدأ يستوعب الذي يجري ولكنه انخرط في موجة ضحك مثل الأطفال وقال:
- "أهلاً أهلاً بكم يا أسيادنا. أطلبوا ما تريدون. ولكم منا السمع والطاعة. أنا أعلنها اليوم أني رهن إشارتكم؟ أنا على استعداد تام لتنفيذ طلباتكم."
نظرت إليه باستغراب ولسان حالي يقول:
- "ما هذا الذل وهذا الخضوع المطلق!؟"
- "أشكركم أعزائي الكرام لولائكم هذا وأتمنى لكم حياة سعيدة ممتدة ولكن بعد هذا السؤال"
من الذي تسبب بتفجيرات فرنسا الأخيرة والتي حدثت في 13 نوفمبر 2015؟
نظرت إلى راشد وقد انعقد لساني فلم أستطيع التفوه بكلمة واحدة! مات أصدقائي بسببي وأنا أظن أني منقذهم! بالتأكيد لا أريد أن أتسبب في موت راشد أيضاً! فهو أقربهم لي وأعزهم على نفسي. وكل ما أرجوه هو أن يحظى بالجواب الصحيح عن السؤال.
بخطوات متثاقلة اقترب راشد من جهاز التلفاز وقال:
- "كل الدلائل والتحليلات في جميع وسائل الإعلام العالمية والمحلية بل وباعتراف منفذي الهجمات أنفسهم فإن تنظيم داعش المسؤول الأول عن عمليتي التفجير في باريس. ولكن هذا لا يهمني. فأنا أعلن لكم عن ولائي المطلق لكم ولن أتوانى للحظة في تنفيذ ما ترونه مناسباً!"
علق المذيع بصوت يملؤه الفغر والحماس:
- "لم يخطر ببالنا أن تصلنا كمية كبيرة من الإجابات وبهذه السرعة! وأغلبها تقرينا تصب في نفس الوعاء. ولكن كما عودناكم من خلال هذا البرنامج. ستعرفون الإجابة بأنفسكم قريباً. أعزائي المشاهدين نشكركم للمتابعة وإلى الملتقى في القريب العاجل"
ما أن انتهى من حديثه حتى سمعنا دوي انفجار عال يصدر من محركات تشغيل الكهرباء في منطقة المزارع. انطفأت على أثرها جميع مصابيح الإنارة وخيم الظلام على المنطقة بأسرها.
جلس راشد بجانبي وهو يبكي ونظر إلي وقال:
- "داعش هم المسؤولون. أليس كذلك؟"
خفت أن أجيب على سؤاله الذي كان موجهاً له تحديداً ويصيبني ما يوشك أن يصيبه في حالة أنه أخطأ في الإجابة على الرغم من يقيني أن داعش هم وراء التفجيرات الأخيرة في فرنسا! ولكن ألم يكن أسامة بن لادن هو المسؤول عن تنفيذ عمليات 11 من سبتمبر وإن كان هتلر لم ينتحر فمن قتل هتلر ومن فجر الأبراج إذاً؟ ولماذ ا فقدت أصدقائي إن كانت إجابتهم صحيحة!
- "لم تكن السياسة محط اهتمامي أبداً يا راشد فأنا لا أفقه في مثل تلك الأمور. لقد ركنا لسعة العيش ونسينا بأن ما يحدث حولنا من الممكن أن يصيبنا. انغمسنا في الحياة وابتعدنا عن ديننا. تمكن منا حب الدنيا والطمع والأنانية. ما يحدث لنا هو محصلة انشغالنا بأنفسنا عمن سوانا! ليس لنا الآن سوى الله لندعوه وننتظر مصيرنا!"
نظر إلي راشد بحزن وقال:
- يا سالم. لم أعد قادراً على التحمل أكثر من ذلك. أريد أن أنتهي من هذا العذاب"
لم يكمل راشد جملته حتى ابيضت عيناه فجأة ووقف بشكل مستقيم وهو شاخص ببصره إلى السماء وبصوت خشن صدر منه:
- "أخطأت في الإجابة مرة أخرى يا خالد ولن تنام الليلة هنا"
تراجعت زحفاً إلى الوراء من بشاعة المنظر. كان راشد يحدث نفسه ولكن بصوت شخص آخر! كما تعلمون فقد بدل المذيع أسماءنا بأسماء ذات نطق متشابه وكنت أظن أنه يفعل ذلك حتى يتمكن من توجيه السؤال إلى جميع الذين يحملون نفس تفعيلة أسمائنا فتشمل المسابقة أكبر عدد من المشاركين قسراً.
رفعت صوتي منادياً على راشد كي ألفت انتباهه ولكن دون جدوى. فقد تحول صوته إلى حشرجة مقيتة كمن جزت رقبته! وبدأ رأسه بالالتفاف بطريقة تخالف الحركة الطبيعية وسمعت صوت طقطقة فقرات رقبته وهي تفصل عن بعضها البعض. ولف رأسه مرتين حتى فصل عن جسده من أثر الالتفاف وسقط في مكانة وشلال الدم يتدفق من رقبته المقطوعة.
أخذت أضرب رأسي بكل قوة كالمجنون. وأكيل السباب واللعنات وأشتم متناسياً أنني في حالة يجب أن أتضرع إلى الله فيها بدلا من أن أتصرف بمثل تلك الطريقة!
بعد فترة. ساد المكان هدوء جميل وتخلل صوت الهواء فتحات النوافذ بعذوبة توحي بأن بصيص أمل يلوح في الأفق وأن الأمان سيعم المكان من جديد! أمضت عيناي وأنا بحرقة مغالباً الدموع فيهما وقد نزلت قطراتها كالحمم على خدي! كنت أرجو أن تحدت معجزة إلهية تنقذني من هذا الواقع المرير. فتحت عيني ومددت يدي إلى هاتف راشد الذي وجدته ملقى بجانبي. شرعت أتصفح المكالمات الأخيرة التي أجراها والرسائل التي بعثها. توقفت عند رسائله لأخيه عبد الله التي كانت على النحو التالي:
عبد الله: "لا تنس أن تجلب أدوية أبي من الصيدلية"
راشد: "لم أنس. وأنا الآن معه في غرفته"
عبد الله: دائماً تزورنا هذه الكآبة فهي التي تلون حياتنا، فإن بقينا على حالنا فلن يكون للحياة أي طعم"
راشد: "أيها الفيلسوف أنا أقصد أن هذه الكآبة دخيلة علي! لم أشهر بها من قبل"
أخذت أبحث عن محادثات أخرى فوجدت واحدة بينه وبين مراد.
راشد: ليس لي الرغبه في الذهاب إلى المزرعة اليوم. سأجلس مع الوالد فهو مريض كما تعلم"
مراد: "تعال لترفه عن نفسك قليلاً. سيجلس معه إخوتك"
راشد: "لا أستطيع. فكلهم مشغولون في أمورهم الخاصة"
مراد: "كلها يومين وترجع لهم لا تعقد المسائل!"
راشد: "صعب يا مراد. أرجوك أن تعذرني"
مراد: "لن أكلمك إن لم تحضر معنا للمزرعة"
راشد: "لا تغضب سأحضر. ولكن لن أبيت وسأرجع بنفس اليوم رميت الهاتف النقال بعصبية وقلت في نفسي بأنه سعى إلى أجله من غير أن يشعر!
أخذت هاتفي النقال ودخلت إلى ملف ألبوم الصور وبدأت أقلب صور ابنتاي. بكيت بشده حتى أصابت عيني غشاوة من فرط الدموع فلم أستطع المتابعة. هذه هي النهاية إذن! ما أصعب الفراق. وما أصعب أن تجلس لوحدك في لحظاتك الأخيرة وتسترجع الذكريات الجميلة لتحطم ذاتك بنفسك! الإنسان في مثل هذه الظروف النفسية الشديدة تجتمع كل أحلامه الجميلة وذكرياته الرائعة متخيلاً أنها ستسعفه وترفع من معنوياته وتنتشله من أوحال المصيبة التي يفرق فيها ولكن العكس هو الصحيح! الموت أرحم من أن تنتظر مصيراً غير معلوم ونهاية لا تعرف ميعادها!
كتبت رسالة لزوجتي تقول:
أنا: "أنقذيني يا هالة. أنا أموت!"
هالة: "ما بالك يا عزيزي؟ تابع البرنامج وثم عد أدراجك للبيت نحن بانتظارك"
كانت تجربة فاشلة مني.
قمت بإرسال رسائل عديدة إلى زملائي في العمل وغيرهم من الأصدقاء وكان ردهم جميعاً كرد هالة!
ليس بيدي عمل شيء! خرجت لأتجول في المزرعة وجدت الباب مقفلاً من الخارج فابتسمت في داخلي وأنا أعلم بأنهم يحتجزونني إلى أن أعطيهم إجابة للسؤال! ذهبت إلى المطبخ متخطياً جثث أصدقائي الواحد تلو الآخر أبعث عن شيء آكله. كنت أحاول التصرف بشكل طبيعي وأنا أغالب الحالة النفسية التي أمر بها وأن أحظى بدقائق حياة طبيعية ولو لفترة وجيزة!
الثلاجة لا تعمل بسبب انقطاع الكهرباء والظلام هو سيد الموقف.
تحسست طريقي في عتمة المطبخ ووضعت يدي على الثلاجة، فتحت الباب فوجدت بعض الطعام. أظنها كانت بيتزا تركت منذ مدة. أكلتها بتلذذ وأنا أجلس على الأريكة غير عابئ بالمصير الذي ينتظرني!
فتح التلفاز بشكل مفاجىء وظهر على الشاشة ذلك المذيع السافل مرة أخرى. فاعتدلت في جلستي ورمقته بكل حقد وغضب.
- "أعزائي المشاهدين. مرحباً بكم من جديد. لقد وصلنا إلى آخر حلقات البرنامج لهذا العام وأنه من دواعي أسفي أن نعلن لكم بأنه لم يفز أي شخص حتى الآن بالجائزة الكبرى! ولكن لا زال الأمل يحدونا أن يتمكن أحد ما في مكان ما من العالم من الفوز"
وابتسم بخبث ورتب الأوراق التي أمامه وتابع قائلاً:
- "قبل أن نطرح السؤال الأخير في هذا البرنامج. أدعوكم لمتابعة فقرة خاصة جداً أعدها لنا مخرجنا المتألق بمناسبة انتهاء الموسم الحالي. فلنتابع معاً."
عرضت على الشاشة لقطات مصورة لأناس في بيوتهم وهم ينظرون إلى عدسة الكاميرا وأعينهم شاخصة وكأنهم ينظرون إلى التلفاز. إنهم فعلاً ينظرون إلى تلفازهم. وكانوا يجيبون على الأسئلة ومن ثم ينتقل المشهد إلى نفس المجموعة وهم يقتلون بصور بشعة ومخيفة! والبعض من تلك المنازل يوجد بها أطفال صغار جرى بهم ما جرى بالجميع من دون رحمة ولا شفقة!
ولا زالت اللقطات تتوالى وتنتقل من منزل إلى آخر إلى أن وصلت اللقطة إلى مشهد في داخل فيلا المزرعة التي نحن فيها! ورأيت شادي وهو يغادر الفيلا ممسكاً بالهاتف وعند مغادرته ركب سيارته وانطلق مسرعاً وقد تبعته كاميرا تصوير من زاوية عالية وكأن هناك من يراقبه بالأقمار الصناعية! إلى أن وصل إلى نهاية مسدودة وهو متجه بسرعة عالية نحو جدار خراساني كبير جداً لمصنع الحديد. كانت سرعته حينها قد قاربت 200 كلم/ س وعلى الرغم من ذلك لم يخفف شادي من السرعة العالية وتوجه بشكل مباشر إلى حتفه المؤكد! اصطدم بالجدار بقوة هائلة مخلفاً دخاناً كثيفاً من أثر الارتطام. لينقشع عن منظر للسيارة وقد تحولت كقطعة نقدية كبيرة بعد أن كبست والتحمت مؤخرة السيارة بمقدمتها! كل ذلك المشهد المروع يعرض على أنغام خلفية موسيقية لبرامج الأطفال!
اختلطت الأمور علي من غرابة ما أمر به! شعرت بأنني ألعب دوراً تمثيلياً في فلم رعب وتخيلت لبرهة أن أصدقائي مراد وأسامة وراشد وشادي في غرفة تبديل الملابس وقد انتهى دورهم وينتظرون المونتاج الأخير للفلم قبل عرضه!
قاطعني صوت المذيع الحقير قائلًا:
- "لقد حان الآن موعد السؤال الأخير أعزائي المشاهدين. السؤال الذي يدور في أذهان الجميع. والذي ستختلف الإجابات عليه وتتنوع كل على حسب هويته وانتمائه!
إنه السؤال الذي لو لقي إجابة لقامت بسببها حرب عالمية ثالثة!
هذا السؤال الذي لو تمت الإجابة عليه بشكل صحيح لن يكون هناك شيء اسمه قوة عظمى أو أسلحة دمار شامل أو قتال طائفي ولا حتى تشريد للبشر!
سؤال أخفينا إجابته حتى يعيش القوي ويموت الضعيف وتسود شريعة الغاب!
سؤال أخفينا إجابته حتى يخون الأخ أخاه وينافق الصاحب صاحبه ولا تبقى ذمم أو ضمير حي بين البشر!
سؤال أخفينا إجابته بشكل متعمد حتى يموت الإسلام ولا تقوم له قائمة بعد الآن!
سؤالنا الأخير أعزائي المشاهدين إن كان لأحد منكم الإجابة عليه، هل من الممكن أن نعيش حياة هانئة بعد هذا اليوم؟ أقصد إن لقينا جواباً صريحاً على سؤالنا الذي هو:
- "يا عالم ما عالم ما عالم.
من الذي صنع داعش"
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا