شبح الموت
عقارب الساعة هي عدوي اللدود، أراها تتحرك بانتظام معلنة انقضاء سويعات عمري التي لا أستطيع بأي طريقة أن أجعلها تسكن للحظات وأظل في حيرة من أمري، هل حققت ما كنت أتمناه أم ما زالت لدي أحلام أسعى لتحقيقها؟
إنها الرحلة الأولى لي رسميًا بعد انتهاء التدريب تمنيت أن تصبح تلك الرحلة تجربة شيقة تثمر في ذاكرتي برائحة السعادة، لتطغى على العطب الذي أصابني سابقًا.
في المبنى الفني يوجد مسؤولو قسم التبرج والتزين؛ حيث يتم فحص مظهرنا الخارجي وتحديد هل نحن لائقون بالصعود على الطائرة أم لا وكثيرًا ما يتم استبعاد بعض الزملاء بسبب وجود جرح بسيط أو خدش ملحوظ، ويتم إعطاؤهم فرصة لتعديل شكل الجرح الذي يتم إخفاؤه تمامًا بمساحيق التجميل، أصبحت مساحيق التجميل تمنحنا فرص النجاح.
يبدو أن الأهم من خبراتنا العملية أن تكون لدينا الخبرة في التجمل فرصنا في النجاح أصبحت تكمن في مدى قدرتنا على التجمل وإخفاء حقيقتنا وقوتنا تكمن في سحر جمالنا المصطنع وليس أرواحنا النقية.. أتذكر أحمد زكي في أحد أفلامه، عندما قام بدور ابن "التربي" عندما اكتشفت حبيبته حقيقة والده وبرر لها ذلك قائلاً: "أنا
لا أكذب ولكني أتجمل".
كان فريق العمل يشعون جمالاً حقيقيًا لمسته في ابتسامة آمال مشرفة الطاقم المغربية، وفي لمعة عين محمد الباكستاني زميلي في الدرجة السياحية، ومع اندماج الكابتن ومساعده معنا حين قررت آمال أن نحتسي كوب شاي قبل صعود الركاب، كانت فرصة مثلى للتعارف...
أخبرنا الكابتن عن مدى جمال الأردن، وددت أن أزورها يومًا، ولكن للأسف الرحلات القصيرة لا تعطينا فرصة استكشاف كثير من البلاد..
استعددنا لاستقبال الركاب الذين كان أغلبهم عربًا وقليل من سيريلانكا، وجدوا فرصًا للحياة بعيدًا عن أوطانهم.
وما الحياة سوى بحر فرص علينا أن نبحث عنها ونقتنصها.
بعد الإقلاع وبعد انتهائنا من تقديم وجبة الغذاء كنت على وشك الخروج من مطبخ الطائرة الخلفي حاملة براد الشاي، حينها بدأت يدي في الارتعاش وفي لحظات شعرت كما لو أني في لعبة قطار الموت الذي يسقط فجأة من أعلى ويسقط معه قلبي، مرت اللحظة بطيئة وكأنها لقطة من فيلم يعرض بالتصوير البطيء وسريعة في سرعة دقات الساعة المنتظمة، وجدت يد محمد تجذبني للمطبخ بقوة كي أجلس وأربط الحزام، ما زلت مذهولة لا أعلم ماذا يحدث حولي وصوت آمال عبر الساعات وهي تقول:
نرجو من الركاب العودة فورًا لمقاعدهم وربط الأحزمة..
لم أعد قادرة على تحمل صوت نبضات قلبي المزعجة التي أسمعها تتصارع مع صوت صراخ الناس حولي، بدأت الطائرة بالتخبط والهبوط فجأة...
لطالما تساءلت هل أنا مستعدة لملاقاة الرحمن؟! كيف سيلقاني ملك الموت وكيف سأستقبله؟ كيف سيكون شعوري حينها أم أن الإحساس ينعدم في حضرة الموت.. وقتها رجوت الرحمن أن يمهلني فرصة ثانية، لم أكتفي بعد من الدنيا، لم أعمل لذلك اليوم واللحظة، ولكن كيف لي أن أطلب فرصة أخرى وقد بدا شبح الموت أقرب لي من الحياة، ظللت أردد الشهادة ودموعي تنهمر لا أعلم هل كنت أبكي عمرًا انقضى أم فرصة في الحياة أتمناها.
في تلك اللحظات مر أمام عيني شريط حياتي القصير، شعرت باللوعة لعدم احتضاني أمي لفترة أطول ولعدم تقبيل يد أبي بها يكفي وعلى ضعف صلتي بالرحمن مهما حاولت الوصل، تحسرت على شبابي الذي لم أستمتع به وعلى قصة حب لم أعشها وذنوب ارتكبتها وصلاة أغفلتها وكلمة طيبة استكثرتها.
أفقت من الصدمة على أصوات الركاب التي تحولت من صراخ لدعاء وصلاة وترتيل القرآن والإنجيل، رأيت الأم تحتضن طفلها بقوة تخبئه بين ضلوعها حتى لا يتمكن منه الموت، رأيت تلك الخادمات يخرجن صور أحبتهن ويقبلنها ويحتضنها كما لو كان الوداع الأخير وآخرين يناجون الله أن يمنحهم فرصة أخيرة.. رأيت محمد زميلي ينظر لي مبتسمًا، قائلاً: الحمد لله ربنا ستر.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا