الدوائر الخمس 4 للروائي أسامة المسلم

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-12-08

النور من الأعلى
(طارق)
‏‏شاب يبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً.. وحيد أهله.. يدرس في السنة الأخيرة في الجامعة.. من عائلة ثرية.. ولكونه الأبن الوحيد لوالديه فقد كانت أمه حريصة عليه لدرجة الهوس وعزلته عن العالم الخارجي تماماً. 
‏كان (‏طارق) عائداً من صلاة الفجر مشياً على أقدامه أحد الأيام وعندما رأى أن الجو لطيف قرر التجول في الحي. بعد فترة من المشي والتأمل ابتعد عن منطقته ودخل لحي سكني آخر لا يعرفه ولم يكن يمر به إلا بسيارته صباحاً. خلت الشوارع من الناس ذلك الوقت وقبل أن تشرق الشمس بقليل مر (طارق) من تحت أحد أعمدة النور التي اصطفت على الرصيف ولاحظ أن نوره بدا وكأنه يرمش لحظة مروره أسفل منه وعندما تجاوزه عاد النور كما كان. لم يثر هذا ريبة (طارق) أول مرة لكن وفي اليوم التالي عندما قرر بعد صلاة الفجر الذهاب للحي نفسه ليمارس هواية المشي مرة أخرى وعند اقترابه من العمود نفسه تذكر ما حدث معه بالأمس وقال في نفسه وهو يبتسم: 
‏"هذا هو العمود الذي رحب بي بالأمس.." 
‏مر (طارق) من تحت العمود فرمش نوره كما حدث بالأمس فتوقف بعد ما اجتازه ببضع خطوات وقال في نفسه: "هل يعقل أن تكون مصادفة؟"
‏توجه (طارق) عائداً للعمود ومر من تحته لكن لم يحدث شيء.. بقي يراقبه لأكثر من خمس دقائق ولم يرمش.. انتظر خمس دقائق إضافية وعيناه تحدقان بالعمود ولم يحدث شيء أيضاً فعاد للمنزل. 
‏في اليوم الثالث وخلال صلاة الفجر لم يستطع (‏طارق) الخشوع في صلاته لأنه كان منشغلاً بالتفكير بذلك العمود فعقد العزم على الذهاب إليه مرة أخرى بعد الصلاة وكان يخشى تكرار ما حدث معه مرة ثالثة وعندها لن تكون محرد مصادفة، وبالفعل توجه بعد الصلاة مسرعاً لمكان العمود وعندما وصل توقف وظل يراقبه لمدة ولم يرمش النور خلالها مرة واحدة فقرر التقدم نحوه وعندما مر من تحته رمش النور. 
 ‏تجمد الدم في عروق (طارق) في تلك اللحظة وجف ريقه من الخوف ووجد نفسه يجري مسرعاً عائداً نحو منزله حتى وصل ودخل غرفته ونام وقد أصابه الرعب. استيقظ بعد الظهر وجلس على طرف سريره يفكر فيما جرى له ولم يستطع صرف الموضوع من رأسه فاتصل بأحد أصدقائه هاتفياً. وحكى له ما حدث معه فسخر منه صديقه (غانم) وقال: 
‏"لنذهب الليلة بعد صلاة العشاء لنرى هذا الشيء المضحك!" 
‏استاء (طارق) من ردة فعل صديقه وعدم أخذه الأمر بجدية لكنه قرر الذهاب معه ذلك اليوم في المساء. بعد ما وصل الاثنان للمكان أشار (طارق) نحو العمود المقصود. ضحك (غانم) وجرى نحو ‏العمود وبدأ يرقص تحته وهو يقول ضاحكاً:
"أين الرمشة والغمزة؟" 
‏انتظر (طارق) أن يرمش النور لكن لم يحدث شيء فقال: لعل الأمر ‏لا يحدث إلا فجراً.. 
‏(غانم) بسخرية: وهل العمود يفرق بين الفجر والعشاء؟ 
‏(طارق) وعينه على مصباح العمود المنير: ربما لا يحدث هذا إلا معي..
 ضحك (غانم) وأشار بيده ‏قائلاً: تعال إذاً وقف بجانبي لنرى ونتحقق! 
‏تقدم (طارق) نحو العمود وقلبه يدق بقوة وعندها وقف تحث العمود وبجانب صديقه لم يحدث شيء فصحك (غانم) وقال: ماذا حدث؟! أين الرمش؟! 
‏(طارق) مستغرباً: لعلني كنت أتوهم 
(غانم) وهو يضع يده على كتف صديقه: أنا واثق من ذلك.. لنعد للمنزل ولننس الموضوع 
‏عندما تحرك (غانم) مبتعداً من تحت العمود رمش النور فنظر الاثنان بعضهما لبعض بصمت لفترة بسيطة ثم قال (‏غانم): هل أنت من فعل ذلك؟ 
‏(طارق) بتوتر: كيف أفعل أي شيء وأنا أقف أمامك دون حراك؟ 
‏(غانم): من قام بذلك إذاً؟ 
‏(طارق) بعصبية: هل أنت أحمق؟! لماذا نحن هنا؟!
(غانم): وماذا تريد أن نفعل الآن؟ 
 (طارق) بتوتر وخوف: لا أعرف..    
وقف الاثنان في الشارع يفكران وعندها لاحظ (غانم) شيئاً غريباً، وهو أن المنزل الذي يقع خلف العمود مختلف عن بقية منازل الحي فقد كان قديماً ومهجوراً وبعض نوافذه محطمة بعكس المنازل التي كانت بجواره. قرر الاثنان سؤال الناس عن حكاية هذا المنزل لكن الوقت كان متأخراً بعض الشيء وشعرا بالتحرج من طرق الأبواب ‏وقد لا يجدان أحداً مستعداً ليجيب على أسئلتهما في هذه الساعة ‏فقررا العودة بعد صلاة المغرب في اليوم التالي وسؤال سكان الحي عن ذلك المنزل الغريب. في اليوم التالي التقى الاثنان كما اتفقا أمام المنزل بعد صلاة المغرب وبدأ بطرق باب المنزل نفسه لكن لم يجبهما أحد لذا أخذا بسؤال المارة لكنهما لم يجدا جواباً شافياً من أحد فقال (غانم): 
"لم لا نبدأ بطرق الأبواب على الجيران الآن لعلهم يعرفون شيئاً؟" 
‏تفرق الشابان لسؤال البيوت المجاورة وكانت الإجابة ‏دائماً نفسها: 
"لا نعرف شيئاً عن المنزل وسكانه"
‏بعد فقدان الأمل في الحصول على إجابة قرر الاثنان دخول المنزل بأنفسهما.. 
(طارق): كيف سندخل المنزل؟
‏(غانم): سنقفز فوق السور ونتسلل بالطبع 
(‏طارق): ماذا؟.. ماذا لو كان قاطنوه نائمين: 
‏(غانم): لقد طرقنا الباب أكثر عن مرة.. المنزل مهجور.. ألا ترى شكله؟
(طارق): لست محبذاً لهذه الفكرة.. أخشى أن نقع في مشكلة ونتهم بالسرقة
(غانم): نحن هنا بسببك وإن كنت تريد التوقف فسنتوقف 
(طارق) محدقاً بالمنزل الغريب: لن أتمكن من النوم قبل معرفة الحقيقة.. لكن.. 
‏(غانم): لدي اقتراح
‏(طارق): ما هو؟ 
‏(غانم) مشيراً للعمود: جرب أن تمر من أسفله الآن وما سيحدث سيحسم الأمر 
‏(طارق) وهو يسير نحو العمود: اقتراح جيد 
 ‏ما أن استقر (طارق) تحت العمود رافعاً نظره نحو مصباحه حتى ‏بدأ ضوؤه يرمش ويتراقص.. كان ذلك كافياً وكفيلاً لدفعه للجري نحو صاحبه بقلق شديد وقول: لنقفز فوق السور.. 
‏اتفق (طارق) وصديقه على دخول المنزل ووضع حد لتساؤلاتها فتوجها للباب عندما خلا الشارع من المارة وقفزا من فوق السور. عندما استقرا في الفناء حاولا فتح الباب الرئيس لكنه كان مغلقاً بإحكام فبحثا عن مدخل آخر حتى وجدا الباب الخلفي المؤدي للمطبخ غير مغلق. دخل (غانم) قبل صاحبه وألقى نظرة في المكان الذي كان مظلماً جداً ولم يكن هناك مصدر للنور سوى الضوء الضئيل القادم من مصابيح الشارع فأشار بيده لــ (طارق) ليدخل فدخل وهو مرتبك وقال: "ماذا الآن؟" 
‏(غانم): لنفترق ونبحث عن أي شيء يمكن أن يدلنا على سبب ما حدث معك عند عمود النور 
‏(طارق): مثل ماذا؟ 
‏(غانم): لا أعرف لنبحث فقط 
‏(طارق): سوف تأخذ أنت الطابق العلوي 
‏(غانم): لا، خذه أنت فأنا لا أريد الابتعاد عن المخرج
‏وافق (طارق) وكانت عينه تتفحص أثاث المنزل القديم من حيث التصميم لكنه بدا نظيفاً جداً وكأنه جديد حتى الغبار لم يكن مجتمعاً عليه كما هو شكل المنزل من الخارج وهذا الشيء أثار استغرابه قبل صعوده. بدأ (طارق) بالبحث في الأدراج والرفوف في غرف الطابق العلوي لكنه لم يجد شيئاً يثير انتباهه وقبل أن يفتح باب دورة المياه سمع صديقه يصرخ بقوة فنزل مسرعاً للطابق السفلي لكنه لم يجد ‏أحداً فتوقع أن (غانم) قد هرب خارج المنزل فخرج يبحث عنه في الشارع لكنه لم يره. انتظره (‏طارق) لفترة أمام عتبة المنزل لكن صاحبه لم ‏يظهر. 
‏توجه (طارق) لمنزل (‏غانم) ليسأل عنه لكن أهله أفادوه أنه لم يعد للمنزل حتى الآن، بقي (طارق) في حيره من أمره وزاد ‏قلقه على صاحبه الذي اختفى فجأة فقرر أن يعود للمنزل المجهول مرة أخرى وعندما مر بجانب العمود حدث أمر غريب. لم يرمش العمود وحده بل رمش معه العمود ‏المجاور له فتفاجأ لهذا المنظر وتردد في الدخول للمنزل مرة أخرى وبدأ بالنظر حوله وهو مرتبك وخلال ذلك مر رجل به وسأل (طارق): "‏ماذا تفعل هنا؟"
 حكى (طارق) للرجل الحكاية..
‏(الرجل): ارحل من هنا قبل أن تلحق بصاحبك.. 
(طارق) بتوتر: ماذا تقصد؟
‏(الرجل): هذا المكان مسكون وأهله هجروه منذ سنين.. 
‏(طارق): ‏وما أدراك أنه مسكون؟ 
(الرجل): لأني أنا من يسكنه.. 
‏(طارق) وعلامات الخوف بدأت بالظهور على وجهه: تقصد أنك أنت من كان يسكنه في الماضي مع أسرتك؟ 
‏(الرجل) وعيناه تتحولان للسواد التام لثانية خاطفة: لا.. أنا من يسكنه الآن.. 
‏هرب (‏طارق) من أمام الرجل بعد ما رأى عينيه بهذا الشكل وعاد لمنزله مسرعاً.. 
‏في مساء اليوم التالي وبعد عودة (طارق) لمنزله من صلاة العشاء لم يستطع النوم مبكراً كما اعتاد لأن تفكيره لا يزال منشغلاً بذلك المنزل وفي صديقه الذي اختفى بالأمس وفي ذلك الرجل الذي كلمه وحذره من البقاء‏ وخلال تفكيره دخلت عليه أمه وهي تبتسم قائلة:
"أين غبت طيلة اليوم لقد كنت أبحث عنك؟" 
‏(طارق): المعذرة يا أمي فقد كنت مشغولاً الفترة الماضية في أمر يبدو أنه انتهى 
‏(الأم) وهي تبتسم: لدي خبر سيسعدك
(طارق): ما هو؟ 
‏(الأم): لقد قررنا أنا وأبوك تزويجك
(طارق): ماذا؟.. تزويجي؟ 
(‏الأم): نعم.. لم أنت مستغرب؟ 
‏(طارق): ما زلت صغيراً على الزواج يا أمي ثم إني لم أتخرج هن الجامعة بعد 
‏(الأم): لا عليك أنا وأبوك سنهتم بالتفاصيل المادية
(طارق): ولكن يا أمي.. 
‏(الأم): لا تتحجج.. أنت ابننا الوحيد وحالتنا المادية ميسورة ولله الحمد ونريد أن نرى أحفادنا والفتاة التي اخترتها لك هي ابنة لأحد أقارب والدي رحمه الله 
سكت (طارق) لأن باله لا يزال مشغولاً بما حدث معه ومع صديقه بالأمس ثم قال: كما تشائين يا أمي.. 
‏أحضرت ‏أم (طارق) عنوان منزل الفتاة التي قررت خطبتها له وقالت:
‏اذهب لمنزلها وحاول أن تنتهز فرصة للنظر إليها عند خروجها أو دخولها وأخبرني برأيك..
‏أخذ (طارق) العنوان وهو متململ من الموضوع العارض الذي سيشغل تفكيره عن صديقه المختفي لكن تذمره تبدل لصدمة عندما قرأ العنوان المكتوب في الورقة ورأى أنه عنوان ذلك المنزل الغريب الذي تسلل إليه مع (غانم). 
‏خرج (طارق) من غرفته على عجالة وركب سيارته وتوجه مباشرة للمنزل مرة أخرى وعند وصوله إليه رأى فتاة تخرج منه سيراً على الأقدام فبدأ بتعقبها بسيارته.  
 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا