الجناح المكسور
(نورة)
فتاة في التاسعة عشرة من عمرها تعيش مع والدتها في منزل صغير وليس لهما في الدنيا غير الله معيل. انفصل أبوها عن أمها عندما كانت في العاشرة ولم يفكر بالسؤال عنها أو عن أحوالها منذ زواجه من أخرى. أمها ما زالت تطالب بالنفقة عبر المحاكم لكن ابنتها (نورة) لم تفكر يوماً بالمال فكل ما أرادته هو الإحساس بحضن أبيها الذي افتقدته منذ الصغر ومن وقت لآخر تلوم أمها على فقدانه وهجر أبيها لهما لكن الحقيقة لم تكن واضحة بشكل كامل فيما يخص المتسبب بهذا الانفصال. كانت (نورة) متفوقة دراسياً لكن مع تدهور حالة أمها الصحية وحالة الأسرة المادية اضطرت للبحث عن عمل بعد تخرجها من الثانوية العامة وتأجيل الالتحاق بالمرحلة الجامعية كي تستطيع أن تؤمن مصاريف علاج والدتها وسداد فواتير المنزل المتراكمة. بالرغم من أن أمها رفضت ما قامت به (نورة) من تركها للدراسة والسعي وراء عمل إلا أنها لم تستطع منعها لأن ظروفهما المادية كانت قاسية جداً .
وجدت (نورة) عملاً كمندوبة مبيعات في شركة لبيع المنتجات الغذائية في الفترة المسائية ولأن الإقبال النسائي على هذه الوظيفة لم يكن كبيراً بسبب أوقات العمل غير الملائمة أتاح لها ذلك فرصة أفضل في التوظيف. لم يكن الأجر عالياً لكنه كان كافياً لتحمل بعض نفقات علاج أمها بالإضافة لمتطلبات معيشتهما الأساسية. التحقت (نورة) بالجامعة في الفترة الصباحية بعد إصرار والدتها على أن تكمل دراستها ولا تضيع مستقبلها لذا اضطرت للاكتفاء بالعمل المسائي فقط بنصف الأجر مما جعل يومها مزدحماً وخالياً من أوقات الفراغ.
عادت (نورة) في أحد الأيام قبل العصر للمنزل بعد يوم دراسي شاق للاستعداد لعملها المسائي في فرع الشركة المناوب ليلاً فوجدت أمها جالسة مع زوجة خالها وكان الأمر مستغرباً بالنسبة لها لأن خالها وعائلته لم يكونوا على علاقة طيبة معهم وتجاهلوهم في معاناتهم السابقة عند انفصال أبيها عن أمها ولا تربطهم بهما أي علاقة اجتماعية طبيعية كباقي العائلات. عندما انتبهت زوجة خال (نورة) لدخولها استأذنت وخرجت دون السلام على (نورة) بل اكتفت بالنظر إليها بابتسامة خاطفة. جلست (نورة) بجانب أمها التي كانت متعبة من المرض ذلك اليوم وسألتها: ما الذي جاء بزوجة خالي عندنا اليوم؟
(أم نورة) بثقل وتعب: كل خير بإذن الله..
لم تفهم (نورة) كلام أمها ولم تصر على الاستفسار وتوجهت لغرفتها كي تنام قبل أن تذهب لعملها في المساء. استيقظت (نورة) قبل موعدها المعتاد للذهاب للعمل على صوت أمها وهي تسعل بقوة فنهضت من فراشها وتوجهت إليها مسرعة لتجدها مستلقية في غرفة المعيشة وحرارتها مرتفعة جداً. قامت (نورة) بالاتصال بخالها في لحظة يأس ليأخذهما للطبيب بالرغم من أنها تعرف سلفاً بطبيعته النزقة وعدم مبادرته دون مقابل حتى وإن كان لأهله وفي مثل هذا الظرف الطارئ. وفعلاً اتصلت بخالها هاتفياً وكان المجيب هي زوجته (مريم) قائلة: نعم؟
(نورة) على عجالة وبتوتر وقلق: كيف حالك يا خالتي؟!.. هل يمكنني الحديث مع خالي؟!
(مريم): أهلا بعروسنا! بالطبع يا عزيزتي
تناول خال (نورة) السماعة من يد زوجته بعد ما مدتها له وقال: أهلاً (نورة) كيف حالك وحال أمك؟
(نورة) بقلق: أمي مريضة جداً يا خالي وأريد أخذها للطبيب ولا يوجد أحد غيرك يمكنه مساعدتنا.
(خال نورة) ببرود: سيارتي معطلة.
(نورة): ماذا عن ابنك؟
(خال نورة) بالنبة الباردة نفسها: مسافر..
(نورة) بتوتر شديد: تصرف يا خالي أمي مريضة جداً!
(خال نورة): اطلبي سيارة أجرة.
(نورة) وقد بدأت بالبكاء: نحن في آخر الشهر يا خالي ولا أملك حق سيارة أجرة.
(خال نورة) وهو يضحك: كيف إذاً ستشترين لها الدواء؟
عندها أدركت (نورة) أن لا فائدة من إضاعة الوقت مع خالها وأغلقت الخط في وجهه..
حملت (نورة) في لحظة يأس أمها حتى وصلت بها إلى الشارع وأخذت تلوح بيدها للسيارات المارة على أمل أن يتوقف لها أحد.
وبعد نصف ساعة من الانتظار في الشارع توقف شخص وسألها: هل تريدين مني إيصالكما لأي مكان؟
ركبت (نورة) دون أن ترد عليه ثم قالت بنبرة عالية: خذني للمستشفى حالاً!!
قاد الرجل سيارته مسرعاً نحو المستشفى وقد كان يبعد عن منزلها خمسة أحياء..
لفظت أم نورة أنفاسها الأخيرة عند الحي الثالث..
بكت (نورة) بقية المسافة للمستشفى وهي تعانقها..
عندما رأى الرجل الذي أوصلهما للمستشفى حالة (نورة) وانهيارها لم يطلب منها أجرة ونزل وساعدها على حمل جثمان والدتها لبوابة قسم الطوارئ الذين استلموها وأدخلوها فوراً للمستشفى ومن هول الصدمة لم تدخل (نورة) معها بل طلبت من السائق أن يوصلها لمكان عملها الذي كان قد بدأ منذ أكثر من ساعة. نفذ الرجل طلبها باستغراب وعندما نزلت من السيارة توجهت نحو الشركة ولم تغلق باب السيارة. دخلت من الباب الرئيسي ولم تدخل من الباب المخصص للموظفين. قابلها المدير بتأنيب لأنها تأخرت عن موعد نوبتها فنظرت إليه بوجه شاحب وقدمت اعتذارها وسارت لمكتبها الصغير الذي جلس عليه أحد زملائها نيابة عنها خلال تأخرها لتبدأ عملها.
مارست (نورة) عملها ذلك اليوم بكل هدوء بالرغم من مضايقة شابين لها في بداية نوبتها وعادت للمنزل بعد ما انتهت دون أن تذهب للمستشفى لاستلام جثة أمها للبدء في إجراءات دفنها. ذهبت للفراش تلك الليلة وحاولت أن تنام لكنها لم تستطع لأن هاتف المنزل ظل يزعجها بالرنين المستمر بلا انقطاع حتى نهضت من فراشها ونزعت السلك من القابس وقررت بعدها بساعة الخروج من المنزل والمشي في الطرقات بلا وجهة محددة لأن النوم هجر مقلتيها.
بعد السير بضعة أمتار لاحظت (نورة) أن هناك سيارة تتعقبها منذ خروجها من المنزل فبدأت بالإسراع بالخطوات فزادت السيارة التي تتبعها من وتيرة سرعتها مما أكد لها أن تلك السيارة تلاحقها وما زادها خوفاً هو أنها رأت أيضاً شخصاً لم تتضح ملامحه كان يسير خلفها من بعيد على الأقدام فتفاقم خوفها واستمرت بالجري حتى شاهدت مطعماً كبيراً على بعد منها فتوجهت إليه مباشرة ودخلت قسم العائلات كي تختبئ ممن كانوا يلاحقونها.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا