الخاتم الأخضر
الفص المتوهج
في أرض الكنانة.. فلاح جاور منزله "النهر الخالد".. كان يقضي يومه بين زرع وحرث.. لا يعرف من الدنيا غيرهما.. له من الأبناء ثلاث بنات وابن واحد.
ذهب الفلاح يوماً مع زوجته وأبنائه لضفة النهر وكانت الشمس قد انتصفت في قلب السماء التي خلت من الغيوم. افترشت العائلة الأرض وبدؤوا يتحدثون ويستمتعون بذلك النهار الجميل. خلال لعب الأبناء عند النهر لمح شيء أمامهم كان قد جرف على ضفاف النهر، حله الابن لأبيه وكان الشيء عبارة عن خاتم بفص أخضر. أعجب الأب بالخاتم وقرر الاحتفاظ به ورفض أن يلبسه أحد من عائلته. كان الأب يفكر في بيعه والاستفادة من ثمنه لذا عندما عاد للمنزل وضعه تحت وسادته بنية البحث عن مشتر له في السوق صباح اليوم التالي.
توجه الرجل للسوق عندما استيقظ باكراً وعرض الخاتم على محل مختص بالحلي فأخبره الصائغ أن الخاتم لا قيمة له بالرغم من جماله ودقة صناعته لأنه لم يصنع من معدن نفيس فهو مجرد دمج للنحاس والحديد. عاد الرجل من السوق خائباً ودخل على أهله المجتمعين بانتظار عودته من السوق بحماس. دخل الفلاح ورمى الخاتم على الأرض وجلس جانب زوجته وقال: "افعلوا به ما شئتم.."
تسابق أولاده على خطف الخاتم من على الأرض وبعد صراع قصير بينهم فازت به ابنته الكبرى (رقية) فقال الأب عندما ظفرت به: "الخاتم منذ اليوم لك يا ابنتي.."
فرحت (رقية) بالخاتم الأخضر كثيراً ووضعته في جيبها ولم تلبسه حتى حل الماء عناها خلد الجميع للنوم وعم الهدوء أرجاء المنزل. بعد ساعات وعند اقتراب منتصف الليل استيقظ الفلاح مفزوعاً على صرخة قوية قادمة من الغرفة التي ينام فيها أبناؤه فنهض هن فراشه وذهب مسرعاً ولحقت به زوجته وهي مرعوبة لكنهما عندما دخلا وجدا أطفالهما نائمين مطمئنين في سكون فنظر الرجل لزوجته وقال: "هل سمعت ما سمعته؟"
(الزوجة): لا.. لكني لحقتك عندما رأيتك تجري مفزوعاً باتجاه غرفة الأولاد
(الرجل): ألم تسمعي الصراخ القادم من غرفتهم؟
(الزوجة) باستغراب: أي صراخ؟
(الرجل) وهو يهم بالخروج من غرفة أبنائه: لا شيء.. انسي الأمر ولنعد للفراش..
بعد ساعة من عودة الرجل وزوجته لغرفتهما وانتصاف الليل تقريباً سمع الرجل الصرخة مرة أخرى فذهب جرياً لغرفة أولاده لكنه هذه المرة لم يجدهم في فراشهم فبحث في أرجاء الغرفة بقلق وتوتر شديد لكنه لم يجد لهم أثراً فعاد مسرعاً ليوقظ زوجته التي لم تلحق به هذه المرة ليجد فراشهما خالياً هو الآخر.
خرج الرجل من بيته في منتصف الليل يبحث عن عائلته في الحقول القريبة من منزله بهلع كبير وبالرغم من أن الظلام كان حالكاً إلا أنه استمر في البحث طيلة الليل حتى انتهى به المطاف عند ضفاف النهر فتوقف يلتقط أنفاسه من الجري والنداء. قبل أن يستعيد الرجل تركيزه لمح شيئاً على بعد أمتار منه. كان هذا الشيء أشبه بالرجل القصير يلعب في الماء كالطفل وعندما اقترب منه بدأ يلاحظ أن شعره أسود طويل وناعم ومنسدل على جسده الصغير لكنه لم ير وجهه لأنه وقف مواجهاً للنهر. عندما لم يبق بين الرجل وهذا الشيء إلا مسافة قصيرة جداً التفت ذلك الشيء بسرعة خاطفة نحوه ليشاهد عينيه الواسعتين واللتين غلب السواد فيهما البياض وفي لحظة قفز الشيء في الماء واختفى.
عاد الرجل أدراجه وفزعه مما رآه لم يزل حاضراً لكن كل ما كان في باله هو إيجاد زوجته وأطفاله ولم يفكر كثيراً بذلك الشيء الذي شاهده عند ضفاف النهر بالرغم من أنه شعر بالرعب عندها تذكره. توجه مباشرة لعمدة القرية وطلب منه المساعدة في البحث عن أهله. اجتمع أهالي القرية بطلب من عمدتها وأشعلوا المشاعل وبدؤوا بالبحث طيلة الليل في الحقول والمزارع المجاورة لمنزل الفلاح. لم يسفر بحثهم عن أي نتيجة مع أن دائرة البحث اتسعت حتى شملت القرية بأكملها وجميع المزارع المحيطة بها. عاد الجميع لمنازلهم عند شروق الشمس بمن فيهم الفلاح الذي دخل منزله يضرب كفاً بكف من الحسرة حتى وصل لغرفة أولاده ووقف عند الباب يتأمل مضاجعهم وهو حزين وفي صدره قلق قابض على مصيرهم.
عندها لمح الرجل شيئاً على وسادة ابنه (أحمد) فاقترب ليجد شعرة سوداء طويلة لا تشبه شعر زوجته أو أحد من بناته بل كانت تشبه شعر ذلك الشيء المخيف الذي رآه عند ضفاف النهر. خرج (أبو أحمد) من منزله متوجهاً للنهر وكان الصباح ما زال في أوله وعندما وصل للمكان نفسه الذي رأى فيه ذلك الشيء أول مرة بدأ بالبحث بعناية ودقة وبعد مدة وجد الخاتم نفسه ذا الفص الأخضر الذي أخذته ابنته (رقية) ملقى على الأرض فحمله ووضعه في جيبه وأخذ يحث بنظره حوله لكنه لم ير أحداً.
عاد (أبو أحمد) للمنزل قبل الظهر بقليل ليجد باب منزله مفتوحاً فدخل مسرعاً ليرى ابنه في وسط البيت يبكي. اقترب منه ولاحظ أن جسده قد ظهرت عليه آثار التعذيب والضرب لأن ملابسه كانت ممزقة وجروحه التي توزعت على ظهره وأكتافه ورقبته كانت تنزف بغزارة وبمجرد أن وضع يده على كتف ابنه سقط الفتى أرضاً مغشياً عليه. حمل (أبو أحمد) ابنه وأخذه بعد ما لفه في لحاف أبيض تلطخ بدمائه إلى طبيب القرية. جرى الرجل عابراً منازل القرية متوجهاً لعيادة الطبيب وابنه الملفوف باللحاف الأحمر لا يحرك ساكناً. وفع الفلاح ابنه بين يدي الطبيب وبعد الفحص السريع قال: "ابنك في ذمة الله..".
صرخ (أبو أحمد) وتجمع عليه الناس لتهدئته لكنه حاول الاعتداء عليهم بالضرب بسبب هول الصدمة التي تعرض لها فوجه له أحد المتجمهرين حوله ضربة على رأسه أفقدته الوعي. استيقظ بعدها في فراشه مساءً وحوله الناس يعزونه لوفاة ابنه وعمدة القرية بجانبه يسأله عن الذي حدث فحكى لهم جميعاً القصة لكنه لم يجد أذناً مصدقة وبدأت الشكوك تحوم حوله. رحل الناس وبقي معه أخو زوجته (مختار) يحاول أن يعرف منه ما حدث بالضبط فصرخ (أبو أحمد) وقال: لقد أخبرتكم بما حدث معي!!
(مختار): أين الخاتم إذاً؟
أخرج (أبو أحمد) الخاتم من جيبه ووضعه في يد (مختار) قائلاً: خذ! تفحص (مختار) الخاتم قليلاً ثم قال: خذني إلى المكان الذي وجدته فيه..
(أبو أحمد) بحزن! أريد دفن ابني أولاً..
(مختار): الصباح رباح وابنك لن يدفن حتى ينتهي التحقيق
(أبو أحمد): أي تحقيق؟
(مختار): ما حدث لابنك جريمة قتل والشرطة تحقق في الموضوع وتحفظت على جثته
(أبو أحمد) وهو ينزل رأسه بحزن: وأنا المشتبه به الوحيد أليس كذلك؟
(مختار): دعك من هذا الأمر الآن وخذني للمكان الذي وجدت فيه الخاتم
توجه الاثنان للنهر وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة مساء. توقف (أبو أحمد) وأشار بأصبعه للمكان الذي وجد فيه الخاتم: "وجدت الخاتم هنا.."
في تلك اللحظة سمع الاثنان صوتاً يشبه الضحك الخفيف قادماً من الأشجار خلفهما فنظر (أبو أحمد) لــ (مختار) وقال: هل سمعت ها سمعته؟
(مختار): نعم.. لنذهب باتجاه الصوت ونحاول إمساك من كان يضحك
(الرجل): هل جننت؟!.
(مختار): صدقني إنه مجرد مجرم يتلاعب بك
اندفع (مختار) جرياً نحو الأشجار التي أتت منها الضحكات في محاولة للإمساك بمن أطلقها وأشار لــ (أبي أحمد) للحاق به لكنه تسمر مكانه وبعد لحظات سمع صرخات استغاثة تأتي من خلف الأشجار. كان صوت (مختار) يصرخ ويقول: أنقذني يا (أبا أحمد)!
تحرك (أبو أحمد) مهرولاً نحو مصدر الصوت لكنه لم يجد شيئاً..
عاد بعدها لضفاف النهر فوجد الرجل الصغير نفسه يلعب بكرة عند النهر..
توقف (أبو أحمد) وبدأ يراقبه وهو مرعوب ويفكر بالعودة قبل أن يراه ذلك المخلوق الصغير ذو الشعر الطويل الناعم والأعين السوداء الواسعة وقبل أن يقرر العودة التفت الشيء نحوه ونظر باتجاهه وحدق به بحدة ثم أخرج الخاتم الأخضر من فمه وبدأ يقلبه بين أصابعه وعيناه السوداوان تحدقان بــ (أبي أحمد) وفي لحظة اندفع المخلوق جرياً بسرعة خفيفة نحوه. لم يلحق (أبو أحمد) أن يتحرك أو يهرب فأغمض عينيه وأغمي عليه مباشرة من الرعب.
أستيقظ في الصباح ومشى نحو ضفة النهر ولم ير شيئاً سوى الكرة التي كان يلعب بها ذلك الكائن والتي لم تكن سوى رأس (مختار) المفصول عن جسده. تراجع الفلاح للخلف وهو يغطي فمه وابتعد عن المكان جرياً وتوجه لمنزله. عاد ليجد زوجته وبناته مذبوحات في فرشهن وأهل القرية في انتظاره ليقبضوا عليه ويوجهوا له تهمة القتل ومهما كرر الوجل قصته لم يصدقه أحد ولا حتى المحامي الذي عين للدفاع عنه والذي طلب من القاضي تخفيف العقوبة عليه بحجة الجنون.
حكم على (أبي أحمد) بالحبس مدى الحياة وبعد أربعة أشهر وجد مقتولاً ببشاعة في زنزانته ولم تجد الشرطة أي دليل يرشدها للقاتل سوى شعرة سوداء طويلة وجدت على وسادته.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا