ليلة الحادثة
(عمر) و(ماجد)
صداقة جمعتهما منذ الطفولة.. عاشا وتربيا في الحي نفسه منذ الصغر. تشاركا فصول الدراسة الابتدائية, الإعدادية والثانوية لكن تفرقا في المرحلة الجامعية وشاءت الأقدار أن يلتقيا مرة أخرى في حياتهما المهنية حيث تعينا معاً في إحدى المحاكم الشرعية في مدينتهما. الأول في قسم الأرشيف والآخر في قسم الاستقبال مما زاد من عمق العلاقة بينهما أكثر. بالرغم من عملهما في محكمة شرعية إلا أنهما لم يكونا من الفئة التي يمكن أن يقال عنها "ملتزمة" دينياً لكن بالمقابل كان أغلب زملائهما في العمل من تلك الفئة مما جعل حياتهم المهنية أكثر سهولة وسلاسة منهما في بيئة العمل بسبب ذلك الالتزام الظاهر. نتيجة هذا الاختلاف تم إقصاء (عمر) و(ماجد) من اللقاءات الاجتماعية الخاصة بدائرة العمل لكن الحق يقال إن بعض زملائهما لم يكونوا مؤيدين لهذا الإقصاء وكانت علاقتهم معهم طيبة جداً مع تحفظهم على أمور ثانوية مثل حلق اللحية والتدخين وسماع الأغاني.
استيقظ (ماجد) على صوت جرس بابه مساء أحد الأيام ورد من خلال السماعة الداخلية وهو مرهق قائلاً: نعم؟.. من عند الباب؟
(عمر) بعصبية: من عند الباب؟!.. يبدو أنك نسيت موعدنا ونمت كالمعتاد؟!
(ماجد) والنعاس يغالبه: لا لا أنا مستيقظ وسوف آتي لمنزلك حلاً
(عمر): تأتي لمنزلي؟! أنا أحدثك من سماعة الباب!.. ألم تستيقظ بعد؟! أنا بالأسفل أنتظرك!.. لا تتأخر!
رأى (ماجد) أن الساعة تشير لــــــ7:16)) فعاد لغرفته وتوجه للحمام واغتسل بسرعة ثم لبس ملابسه وخرج على عجالة وركب سيارة (عمر) مبرراً تأخره:
"لقد كان العمل اليوم مرهقاً لذا نمت دون أن أشعر.."
رد (عمر) ضاحكاً: يبدو أن صاحبنا القاضي قد أثار حفيظتك اليوم أيضاً؟
(ماجد) بتهجم: اسكت أرجوك لا تذكره أمامي.. لا أعرف ما الذي حدث له فقد كان جاراً لنا منذ الصغر وكان يلعب معنا ومن أعز أصدقائنا لكن بعد وفاة أبيه وهو في المرحلة الجامعية تغيرت معاملته لنا تماماً وأخذ يعاملنا بدونية وبتجاهل متعمد.. لعله المال الوفير الذي ورثه عن والده جعله يحس بتلك الفوقية ويشعر بأنه أفضل منا
(عمر): لا أظن.. لكن المسألة محيرة فعلاً فقد كان من أعز أصدقائنا وتغيره المفاجئ كان صادماً لنا جميعاً
(ماجد): أغلب الأعداء يبدؤون حياتهم معك كأصدقاء..
(عمر): ما زاد الأمر سوءاً هو أنه حصل على الدكتوراه في الشريعة بعد عدة سنوات وتم تعيينه قاضياً في مكان عملنا وتظاهر بأنه لا يعرفنا
(ماجد): ونحن لا نريد أن نعرفه بعد الآن
(عمر): مديراً محرك السيارة ضاحكاً وبنبرة متهكمة: أنت مجرد موظف وضيع بالنسبة له!
(ماجد): عابساً: لنغير الموضوع فانا لم أخرج معك كي تنغص عليّ ليلتي بالحديث عن ذلك المتغطرس
(عمر): يقود السيارة مبتعداً عن المنزل: هل تريد أن نذهب لمعاكسة بعض الفتيات؟
(ماجد): ضاحكاً: معاكسة الفتيات؟!.. هل فقد عقلك يا موظف الأرشيف؟
(عمر): متوقفاً عند إشارة ضوئية وضاحكاً: مدير قسم الارشيف لو سمحت فقد صدر اليوم قرار ترقيتي!
(ماجد): وهو مبتهج: مبارك! وأخيراً حصلت على تلك الترقية المتأخرة منذ سنوات
(عمر): تقصد المتأخرة بسبب صديقنا القاضي الذي لم أحصل على ترقية واحدة منذ أن وطئت قدماه أرض المحكمة
(ماجد): ماذا تقصد بهذا الكلام؟
(عمر): لا أعرف لكن قبل قدومه كانت ترقياتي تسير بشكل منتظم ومنذ تعيينه في المحكمة لم أحصل على ترقية واحدة حتى صباح هذا اليوم
(ماجد): إن بعض الظن إثم ولا أظنه سيفعل شيئاً دنيئاً كإيقاف ترقيتك أو التدخل فيها خاصة وأنك لا تعمل معه بشكل مباشر
(عمر): بتهجم: لعلها مصادفة..
(ماجد): أنا متيقن من ذلك.. فلا يعقل أن رجلاً متديناً يخشى الله يسعى في أذية الغير.. عموماً دعنا ننس الأمر ولنحتفل بهذه المناسبة السعيدة
(عمر): مبتسماً: لذلك أردت القيام بشيء جنوني بهذه المناسبة
(ماجد): تقصد اقتراحك الغريب في معاكسة الفتيات؟
(عمر): نعم وما المشكلة؟
(ماجد): ألا ترى أننا كبرنا على هذه الامور ووضعنا الوظيفي لا يسمح بذلك؟
(عمر): وهذا أكبر سبب لنقدم على هذه الخطوة.. أريد أن أشعر بالانطلاق
(ماجد): حسناً كما تشاء.. أين تقترح أن نمارس هذا الجنون الذي تتحدث عنه؟
(عمر): طبعاً في الأسواق والأماكن العامة هذا غير وارد لكن اكتشفت بالمصادفة شركة تبيع منتجات التموين بالجملة ولديهم مقر يعمل لساعات متأخرة ومندوبو المبيعات لا يرحلون قبل العاشرة ليلاً
(ماجد): وما علاقة ذلك بمقابلة الفتيات؟
(عمر): مبتسماً بخبث: نصف العاملين هناك فتيات
(ماجد) بتعجب: وماذا تنوي أن تفعل؟
(عمر): في الحقيقة ليس لدي خطة محددة.. لكن لنر ما يحدث
(ماجد): لا أعرف ما الذي يدور في راسك لكن هيا بنا فليس لدي شيء أهم لأقوم به اللية
وصل الاثنان لمقر الشركة وبعد ما تسوق الشابان قليلاً واشتريا بعض الحاجيات التي لا يحتاجانها والتي كانت معروضة للبيع بالمفرق كدعاية لمنتجات الشركة توجها إلى منطقة مندوبي المبيعات والتي انتشرت فيها مجموعة من المكاتب الصغيرة وفوجئا بأن كل الموظفين كانوا ذكوراً فأدار (ماجد) نظره لــــــ (عمر) وقال: "أين الفتيات اللاتي تحدثت عنهن؟!"
(ماجد) باستغراب مراقباً المكاتب التي خلت من الفتيات: أقسم إني كنت هنا بالأمس وكان هناك بين المندوبين فتاتان على الأقل
(عمر) بإحباط: أنا لا أرى أمامي إلا من سئمت أعيننا من مشاهدتهم طيلة حياتنا
(ماجد) يشير بإصبعه للأمام: انظر هناك..
(عمر) متجهاً بنظره حيث أشار (ماجد): أين؟
(ماجد) يومئ برأسه: هناك عند المدخل.. تلك الفتاة التي يوبخها المدير.. يبدو.. أنها تأخرت عن عملها اليوم
(عمر) يراقب مير الفرع وهو يشوح بيده ويخاطب فتاة محجبة بنبرة حادة وغاضبة: نعم أنت محق.. لننتظر حتى ينتهي مديرها من توبيخها ثم نظهر نحن في الصورة ونخفف عنها
(ماجد) يبتسم ويحدق بالفتاة التي كانت مطأطئة الرأس أمام مديرها: لقد قرأت أفكاري عندما أنهى مدير فرع الشركة حواره الغاضب مع الفتاة توجهت وجلست إلى أحد المكاتب الصغيرة بعد ما نهض زميلها الذي كان ينوب عنها خلال فترة تأخرها فتوجه (عمر) و (ماجد) نحوها بحوائجهما التي لا يحتاجانها كي يحاسبا عليها وينعما ببعض الدقائق بالقرب من تلك الفتاة.
(ماجد) واضعاً الحاجيات على سطح مكتبها: لماذا السرحان يا جميلة؟
لم ترد عليه الفتاة التي كانت صامتة وسارحة في الأفق أمامها وتضع الحاجيات في الكيس دون حتى النظر إليها..
تدخل (عمر) وهو يغمز لــــــ (ماجد) بأن يتنحى وقال: لا تضايق الفتاة يا (ماجد) يبدو أنها تمر بظروف صعبة
لم ترد الفتاة كذلك على تعليق (عمر) وأكملت ما تقوم به بصمت.. استمر الاثنان برمي ما في جعبتهما من وسائل لفت الانتباه تجاه الفتاة لكنها بقيت على حالها صامتة ومتجاهلة لهما حتى انتهت وقالت: المحاسب في الجهة الاخرى وليس هنا..
أحرج الشابان وتوجها للمحاسب ودفعا ثمن الحاجيات وخرجا من المكان و (عمر) يقول بسخرية: هل نحن معدوما الجاذبية لهذه الدرجة؟
(ماجد) مخرجاً مفاتيح السيارة من جيبه ضاحكاً: تحدث عن نفسك! ركب الاثنان سيارتهما وخيبة الأمل تعلو وجوههما وبعد فترة من الصمت في مقاعدهما والتحديق أمامهما دون إدارة محرك السيارة قال (عمر): ما زال الليل في أوله لنذهب لمكان آخر..
(ماجد) وهو سارح أمامه: ماذا تقترح؟
(عمر) ملتفتاً إلى صديقه باسماً: يبدو أننا لم نعد نجذب الفتيات فلنذهب ولنتناول العشاء بمناسبة ترقيتي أم أنك تريد التملص من هذه العزومة؟
(ماجد) ضاحكاً: لا لا هذا واجب علي.. اختبر المطعم الذي تريد وعشاؤك على حسابي
(عمر) وهو يدير محرك السيارة: حسناً
بعد ما انتهى الاثنان من تناول العشاء في أحد المطاعم التي اختارها (عمر) قررا التجول على الخط الصحراوي خارج المدينة كي يتحدثا بعيداً عن ضوضائها وصخبها. بدأ بالحديث عن أمور كثيرة كذكريات الطفولة وأحوال العمل وخلال حديثهما وانشغالهما عن الطريق اصطدمت سيارتهما بشيء ما بقوة مما دفع (عمر) للضغط على الفرامل أفقدته السيطرة على السيارة وألجأته إلى الخروج عن الطريق المبعد والدخول في الطريق الترابي الجانبي والتوقف.
(ماجد) مفزوعاً: ما الذي حدث؟!
(عمر) يلقي نظرة خلفه مستعيناً بالمرآة أمامه: لا أعرف يبدو أننا دهسنا قطًا.
(ماجد) ينظر خلفه للطريق الرئيس المغطى بسحابة من الغبار بسبب انحرافهما: لا أظن ذلك فما دهسته بدا أكبر حجماً من مجرد قط.. هل رأيت ما دهسنا؟
(عمر) موجهاً نظره لــــ(ماجد) وعلى وجهه ارتسمت معالم الخوف والقلق: أعتقد أننا دهينا فتاة..
(ماجد) بصوت مرتفع قبل أن يهم بالنزول: ماذا؟!.. هيا لننزل ولنر!
ترجل الاثنان من السيارة وهما قلقان جداً وبدأ بالبحث على الطريق الرئيس وحوله لكنهما لم يجدا شيئاً
(ماجد) وعيناه لا تزالان تتفحصان الطريق: هل أنت واثق أننا دهسنا فتاة؟
(عمر) وهولا يزال يبحث ويتفحص المكان حوله: لعلنا لم نصطدم بشيء مهم ربما كانت مجرد قطعة معدنية أو بلاستيكية ملقاة على الطريق
سار (ماجد) لمقدمة السيارة وبدأ بتفحصها..
(عمر) من على بعد وسط الشارع الرئيس وبصوت مرتفع قليلاً: يبدوا أني كنت مخطئاً وأننا بالفعل لم نصطدم بشيء مهم!
(ماجد) بعد ما نزل على ركبتيه وعيناه المتوترتان على دولاب السيارة الأيمن الأمامي أشار قائلاً: تعال وانظر جيداً لأسفل الإطار.. فقد تغير رأيك..
(عمر) يمشي بخطوات متسارعة نحو (ماجد): ماذا؟.. ماذا قلت؟ اقترب (عمر) ونظر حيث كان يشير ورأى خصلة كبيرة من الشعر الأسود الطويل مغطاة بالدماء عالقة ومحشورة بين الإطار وأسفل السيارة..
(عمر) بخوف وتوتر: (ماجد)؟.. ما الذي دهسنا؟
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا