قبران 5 للكاتب جعفر السلمان

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-04-12

كانت جثته موضوعة هناك، وبعض الرجال يستعدون لتغسيله، فبدت علامات الصدمة عليه، فمن المفترض أن الأطباء لا يزالون يحاولون إنعاشه، فالمسافة بين المستشفى والمغسل لم تتجاوز الثانيتين. 

لفت انتباهه وجود جثة أخرى، فشعر برغبة بالتقدم منها ورفع الغطاء عنها للتعرف عليها، فالممرضة تحدثت عن صديقين ماتا في نفس الوقت، وهذا يعني بأن هذه لن تكون سوى جثة سعيد، فقال سائلاً ملك الموت:

- هل قبضت نفس سعيد أيضاً؟

- نعم، وفي نفس الوقت الذي قبضت فيه نفسك.

- ولكن كيف مكنك ذلك؟ فقد كنت معي طوال الوقت؟

- ألم أقل لك بأن تحاول أن تترك عنك قوانين الطبيعة كي تتفهم الأمور وتتقبلها ببساطة.

- لم لا أراه هنا إذن؟

- لم آت به بعد إلى هنا، بل حتى عندما آتى به فلن تراه، فهو الآن على حال غير الحال الذي تركته عليها، ونحن لا نريد إزعاجك بأي منظر قد يسيؤك، فأنت هنا لتحصد السعادة لا الشقاء، أما هو فسيستطيع رؤيتك حتماً وسماعك لكي يتحسر على ما فرط به، ولكنك لن تراه كي لا تحزن.

في هذه الأثناء في المستشفى، سعيد لا يزال يبكي من شدة الألم الناتج عن فصل نفسه عن جسده، يصرخ وهو يرى الجميع من حوله يحاولون إعادته للحياة دون أن يعوا ما يجري حولهم، يقفون قرب ملك الموت دون أن يعرفوا بأنهم قريبون منه حتى تكاد أجسادهم تلتصق به، ولو كشف الغطاء عن أعينهم لما بقوا هنا لحظة، رفع ملك الموت جزءاً من جسده فأطلق صرخة أخرى مدوية ولكن دون جدوى.

تمنى لو أن أحداً ما يستطيع سماعه ولو ليتعاطف معه فقط، فبالرغم من أنه يرى الجميع من حوله إلا أنه يشعر بوحدة غريبة، فقد غدا في بعد آخر لا تستطيع حواس الإنسان إدراكه، وأي وحدة تلك، فهو الآن وحيد في مواجهة هذا المسمى ملك الموت، وهو عاجز لا يستطيع لنفسه شيئاً.

لم يعرف كم مضى عليه من الوقت عندما انتهى ملك الموت منه، ولكنه شعر بنفسه تطفو فوق جسده، شعر بأنه أصبح اثنين، رأى نفسه وجسده في آن واحد، وهنا انقض عليه ملك الموت مجدداً وأمسك به من رقبته ليقذف به بعيداً، ليجد نفسه فجأة في المغسل حيث كانت جثة حسين لا تزال تجهز للقبر.

تقدم منه ملك الموت:

- لقد أنهيت مهمتي، وأنا ذاهب الآن، ولكن تذكر يا سعيد بأن الذي لاقيت مني ما هو إلا بداية لمشوار طويل، قد انتهيت للتو من أخف وأسهل جزء منه.

غادر ملك الموت، فشعر بالارتياح لذلك قليلاً رغم شعور الرعب الذي يرفض مغادرته، جلس على الأرض بسبب الآلام الحادة التي يشعر بها في جميع أجزاء جسمه.

نظر إلى صديقه حسين الذي كان واقفاً بالقرب منه دون أن يحرك ساكناً، ودون أن ينطق بكلمة واحدة.

"يبدو أن حسين لا يزال غاضباً مني، لا بأس سأذهب أنا إليه فهذا ليس وقت الكبر، فأنا محتاج إلى من يشرح لي الأمر، ماذا سيجري وما يجب علي أن أفعل؟ فهو خبير في هذه الأمور، سأذهب إليه وماذا في ذلك؟! بل إني سأقبل قدمه إن استدعى الأمر".

وقف بصعوبة، وتوجه إلى صاحبه، فوقف مقابلاً له:

- أعرف بأنك غاضب مني، ومعك كل الحق في ذلك، لكنني ومهما يكن صديقك، وأنا محتاج إلى مساعدتك الآن.

لم تصدر من حسين أية ردة فعل، فهو لا يستطيع رؤيته أو سماعه، فحاول أن يضع يده على كتف صاحبه، ولكن يده مرت خلال جسمه كما لو أن جسمه من دخان.

هنا عرف وتيقن بأن صاحبه لا يسمعه ولا يراه، فجلس وهو يندب حظه العاثر.. "لا أستطيع لوم أحد إلا نفسي، فقد تعب حسين وهو ينصحني بلا فائدة.."

جلس على الأرض، وقد بدأت أطرافه كلها ترتعش رعباً من القادم الذي أخبره عنه ملك الموت، ذلك الرعب الذي يشعر به في كل مكان ومع كل حركة أو نفس حتى.

بعد دقائق انتبه إلى أن حسين يلتفت يميناً ويساراً وكأنه يبحث عن شيء ما، ومن ثم قال: أنا أعرف بأنك هنا معي يا سعيد، ولا أعرف إن كنت تستطيع سماعي أم لا، فأنا لا أستطيع رؤيتك لكنك ربما تستطيع رؤيتي، فركز جيداً فيما سأقول لك إن كنت تسمعني، حين يتم وضعك في القبر سيقوم شخص ما يتلقينك الشهادة فركز جيداً، وحاول أن تحفظ ما يقال لك، فإن هذا هو منجيك من منكر ونكير، ركز جيداً ولا تنس، فإن نسيت فستلق عذاباً شديداً، فركز ولا تنس.

في الأثناء أصبحت جثة حسين جاهزة للدفن، وقد بدأ الرجال بتغسيل جثة سعيد، الذي كان يشعر بأن آلام قبض النفس قد بدأت تخف قليلاً نتيجة ذلك الغسل، وكأن الماء بلسم شفاء لتك الجروح والآلام، وبعد أقل من ساعة كان الألم قد زال نهائياً وذلك مع بدء الصلاة عليه قبل دفنه، كان سعيد ينظر للناس المشيعين له وكأنه يراهم لأول مرة، يستطيع رؤيتهم ورؤية أنفسهم في ذات الوقت، فيرى الجشع متمثلاً في هذا والشهوانية في ذاك، والإيمان في آخر، والغريب في الأمر أنه يستطيع رؤيتهم بالشكلين معاً في آن واحد، قلة فقط من كانت أشكالهم آدمية ومحترمة، وعدد أقل من كان شكله أجمل بكثير من واقعه، ومما أراحه قليلاً حقيقة أن ولده حسين يبدو أجمل بكثير من الواقع، فلسعيد ابن واحد وقد أسماه حسين لكثر ما أحب صديقه حسين، وقد كان حسين الابن بخلاف أبيه، إنسان محافظ ومتدين، وإن كان لأحد فضل في ذلك فإن الفضل يعود إلى حسين الكبير، فحسين الابن تربى مع حسين الكبير أكثر مما تربى عند أبيه، فرغم الخلاف الكبير بين الرجلين لم يكن سعيد في وارد منع ابنه عن صاحبه، ففي النهاية هو يعرف كم يحب حسين الكبير حسين الصغير.

بعد انتهاء الصلاة أخذ المشيعون جسده ووضعوه في النعش، وبدؤوا السير به إلى القبر، وقد أصبح كمن يطير فوق جسده كونه يطفو فوقه دون أن يستطيع الاندماج معه أو حتى الاقتراب منه، وكأن هناك سعيدين، أحدهما فوق الآخر، وبعد ثوان وصل المشيعون إلى القبر، فوضعوا الجسد بجانبه من أجل التجهيزات النهائية، وهنا أصيب بالرعب عندما رأى منظر القبر من الداخل، ففي وضعه أصبح يرى القبر أكثر من كونه مجرد الحفرة كما يراها الجميع، فهو بات يرى الأمور على حقيقتها، يرى المكان أسود، حالك السواد، وكأنه موضع لحريق أو ما شابه، ويرى بعض الأفاعي الضخمة، والكلاب المسعورة، وهي تتحرك بطريقة توحي بأنها لا تقوى على الانتظار، انتظار ذلك الجسد الذي يكاد المشيعون أن يضعوه في القبر.

كان يطفو بارتفاع عدة أمتار، وهو يكاد يبكي مما يرى أمامه، ويستصرخ الناس بتلقائية بألا يضعوا جسده في ذلك القبر، ولكنه صراخ واستصراخ بلا فائدة، فلا أحد يسمعه، بل ولا أحد يشعر بوجوده.

بعد دقائق وضع المشيعون ذلك الجسد في القبر، وهنا شعر بأن هناك قوة تجذبه بشدة إلى الداخل، تحديداً إلى ناحية جسده، حاول بجهد جهيد مقاومة تلك القوة دون فائدة، فسحب بقوة إلى داخل القبر، فشعر بأنه وبالرغم من كونه يطفو على ارتفاع أمتار قليلة، إلا أنه كمن سقط من شاهق بسرعة كبيرة جداً وارتطم بالأرض، فكان لوقع سقوطه على الأرض دوي قوي، ولكن لم يسمعه أحد من المشيعين.

كان الارتطام قوياً لدرجة أنه شعر وكأنما لو أن كل عظمة في جسده قد تهشمت إلى قطع صغيرة، فغداً الألم حينها لا يطاق، حيث باتت آلام قبض النفس كدغدغة قبال ما شعر به من جراء الارتطام، ومما زاد في الأمر سوءاً، هو أن تلك الثعابين والكلاب بدأت تنهش فيه، دون أن يستطيع دفعها عن نفسه لعدم قدرته على الحركة، فبقي في مكانه يصرخ بقوة جراء ما كان يفعل به، فلم تكن تلك الحيوانات تريد أن تأكل من لحمه، فهي تعضه لتؤلمه فقط، ومن ثم تعش مكان آخر، وهكذا.

في تلك الأثناء بدأ الملقن في تلقينه ما يقول للملكين، فتذكر كلمات صديقه، فظل يصغي إلى كل كلمة يقولها، وبالرغم من أن الحيوانات تزداد وحشية كلما حاول الإصغاء، إلا أنه استطاع سماع التلقين إلى الآخر، بعد ذلك قام المشيعون بإلقاء التراب على الجثة، وعند انتهائهم وبشكل مفاجئ هربت الكلاب والأفاعي، وقبل أن يستطيع حتى التفكير في سبب هروبها سمع صوتاً قوياً كالرعد يقول له: من هو ربك، فأجاب بتلقائية: الله تعالى ربي. وهو يلتفت إلى مصدر الصوت، وما إن استدار حتى تجمد في مكانه رعباً مما رأى، فتمنى حينها أنه لم يستدر ويرى ما يرى.

شخصان واقفان طوال القامة وضخام الجثة، وقد انفرج القبر واتسع لهما في لمح البصر، في يد كل منهما قضيب من حديد، وقد احمر بسبب حرارته الشديدة، كانا يبدوان غاضبين جداً، ولكن غضبهما خف قليلاً بعد أن أجاب على أول سؤال، وهنا جاء السؤال الثاني: ما هو كتابك؟

سكت لبضع ثوانٍ لكي يستجمع رباطة جأشه، فأجاب: القرآن كتابي.

فانخفضت حدة غضب الشخصين أكثر.

تمنى لو أنه يفقد وعيه في تلك اللحظات، لكي لا يرى ما يرى من رعب، فقد كان خائفا لدرجة عدم قدرته حتى على الكلام بطريقة سوية، ولكن مع ذلك استطاع الإجابة عن جميع الأسئلة بنجاح، فغادر الشخصان المكان، تاركان إياه في ذلك الظلام الموحش، وقد سرت فيه رعشة من جراء الخوف والرعب مما رأى، فهما غادرا المكان لكنه لم يكن ليطمئن بأنهما لن يعودا، حتى مع انكماش القبر مجدداً ورجوعه إلى حجمه الطبيعي.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا