قبران 2 للكاتب جعفر السلمان

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-04-09

في الأثناء، المسعفون قد انتهوا من وضع الرجلين في سيارتي الإسعاف وهما فاقداً الوعي، وكمامات الاوكسجين على وجهيهما، فانطلقوا بهما مسرعين إلى المستشفى، وقد تبعهما أبناء الرجلين في سياراتهم، وبعد دقائق وصلت سيارتا الإسعاف إلى قسم الطوارئ حيث الطاقم الطبي في انتظارهما، وبسرعة قاموا بنقل الرجلين إلى الداخل، تحديداً إلى قسم الحالات الحرجة، وتم على الفور تركيب الكثير من الأجهزة عليهما، وليس معروف إن كان من الصدفة أيضاً أن يكون الاثنان جنباً إلى جنب في تلك الغرفة الكبيرة، أم أن الأقدار لا تزال تمارس اللعب بهما. 

الرجلان لا يزالان غائبين عن الوعي في تلك الأثناء، وقد بقيا كذلك لمدة ساعتين وسط قلق الأبناء والأهل، فليس من السهل على أي كان رؤية أباه في هذا الوضع، فهناك مشاعر مختلطة من القلق، الخوف، الرجاء، الضياع، والترقب، وكلها تتقاذف الأبناء فيما بينهم، فالأب بالنسبة لأبنائه هو ذلك الشخص العظيم، القوى الذي لا تستطيع الدنيا هزيمته، بينما واقع الحال يقول بأنه طريح الفراش، وقد لا يقوم منه أبداً.

بدت المفاجأة غريبة على حسين عندما استفاق فوجد صديقه القديم بجانبه، وقد تفاجأ أكثر عندما علم بأنه يعاني من نفس المرض، فيا لتلك الصدفة، وأي صدفة تلك التي يمكن أن تجمعهما في نفس المكان وفي نفس الوقت ولنفس السبب، وهنا تملكه شعور غريب بنبئه رغماً عنه بأن النهاية قد حانت، وأن الأمر لن يتعدى ساعات قليلة، شعور حاول تجاهله قدر الإمكان بلا فائدة، فأينما نظر أو كيفما فكر تجلت أمامه فكرة الموت.

حاولت دمعة واحدة الهروب من مقلته فسارع لمسحها قبل أن يلتفت لها أحد، دون أن يعرف بالتحديد سببها، أهو الحزن على مصير صديقه؟! أم هو الخوف الذي اعتراه من فكرة الموت نفسها؟!

فهو مقتنع بأن الموت لا يأتي للمؤمنين بغتة، لذلك يعلوه الرجاء أن يكون إحساسه صادقاً، وأنه بالتالي معدود من المؤمنين، مع ذلك لم يستطع تقييم نفسه جازماً دون شك بأنه معدود من أولئك المؤمنين، فقد يكون الأمر برمته استنتاجاً منطقياً لا أكثر ولا أقل، وقد يكون الموت قريباً أيضاً، ويكون خوفه بالتالي إشارة سيئة لمصير سيء بانتظاره لا إشارة لإيمانه، فمع الموت كل شيء ممكن، فهو الحد الفاصل بين مرحلتين في مسيرة الإنسان، وما بعد الموت لن تكون الأمور كما قبله.

بالرغم من كل العداء والخلاف الذي كان بينه وبين صاحبه، إلا أن الامر أصبح في وضع لا يقبل تقديم التناحر أو الخلاف، فكل الخلافات بدت تافهة، وكل الكبرياء بدا بلا قيمة، فكان ينتظر بفارغ الصبر أن يستفيق صديقه لكي يحاول وللمرة الأخيرة أن يرجعه إلى الله، فلا يزال هناك متسع من الوقت لذلك، حتى وإن كانا مقبلين على الموت، ففي التراث الكثير مما روي ويروى عن أولئك الذين استداروا بمسيرة حياتهم في آخر لحظة وقبلت توبتهم.

مضت حوالي ساعة قبل أن يستعيد سعيد وعيه، وقد فوجئ هو الآخر بأنه في المستشفى، وبأنه مستلقٍ بالقرب من صاحبه، فانتابه شعور بأن الأمر أكثر من مجرد صدفة، صحيح أنه لم يصل لمرحلة التفكير في الموت، لكنه يحس بغرابة الأمر، يشعر بأن في الأمر ما فيه، جال وصال فلم يهده عقله إلا إلى احتمال وجود من استغل حالتهما لوضعهما بالقرب من بعضهما البعض ليبدو الأمر كأنه صدفة.

وضع يديه على جانبي السرير، وبدأ يرفع جسمه ببطء محاولاً الجلوس قبل أن يسارع ابنه ويضع يده على صدره طالباً منه برفق أن يظل مستلقياً، وألا يحاول إجهاد نفسه بالحركة أو الكلام، فهو لا يزال في مرحلة الخطر، ومن شأن بذل أي مجهود أن يسبب له مضاعفات، هكذا أخبرهم الطبيب، فرجع إلى الوراء مستسلماً، واسترخى على الوسادة وعيناه لا تزالان تراقب حسين، ومن ثم قال بصعوبة بالغة:

- كيف أتيت إلى هنا؟! ومنذ متى وأنا موجود في المستشفى؟!

ابتسم ابنه، وهو لا يزال يضع يده على كتفه:

- أرجو ألا ترهق نفسك بالكلام يا أبي، فأنت تعب جداً، وقلبك في حالة سيئة، لقد أصبت بنوبة قلبية سقطت على إثرها مغشياً عليك، فاتصلنا بالإسعاف ونقلناك إلى هنا، كان ذلك قبل حوالي ثلاث ساعات، ألا تذكر ذلك؟

لم يعر سؤال ابنه أية أهمية، فأكمل وعيناه لا تزالان تراقب حسين:

- وماذا يفعل حسين بقربي؟!

- لقد أصيب الحاج حسين بنوبة قلبية هو الآخر، وفي نفس الوقت الذي أصبت بها، وقد نقل إلى هنا في نفس الوقت الذي نقلت أنت فيه.

هنا دخل الطبيب وطلب من أبناء الرجلين المغادرة وتركهما لكي يرتاحا، مذكراً إياهما بأنهما لا يزالان في مرحلة الخطر، وأن أي جهد يبذلانه قد يشكل خطراً حقيقياً على حياتهما، فانصاع الجميع لأوامر الطبيب، وغادروا المكان تاركين الصديقين القديمين مجتمعان رغماً عنهما لأول مرة منذ سنوات.

عندما خرج الجميع وعم الهدوء المكان التفت حسين بحركة بطيئة لصاحبه، وهو يفكر في كيفية فتح الموضوع معه، فليس من المعقول أن يكون الموضوع الذي سيتكلمان فيه، وبعد كل تلك السنين، هو نفسه الموضوع الذي جرهما للخلاف، سكت لبرهة من الوقت يحسب الكلمات جيداً، ومن ثلم قال وبصعوبة بالغة:

- كيف تشعر يا سعيد؟

أجاب سعيد وبصعوبة أيضاً:

- أشعر بألم حاد في صدري وفي كتفي يمتد أحياناً إلى ذراعي. ماذا عنك أنت؟

- هو نفس الألم الذي تشعر به أنت، يبدو أننا مصابان بنفس المرض، وكما يبدو أننا نقترب من النهاية.

سكت سعيد لبضع دقائق، وقد رسم ابتسامة على وجهه رغم الألم الذي يشعر به وكأنه فهم إلى أين يريد أن يصل صاحبه بهذا الحديث، فصحيح أنهما لم يلتقيا منذ سنين، لكن معرفة ما يريد حسين من هذا الحديث هو أمر سهل جداً بالنسبة له.

- لا يا حسين لا أعتقد بأن هذه هي النهاية، هذا مجرد تعب بسيط في القلب، سرعان ما يزول.

- وماذا إن لم يحن كذلك؟ ماذا إن كانت هذه هي النهاية بالفعل؟

حاول سعيد الضحك، فخرجت قهقهة مع سعال.

- إلام ترمي بالضبط يا حسين؟ إن لم أكن مخطئاً فأنت تريد إعادة تلك الأفكار السخيفة التي لديك من أن هناك وحشاً اسمه ملك الموت، وأن هناك ملكين سيأتيان ليحاسبانك، وأن هناك ناراً وجنة وكل ذلك سيكون في تلك الحفرة الصغيرة التي سندفن فيها أليس كذلك؟

سكت حسين، وبقي يحدق في السقف، وكأنه يستجمع الكلمات في عقله، ومن ثم تكلم وهو لا يزال ينظر للأعلى وكأنه يهرب من احتمال مقاطعة صاحبه له.

"نعم هذا ما كنت أرمي إليه فعلاً، فقد كنت أريد أن أذكرك بتلك الأفكار التي تصفها بالسخيفة، ففكر فيما سأقوله لك جيداً: فهناك احتمالان لا ثالث لهما.

الأول: هو أن تكون كل تلك الأفكار مجرد هراء، وإنك عندما تموت ستتحلل جثتك فتصير بترولاً ربما، أو طعاماً للدود، وإنك لن تشعر بشيء لأنك وصلت إلى النهاية، وفي هذه الحالة لن يضرك شيء إن آمنت بأفكاري، فأنت لن تكون حياً، ولن يكون معك أي نوع من أنواع الوعي لكي تشعر بالندم لأنك اسمعت واقتنعت بتلك الأفكار"

سكت حسين لبضع ثوان، وكأنه يحاول التقاط أنفاسه قبل أن يكمل.

"الاحتمال الثاني: هو أنني على صواب، وفي هذه الحالة ستكون بمأمن من أهوال لا تستطيع حتى تصورها، لذا فالعقل يقول بأنك يجب أن تؤمن بما أقول، فإن كنت مخطئاً فلن تخسر شيئاً، وإن كنت محقاً فإنك ستكسب الكثير.

تخيل الأمر كما لو أنك على سفر في طريق صحراوي، وقبل أن تنطلق سمعت فلاناً يقول: إن الطريق معبد، وهو مليء بالمحطات والاستراحات والمطاعم. وسمعت آخر يقول: العكس إنه طريق موحش لا شيء فيه، وإنك ستحتاج إلى أخذ بعض المؤونة معك. هنا من ستتبع؟ ألن تتبع العقل؟! ومن ثم تأخذ معك المؤونة ولو من باب الاحتياط، إنه نفس الأمر هنا، فبالنتيجة ستكون أنت الخاسر إن كذبت بما أقول، ومهما كان الاحتمال الصائب.."

قال حسين هذه الكلمات، ومن ثم وضع يده على كمامة الأوكسجين، وأرجع رأسه إلى الوراء في إسارة إلى أنه يشعر بالتعب.

بقي سعيد صامتاً لا يعرف لكلام صاحبه جواباً، فمن جهة يعرف أن كلامه منطقي، فالاحتمالان مجرد خبرين، قد يصدق أحدهما ويكذب الآخر، ولكن من شأن أحدهما إن صدق أن يكون بمثابة إلقاء النفس في التهلكة، بينما الآخر إن صدق فإنه ين يغير من الأمر شيئاً، فهو وكما قال حسين لن يكون واعياً ليندم، لكن ومن جهة أخرى يبقى هناك احتمال آخر لم يضع له حسين حساباً، فماذا لو لم يكونا مقبلين على الموت؟! فإن كان أمر مرضهما مجرد تعب بسيط فإنه سيخرج من المستشفى مع واقع جديد، واعتراف بأمر لطالما أنكره.

موقف صعب الذي وجد نفسه فيه، فإما أن يغامر باتخاذ موقف سلبي من أمر تتساوى فيه نسبة الصدق والكذب بالنسبة له ويغامر بنفسه، أو أن يقبل بأن يتنازل عن كبرياء بقي يحافظ عليه طيلة أربعين عاماً.

 كان ليواصل سخريته ممن حسين لو أن الوضع كان مختلفاً، لكن مع هذا الوضع، وشعور الاقتراب من الموت يرفض التنحي جانباً فالأمور تختلف قليلاً، فكلام صاحبه مثل إليه ذلك الذي يشير إلى أمر موجود بالقرب منه دون أن يكون منتبهاً له، وما بعد الإشارة إليه ولفت الانتباه له لن يستطيع تجاهل وجوده مجدداً، وحسين فعل ذلك عندما أشار إلى الموت، فأصبحت الفكرة أمامه لا يستطيع صرف نظره عنها.

بعد فترة من التفكير، قال والانكسار يخرج من كل حرف ينطقه:

- ولكن يا صديقي الوقت متأخر جداً لذلك، فأنا أمضيت حياتي كلها غير مؤمن بتلك الأفكار، فهل يا ترى إن آمنت الآن فإن الله سيغفر لي؟ فكلامك غير منطقي وبلا معنى، فإن كان كلامك صحيحاً فأنا سأخسر سواء آمنت أم لم أؤمن.

ابتسم حسين، وقد شعر بأن صاحبه قد تأثر بالكلام السابق، بل وشعر برغبة تدفعه للكلام رغم أنف التعب الذي يهدد حياته:

- بالحسابات المادية الجوفاء نعم أنت محق، لكن بالحسابات المعنوية والروحية لا يا سعيد أنت مخطئٌ حتماً، فمغفرة الله أوسع مما نتصور نحن البشر، فالله غفور رحيم، حتى لو آمنت الآن فإنك حتماً ستنقذ نفسك من أهوال كثيرة، لا يعلم بها إلا الله، فمن يدري لعل الله يغفر جميع ذنوبك، فأنت ستقبل على من هو أكرم الأكرمين، فلا تنظر لله وكأنك تنظر لأحد بني البشر.

رغم أن تلك الكلمات كانت عادية، وهي من النوع الذي سمعها في أكثر من مناسبة إلا أنها سقطت عليه وكأنها صاعقة، أو كأنه يسمعها لأول مرة، فقد سيطر عليه شعور بأنه فعلاً أمام الموت، وبأنه مقبل عليه لا محالة، لذلك انكسر كبرياؤه فجأة وبطريقة لا شعورية، فهو لم يكن يتحكم في مشاعره وكأن الأمر يحصل بطريقة قسرية، أو كأن هناك من فرض عليه هذا الشعور فرضاً، حتى أصبح ذلك الشعور مطبوعاً على قسمات وجهه.

فقسمات وجهه أصبحت صفحة بيضاء، وقد كتبت عليها جملة واحدة فقط وهي "أنا أشعر بالانكسار".

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا