أعطاه الحارس الحجر وهو يبتسم في سره للشجاعة التي نزلت فجأة علي الحفار بعد فزعه المضحك في تلك الليلة الأخرى.. بالطبع سيتظاهر بالشجاعة الآن فهو يحتمي خلف سور المقبرة المرتفع.. صوب الحفار الحجر ورما بدقة على أحد الكلاب متعمداً أن يصيبه.. جرى ذلك الكلب مبتعداً وأنينه الجريح يمزق الهواء.. ولكن باقي الكلاب لم تتحرك ولم تتوقف عن النباح فقد كانت مسحورة برائحة الدم..
مد له الحارس يده بحجر أكبر، لكنه أخطأ في الرمي ولم يصب أي كلب..
تسمر في مكانه فزعاً.. ناداه الحارس ثانية فظل ينظر إليه صامتاً.. ماذا لو اشتمت الكلاب رائحة الدم منه؟.. لقد غير ملابسه ولكن ما يدريه أن هذه الحيوانات لن تتمكن من تمييز تلك الرائحة والانقضاض عليه وتمزيقه؟.. أدرك الحارس أنه خائف فتركه وابتعد وهو يقول هازئاً:
ظل في مكانه حتى رأى الحارس وهو يضرب بعض تلك الكلاب بعصاه ويصيح بها حتى تفرقت مبتعدة. ولكنها عادت بعد مضي بعض الوقت، اشتكى المعزون من نباحها فتباحث الموظف والحارس حول ما يفعلان، كان يراقب نقاشهما من بعيد دون أن يتدخل فلم يرد أن يلفت الانتباه إليه.. وخيم الليل دون أن يهدأ نباح تلك الكلاب..
كان يجلس في غرفته قلقاً عندما سمع جلبة أصوات غير معتادة.. خرج ليرى الحارس والموظف يسيران مع بعض رجال الشرطة فوقع قلبه في جوفه، هل سينكشف أمره؟ ماذا يفعل رجال الشرطة هنا؟
تبعهم من يعيد ليرى أنهم يتجهون إلى جانب السور الذي دفن الساحرة قربه والذي لا زالت الكلاب تتجمع وتنبح بجنون في الجانب الآخر منه.. يا له من أحمق غبي! لماذا لم يفكر أن يغسل دماء تلك الساحرة قبل أن يدفنها؟ بل لماذا لم يخنقها بيديه لتموت بدون أن تترك أي أثر أو رائحة؟
سأل أحد رجال الشرطة..
رد الحارس وأيد الموظف كلامه، وكان الحفار ممتناً لأن أحداً لم يسأله
قال الشرطي وهو يسلط ضوء البطارية الذي يحمله حول السور ويجول بعينيه. في تلك الناحية .. كان قلب الحفار يخفق بجنون فقد خشي أن يتمكن الشرطي من ملاحظة أن التراب على قبر الساحرة كان أحدث مما حواليه.. ولكن منظر الأحجار المتراكمة قرب السور شتت انتباه الشرطي..
رد الحارس وهو يشير إلى الحفار، واتجهت أنظار رجال الشرطة إليه فرسم فورا ابتسامته البلهاء على وجهه ودفع بنظرة المسكنة الزائفة إلى عينيه وهو يهز رأسه ببلاهة.. حول رجال الشرطة نظرهم عنه باشمئزاز فقد كان يبدو قذراً وغبياً..
وفجأة اشتعل القلق في قلب الحفار، لقد تذكر أن يدفن الحجر الذي أجهزة على الساحرة معها، ولكن ماذا عن الأحجار الأخرى التي كانت بقربه وهو يقتلها؟ ألا يكون بعض من دمها قد تناثر عليها وغفل عن رؤيته في الظلام الدامس الذي كان يحيط بالمكان؟ ماذا لو انتبه رجال الشرطة لتلك الدماء؟
لكن رجل الشرطة كان قد اكتفي من الأسئلة، فلم تكن هناك أي جريمة قد وقعت، وكل ما في الأمر أن بعض الكلاب الضالة كانت تزعج نباحها أهل المنطقة وموظفي المقبرة، من يدري فقد تكون هناك قطة مختبئة بين أغصان الأشجار الكثيفة في تلك الناحية من السور وهي ما جعل الكلاب يجن جنونها ..
أمر الشرطي أحد رجاله الذي أسرع بتنفيذ الأمر، احضر الحارس سلماً فصعد أحد رجال الشرطة السور وسدد البندقية إلى أحد الكلاب، وبمهارة أصابه في مقتل ليخر صريعاً بعد أن دوى صوت الطلقة الذي يصم الآذان في هدوء الليل..
قفز الحفار من الفرح وجري مسرعا إلى مكانه السابق قرب السور ليري ما يحدث فقد كان يعشق منظر الدماء..
قال وابتسامته البلهاء تملأ وجهه.. وأخذ يقفز إلى الأعلى والأسفل ويقهقه بسرور عندما أصاب الشرطي كلباً آخر، وكان الحارس وموظف المقبرة يبتسمان باستهزاء لفرحة الحفار فقد كانا يعلمان كم هو جبان ورعديد.. ولم يدر بخلدهما لحظة أن فرحته بالنجاة هي ما تجعله يقفز ويضحك جذلاً..
وكان قلب الحفار يرقص فرحا، فها هو قد نجا بسلام من مأزق آخر ودفع غيره ثمن جريمته..
لم يكن هناك حديث لصديقاته الساحرات بعدها غير اختفاء تلك الساحرة عن الأنظار وانقطاع اتصالاتها بأي منهن، وتظاهر هو أيضاً بالاستغراب لتوقفها عن الاتصال به أو زيارته، وفكر في سره أن تلك البلهاء قد التزمت بغباء بما طلبه منها ولم تخبر أحداً بقدومها ظانة أنها ستفوز بالمال والثروة دونهن.. والآن لن يشك أحد بأنها ماتت أو بأن له أي علاقة باختفائها..
ولم تمض بضعة أيام حتى عاود الحفار سيرته الأولى، وعاد ينبش قبور النساء ويتسلى بافتراس من يختار منهن.. ولكنه لم يقترب أبداً من قبر تلك الساحرة، فقد اكتفى بما فعله بها، ولم يترك البغض الذي عشعش في صدره ضدها مكاناً لاشتهائه القديم لها..
***
كان الحفار يتحدث في هاتفه النقال ويجول في المقبرة وهو يصرخ دون شعور، كان قد تلقى مكالمة أفقدته رشده فلم يعد يدري ما يفعل.. ولفت صياحه انتباه الحارس فخرج إليه يستطلع الأمر..
كانت الشمس قد ملأت كبد الظهيرة وصبت نارها علي ارض المقبرة لتعكسها الأرض لهيبا يلفح الوجوه، ولكن الحفار كان غافلا عن كل هذا ولم يسمع حتى نداء الحارس المتكرر له حتى وضع يده على كتفه ينبهه لوجوده..
قفز فرعاً، لكنه لم يترك الهاتف حتى أنهى مكالمته بمزيد من التهديد والوعيد الذي كان يوجهه لأبيه..
قاوم الحارس بجهد رغبته بدفعه بعيداً كعادته، فقد كان قد فقد زوجته منذ زمن بعيد ولم يتزوج بعدها لحبه الشديد لها..
قال وهو يبعد الحفار عنه برفق بعد أن تحمل قربه لأطول فترة استطاعها..
اختطف بلهفة مزيفة المبلغ الذي أعطاه له الحارس.. ثم قال بلهفة حقيقية:
انهمك في عمله وقد شغلته أفكاره عن الإحساس بالتعب، وكان يتوقف بين فترة وأخرى ليتصل بإحدى صديقاته الساحرات ليخبرهن جميعاً بأنه راحل لبعض الوقت، ولكن ما كان يشغل فكره هو الخوف من أن لا يلتزم أبوه بما طلبه منه..
وكانت فكرة أن تقع جثة زوجته بين يدي حفار مثله تشعل النار في جوفه.. لا لن يسمح بهذا! لن يسمح بأن ينهش جسد زوجته رجل آخر! فما يدريه بما يحدث. في مقبرة قريته تحت جنح الليل.. ما يدريه أن ما كان يفعله بتلك الأجساد التي وقعت بين يديه سيحدث لجسد زوجته.. أو أن يقوم رجل آخر بالتلصص على جسد زوجته العاري حين غسلها كما تلصص هو لمرات لا تحصى على العديد من الأجساد..
وحتى لو كانت زوجته خالية تماماً من أي نوع من الجمال، فقد يقع جسدها بين يدي رجل بلغت منه الدناءة ما بلغت به هو فلم يتعفف عن شيء..
لا! إن هذا لن يكون! سيصر أن تغسل زوجته في بيته، وإذا لم يستطع فسيقف حارساً عند باب غرفة تغسيل الموتى وسيحمل ذلك الجسد الذي يملكه ويدفنه بيديه، ولن يفارق القبر حتى يتأكد أنها قد أصبحت جيفة منتنة لا يرغب فيها حتى أشد الناس وضاعة وسفالة..
جاء الموظف تلك الليلة إلى غرفته ليعزيه فعاد إلى التظاهر بالحزن والبكاء، وأعطاه الموظف أيضاً بعض المال قائلاً إنه قد جمعه له من باقي الموظفين ومن آخرين تعاطفوا لمصيبته، أخذ ذلك المبلغ الضئيل من المال وهو يرسم على وجهه أبلغ آيات الشكر والامتنان ودموعه تسيل على وجنتيه..
سمح له الموظف بالرحيل في الصباح فسار معه خارجاً وهو يسهب في الشكر، قائلاً أنه سيقضي الليل ساهراً ليحفر كل القبور التي يستطيع تجهيزها قبل أن يرحل، وكان الموظف سعيداً بإخلاص الحفار فلم يكن قد تمكن بعد من تدبير بديل له، فمن الصعب العثور على من يقبل بهذا العمل البغيض، وأشار له إلى أماكن القبور التي عليه أن يحفرها قائلاً أنه سيرسل من يصطحبه إلى المطار في الصباح الباكر مكافأة له على إخلاصه..
وكانت هذه أفضل مكافأة تمناها الحفار، فهكذا سيبتعد عن احتمال مصادفته لسائق التاكسي الذي قتل صديقيه..
وبعد أن فرغ من إعداد ما استطاع من قبور قضى باقي الليل يجمع أغراضه ويتأكد أنه قد تخلص من أي أثر لعلاقته مع الساحرات، إذ قذف كل ما كان لديه في قبر أحد موتى ذلك اليوم دون اكتراث لتعليماتهن حول وقت أو مكان دفن ما أعطينه، فليذهبن إلى الجحيم هن وتعليماتهن الغبية فليس لديه الوقت لهذا..
وقبل أن يغادر تلفت في كل أرجاء غرفته، وما كاد يغلق الباب خلفه حتى تذكر أنه قد نسى صرة أعطتها له إحدى الساحرات في حمام غرفته، وكان قد تركها هناك لأنه لم يستطع النوم لشدة نتانة رائحتها، كانت الساحرة قد طلبت منه أن ينتظر حتى يصبح القمر كاملاً قبل أن يدفنها.. جرى مسرعاً إلى حمامه وقذف بالصرة في فوهة المرحاض وأجرى الماء عليها حتى اختفت..
وصل إلى بلاده منهك القوى، فقد انتظر طويلاً في المطار وتوقفت الطائرة في مطار دولة أخرى قبل أن تحط في بلده، لم يكن هناك من يستقبله في المطار فقد كان أبوه غاضباً عليه لإصراره على أن تبقى جثة زوجته في البيت حتى قدومه..
واستغرقت الرحلة إلى قريته يومين آخرين عانى فيهما الأمرين ولم يذق طعم النوم إلا لماما، وما كاد يصل إلى بيته بعد رحلته الطويلة تلك حتى استقبلته رائحة عفنة لا تطاق قبل أن يلج إلى البيت، ابتسم بسعادة فقد كان يعرف جيداً تلك الرائحة المميزة، لا بد أن الحرارة العالية قد ساعدت في سرعة تعفن جثة زوجته وسيمكنه الآن أن يدفنها بدون خوف..
ووسط صراخ والده وشتائمه ومحاولات أمه اليائسة لتهدئته دخل إلى الغرفة التي كان جثمان زوجته مسجياً فيها، وتأمل وجهها الخالي من الحياة بلا مبالاة، كانت تبدو أكثر قبحاً مما كان يذكرها، وكان المرض قد جعلها أكثر هزالاً وحفر أخاديد سوداء تحت عينيها وفقدت معظم شعرها .. وأخرجه من أفكاره صراخ والده الغاضب:
نظر إلى أبيه بعدم اكتراث وغادر الغرفة دون أن يكلف نفسه عناء الرد عليه، ولكنه لحق به إلى غرفته القديمة التي كان يتقاسمها مع زوجته وهو مستمر في الصراخ:
قال وهو يسترجع ذكرى اللحظات الممتعة التي قضاها وهو يتلصص من نافذة غرفة تغسيل النساء، وأخذ يتخيل بحسرة كم من الأجساد الجميلة ستفوته رؤيتها بسبب زوجته المأفونة..
وفي صباح اليوم التالي كان يقف عند باب الغرفة بهدوء وهو يراقب المغسلات وهن يقمن بعملهن وقد غطين أنوفهن وأفواههن اتقاء للرائحة، وكانت أمه تجلس على الأرض غير مبالية بالمياه التي تبلل ثيابها وهي تلطم وجهها ورأسها وتبكي بحرقة وقهر، كانت مقتنعة أن ابنها الوحيد قد أصابته لوثة في عقله لطول وحدته وغربته واختلاطه بالموتى، وإلا فما سبب هذا الإصرار العجيب على ألا يلمس جثة زوجته أحد بعد أن تجاهلها وتركها تموت وحيدة..
وبعد ذلك أستأجر عربة حملت زوجته إلى المقبرة، ووقف مع المصلين خلف كفنها وعيناه لا تفارقان الحفار الذي كان يتسحب بالقرب منهم كما كان يفعل هو سابقاً، كان الذل والمسكنة مرتسمان على وجه الحفار الرث الثياب لكن ذلك لم يخدعه..
وأعادت رؤية ذلك الحفار الوساوس إلى رأسه، فرفض أن يغادر مع أهله وتجاهل توسلات والده ثم صراخه الغاضب، وتصنع الحزن والألم وهو يقول بأنه لا يستطيع أن يفارق زوجته الحبيبة وأنه يريد أن يبقى قرب قبرها، ورحل أهله بعد أن يئسوا من إقناعه..
ظل جالساً عند القبر حتى حل الظلام، وعندما تجمع موظفو المقبرة حوله ليرحل أخذ في النواح والبكاء كالنساء، وأخرج لكل منهم من بين شهقاته مبلغاً من المال لم يكن يتجاوز بضعة دنانير في البلد التي جاء منها، لكنه كان مبلغاً جسيماً بعملة بلده جعلهم يتركونه في مكانه، أستدعى الحفار بعدما رحل الآخرون وأعطاه مبلغاً إضافياً ليكسب وده..
وما إن جاء الصباح وبدأت المقبرة تزدحم بالناس حتى عاد إلى بيته لينال قسطاً من الراحة، فقد كان يعلم أن جثة زوجته في أمان حتى يحل الليل، وقبل أن تغيب الشمس بقليل كان قد اتخذ مكانه عند قبر زوجته، وعاد الموظفون لمحاولة إقناعه بالرحيل ودفع لهم ثانية ليتركوه عند قبرها.. وهكذا ظل يحرس جثة زوجته لعدة ليال حتى أصبح متيقناً أنه لم يعد في جثتها ما يغري أي بشر مهما بلغت دناءته بافتراسها..
وعاد إلى بيته في صباح آخر يوم وقد قرر أن ينسى موضوع زوجته ويتابع مع أبيه ما تم بشأن بيته الجديد الذي كان الأب يبنيه له، لكنه تفاجأ أن أباه أخذ يحاول التملص من إلحاحه ليرى البيت متعللاً بشتى الأعذار الواهية..
ومرت عدة أيام والأب مستمر في محاولة التهرب حتى طفح الكيل بالحفار، وواجه أباه غاضبا وهو يصر على أن يذهبا معا لرؤية بيته الذي حلم به كل هذه السنوات ودفع كل ما حصل عليه من مال ليبنيه..
وعندما شعر الأب بأنه لا فائدة من محاولة التهرب أحنى رأسه قائلاً:
قاطعه الحفار بلكمة على وجهه تركته مذهولا، وقبل أن يصحو من ذهوله فاجأه بلكمة أخرى أطارت طقم أسنانه الجديد من فمه، واستمر الحفار بضرب والده وقد فقد وعيه من الغضب، وجاءت أمه وحاولت أن تبعده عن أبيه فدفعها جانباً بقسوة وعنف.
كان يصرخ بحرقة وهو مستمر في لكم وركل أبيه غير مكترث بتوسلاته:
دفع أمه التي كانت قد ألقت بنفسها عليه متوسلة وهي تشهق بالبكاء واستمر في الصراخ:
وبصق على جسد أبيه الذي فقد الوعي وخرج هائما على وجهه ..
كان الغضب قد تملك كل حواسه، كيف يحدث له هذا؟ كيف تمكن أبوه من خداعة كل هذا الوقت؟ كيف بلغ به الغباء إلى هذا الحد؟ لم صدقه؟ لماذا لم يطلب منه يوماً أي أوراق تثبت ادعاءاته؟ وضرب قبضتيه ببعضهما محنقاً.. لقد ذهب تعبه سدى.. لقد ضاع في الهواء كل ما بذله ليجمع المال طوال كل تلك السنين..
لا لن يسمح بهذا أبداً!
عاد جرياً إلى بيته ليجد أباه قد بدأ يستفيق من غيبوبته، كانت أمه تجلس بجواره وهي تعصر فوطة كانت تستخدمها لغسل دماء زوجها عن وجهه، اندفع إلى أبيه فور دخوله وأمسك بخناقه صائحاً:
ظل أبوه معتصماً بالصمت، انتفخت أوداج الحفار وكادت عيناه تخرجان من محجريهما لفرط الغضب..
دفع أباه ليقع أرضاً من جديد، ثم اتجه إلى المطبخ وأمسك أكبر سكين وجدها وأخذ يمزق بها كل ما أمامه من أثاث وفرش.. حطم أبواب جميع الخزانات، وبعثر كل ما فيها أرضا، بحث في جيوب كل ما وجده من ثياب ومزقها.. رفع السجاجيد وبحث تحتها.. حتى أواني المطبخ فتشها لكنه لم يجد شيئاً..
وكانت أمه تصرخ وتلطم خديها وأبوه يراقب ما يفعله في صمت، وعندما تيقن أن ماله لم يكن مخبئاً في المنزل عاد إلى أبيه وأمسك بخناقه من جديد وضع السكين على رقبته:
لكن الأب بقي صامتاً فقد كان حبه للمال أقوى من خوفه على حياته، وصب عناده مزيداً من الزيت على نار الغضب في صدر الحفار، وبهدوء وبرود امضي السكين على جانب عنق أبيه ومزق جلده وترك الدم يسيل..
ارتفعت صرخات الأم الجنونية وجحظت عينا الأب من الخوف.. كان قد تصور بغباء أن حب ابنه له سيمنعه من إيذائه، لم يكن يعلم أن سنوات الغير في قد غيرت ابنه لهذه الدرجة..
نظر إلى عيني الحفار فأيقن بالهلاك.. كانت القسوة الوحشية التي ارتسمت في عينيه مخيفة، صرخ متألما وقد شل الخوف جميع حواسه:
ترك الحفار عنق والده وجلس أرضاً وهو يلهث وأنفاسه تتلاحق.. كانت يداه ترتجفان من الغضب.. سيكون من الصعب عليه استعادة أمواله الآن.. لكن لا! إنه لن يتراجع! سيستعيد كل أمواله حتى آخرها مهما كان الثمن! نظر إلى أبيه بغل وقال وهو يرفع السكين في وجهه:
هز الأب رأسه مستسلماً، بقي الحفار قرب والده لما بقي من ساعات ذلك النهار وطوال الليل، لم يسمح له أن يبتعد عن عينيه لحظة فقد كان يخشى أن يهرب، وما إن انبلج الصباح حتى دفع أباه أمامه إلى البنك، وجلسا ينتظران حتى فتح البنك أبوابه..
دخلا إلى البنك دون أن يتوقف الحفار لحظة عن تهديد أبيه همساً والأب مستسلم وخاضع، طلب الأب سحب رصيده بالكامل وانتظرا حتى أحضر موظف البنك جميع تلك الأموال وأخذ يعدها.. زاغت عينا الأب لمنظر النقود الكثيرة.. كان يعلم مقدارها بالطبع لكن رؤيتها مكومة أمامه جعل ألم خسارتها لا يطاق وبث في صدره شجاعة جديدة..
صاح الأب وهو يفلت من قبضة الحفار ويختبئ خلف بعض المراجعين، اتجهت أنظار جميع الموجودين في البنك إليه وألجمت الدهشة الحفار فأكمل الأب صراخه:
تجمع المراجعون حول الحفار وأمسكوا به، حاول الإفلات منهم وهو يصيح أن أباه كاذب وانه هو من سرقه، لكن بكاء أبيه وأنينه المتوجع وهو يشكو جحود ابنه الوحيد وضياع سنوات عمره هدراً جعل كل الموجودين في البنك يتعاطفون معه ويصدقونه..
وحضرت الشرطة واقتادوه إلى مقرهم، وهناك حاول عبثاً إخبارهم أن أباه قد سرق ثمرة تعبه وغربته وأنه قد خدعه، فلم يستطع الكلام حين طالبوه بالدليل، كان خوفه من انكشاف أمره إذا دخل أحد إلي غرفته في المقبرة قد جعله يتلف. كل الأوراق التي تثبت مبالغ التحويلات التي يبعثها إلى أبيه..
خرج من قسم الشرطة بعد أن أفرج عنه مقابل تعهد أن لا يتعرض ثانية إلى أبيه وقد أظلمت الدنيا في عينيه.. لقد خسر كل شيء .. لم يعد يملك إلا تذكرة العودة إلى ذلك البلد والقليل من المال الذي بقي في جيبه، فقد أضطر إلى دفع الكثير من المال للشرطة ليفرجوا عنه..
ووجد قدميه تقودانه إلى قريته.. وقف ينظر إلى بيت أبيه والحقد يشتعل في جوفه.. هل يتركه يفلت بما فعل؟ هل يتركه يتمتع بالأموال التي كد وتعب في جمعها؟ لا! هذا مستحيل!
كان يعرف زعيم العصابة التي تسيطر على القرية وتأخذ الإتاوات من المزارعين، فقد كان أبوه يبعثه إليه ليسلمه نصيبه المعلوم بعد كل موسم حصاد، وغالب خوفه واتجه إليه وأخبره بما فعله أبوه..
تذكر فجأة الهاتف الجديد الذي أحضرته له تلك الساحرة هدية، والذي احتفظ به ليهديه لأبيه.. وأعمل فكره للحظات بقي خلالها صامتاً ونظرات ذلك الرجل مسلطة عليه، ثم قال وقد توصل إلى حل:
تشاور الرجل مع من حوله ثم هز رأسه بالموافقة.. وقال الحفار والفرحة تغمره:
عاد إلى بيت أبيه وقد غمر الهدوء نفسه، وأخذ يجمع أغراضه ليرحل متجاهلاً بكاء أمه، وكان أبوه ينظر إليه بهدوء وابتسامة الانتصار تعلو وجهه. «إنه يظن أنه تمكن من هزيمتي! لا بأس! فليفرح الآن قليلا، ستكون فرحتي أكبر عندما أرى جسده وقد أحرقته النيران وشوهت وجهه، وسنري من يبتسم أخيراً» كان هذا ما يجول في صدر الحفار وهو يحزم متاعه القليل، وغادر ذلك البيت وهو يعلم أنه لن يراه ثانية..
عاد إلى مقبرته التي أصبحت الآن أجمل مكان في نظره، ولم تمض بضعة أيام حتى رحل بديله وبقي وحده متمتعا بمجده القديم، وأخذت الساحرات يتكالبن عليه ويتسولن وده بعد أن تعطلت مصالحهن طوال فترة غيابه.. ولم تمض بضعة أشهر حتى جمع من المال مبلغاً لا بأس به، وساعدته إحدى الساحرات ليفتح حساباً في أحد البنوك كان يودع فيه كل ما يجمعه..
لم يكن ينغص حياته سوى حقده على أبيه الذي كان يحرمه النوم.. كانت أيام الانتظار تمر عليه كالسنين.. وأخذ يقفز فرحاً عندما تلقى صور جسد أبية المحروق المشوه، وأرسل له ذلك المجرم الذي أوكله بتلك المهمة قصاصات صحف محلية تحدثت عن ذلك الحريق الهائل الذي أحرق العديد من البيوت في قريته، وكانت كل كلمة فيها تنزل برداً وسلاماً على اللهيب المشتعل في صدره..
لم يكترث ولو قليلاً بموت أمه أيضاً في ذلك الحريق، لقد كانت تعلم بما يفعله أبوه وتسترت عليه، فلتدفع الثمن إذن كما دفعه أبوه.. وخرج يبكي ويصرخ حتى جاء الحارس ليهدئه، واستمتع عدة أيام بالعطف الذي تلقاه منه ومن باقي موظفي المقبرة الذين حنت قلوبهم له لفداحة ما وقع له..
عاد إلى بلده ووقف يتلقى التعازي بأبيه وأمه والدموع الكاذبة تغمر وجهه، لكنه لم يطل البقاء فقد خشي أن يفقد مكانته التي بناها لسنين في عمله، لقد أصبح لديه الكثير من المال الآن لكنه يحتاج إلى المزيد، فلم يعد يرغب بالبقاء في قريته إذ كان يعلم أن ذلك المجرم لن يتركه وسيستمر بابتزازه، وعليه أن يجمع المزيد من المال ليشتري بيتاً في مكان آخر.
كان قد توقف لفترة عن نبش الأجساد لانشغاله بانتظار الثأر من أبيه، ولكن عندما اطمئن قلبه وهدأت النار في صدره عادت تلك الرغبات الدنيئة تتملكه .. لم يحاول حتى أن يقاوم وان لم يتخل لحظة عن حذره، وعاد يفترس ما يختاره من الأجساد العاجزة كلما استطاع.
وفي فجر أحد الأيام كان قد اتخذ مكانه المفضل عند النافذة وأخذ يراقب المغسلات وهن يجهزن ضحيته القادمة.. كانت شابة جميلة فارقت الحياة في إحدى المستشفيات في الليلة السابقة، وأخذ يتأمل جسدها بشغف وهو يمني نفسه باللحظة التي سيضع فيها يده عليها.
انتظر حلول منتصف الليل بفارغ الصبر، وبمجرد أن تأكد من نوم الحارس جرى مسرعا إلى ذلك القبر، قفز داخله ما أن انتهى من الحفر وكشف الكفن. وكم كانت سعادته عندما وجد الجسد لا زال دافئا..
كانت قد بدأ في افتراسها عندما فتحت عينيها فجأة، وبلحظة استوعبت ما كان يحدث لها، كان الأطباء قد أخطأوا تشخيص غيبوبتها الطويلة وظنوها ميتة، واستيقظت لتجد نفسها في ذلك القبر المظلم وذلك الغريب القذر يعبث بها ..
لم يكن قد رأى عينيها فقد كان منهمكاً فيما يفعله، وجحظت عيناه خوفاً عندما أمسكت بعنقه بغتة، شل الخوف جسده فقل كانت عيناها المجنونتان تلمعان في ظلام القبر وهي تضغط عنقه بكل قواها..
حاول الإفلات أو الصراخ دون جدوى، فقد كانت تلك القبضة الحديدية تشتد وطأتها كلما حاول المقاومة، أحس بحنجرته تتحطم وانقطعت أنفاسه وخارت قواه وتوقف عن المقاومة، لكن تلك الفتاة لم تفلته حتى ازرق وجهه وتدلي لسانه من فمه، وعندما أصبح جثة هامدة بين يديها رمته أرضاً..
قفزت من القبر وأخذت تجري في المقبرة وهي تبكي وتصرخ، فقد أفقدها ما مرت به عقلها، استيقظ الحارس على صوت صرخاتها المجنونة وخرج يستطلع الأمر، وكم كانت دهشته عندما رأى تلك الفتاة الشابة وهي تجول في المقبرة وتصرخ كحيوان جريح، عارية تماما وقد ثار شعرها ونظرات الجنون تطل من عينيها..
حاول الاقتراب منها لتهدئتها لكنها ما كادت تراه حتى لاذت بالفرار، وتبعها وهو ينادي الحفار ليساعده في الإمساك بها دون أن يسمع ردا، وقادته الفتاة دون أن تشعر إلى القبر الذي دفنت به، توقف عنده وقد أدهشه النور المنبعث منه، فقد كان الحفار قد ترك ضوء البطارية الذي كان يحمله مضاء..
انتبه لأثار أقدام الفتاة الحافية مغروسة في كوم التراب قرب القبر، هل يمكن أن تكون قد خرجت من هذا القبر؟ لكن كيف؟
أطل الحارس في القبر ورأى الحفار منطرحاً فيه وقد التوى وجهه وجحظت عيناه جحوظ الموت، وما إن رأى عريه حتى فهم، فهم ما كان يقوم به، وهوى الحارس أرضاً وهو يبكي بحرقة وحسرة، وأخذ يضرب وجهه وصدره وهو يصرخ من القهر:
"كم كان غبياً ومهملاً. من يعلم كم استباح ذلك الحفار الحقير من أجساد وهو غارق في نومه وغفلته لم يكن كلياً من كان ينبش تلك القبور كان هو كان ذلك الحفار المجرم!"..
رأت الفتاة الحزن الذي يمزق الحارس فتوقفت عن الصراخ، واقتربت منه مبتسمة وهي تمسح كتفه بحنان، رفع الحارس عينيه المغروقتين بالدموع، ونظر إلى عينيها المجنونتين وتنهد بحزن قائلا:
******* النهاية ********
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا