حفار القبور 7 للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-12-07

الفصل الخامس

كانت الأيام تمضي والحفار سادر في غيه، فقد استمرأ امتهان جثث النساء ولم يعد يردعه شيء، لم يكن يتخيل أن هنالك سعادة أكثر مما هو فيه، فطعامه وشرابه يحضر إليه مجاناً والأموال تتدفق عليه من صديقاته الساحرات عدا راتبه وما يحصل عليه من المعزين وأهل الموتى، فما إن توقف عن الاقتراب منهم ومحاولة تسول أموالهم حتى أصبحوا يأتون إليه بأنفسهم ليدسوا المال في يده، فقد اكتشف أن مجرد تظاهره بالانهماك في عمله يجعلهم يرقون له ويعطونه المال دون أن يطلبه.

والآن أصبحت سعادته تامة باكتشافه لطريقة يرضي بها جسده دون أن يضطر لمغادرة المقبرة، الآن اكتملت مزايا عمله التي لا تعد ولا تحصى.

لم يكن ينغص سعادته إلا طلبات والده التي لا تنتهي للمزيد والمزيد من المال، وكان الشك قد بدأ يخامره، فقد استغرق بناء بيته وقتاً بدا كأنه أكثر مما ينبغي، وكانت طلبات والده المستمرة قد بدأت تقلقه، وقد زل لسان والده مرة عندما سأله فيم سيستخدم آخر دفعة أرسلها له فأجابه أنها لشراء أبواب لغرف المنزل..

  • ألم تشتر الأبواب في الشهر الماضي؟ 
  • ماذا؟ لا! لم يحدث هذا!
  • ولكن هذا ما أخبرتني به ! ألا تذكر؟
  • لا! لابد أنك تتخيل!
  • ولكني متأكد! لقد أخبرتني بنفسك بهذا ..
  • كف عن الهذر الفارغ! قاطعه أبوه بنفاد صبر.

سكت حائراً، ولكنه ظل عدة أيام يفكر بما حدث، كان متأكداً أنه دفع لأبيه لشراء الأبواب سابقاً، فلم ينكر ذلك الآن؟

وما زاده ضيقاً أن زوجته لم تعرف كيف تجيبه عندما سألها، فلم تكن تفهم ما يفعله أبوه ولم تكن تكترث، فقد عاشت معه منذ أن تزوجته في غرفة صغيرة بمنزل أبيه وكانت راضية وقانعة بها، ولم تفهم أبداً سبب رغبته ببيت  مستقل وخاصة أنهما لم يرزقا بأولاد بعد.

كان كل حديث يبدأ به مع زوجته ينتهي بشكواها المستمرة من المرض الذي لم يستطع أحد ممن لجأت إليهم من الأطباء تشخيصه، حاول عدة مرات أن يستحث اهتمامها بحياته في هذا البلد أو بأحداث العالم حولهما أو بأي موضوع كان، ولكنها لم تكن متعلمة ولم تكن لديها القدرة ولا الرغبة لمواصلة الحديث في مواضيع لا تعنيها .

وتدريجياً بدأ يتهرب من مكالماتها ويتجنب الحديث إليها، إنه يرسل لها كل الأموال التي تطلبها، فلم لا تكتفي بهذا وتكف عن إزعاجه بأنينها المستمر؟ وأصبح يتجاهل مكالماتها ولا يرد عليها، وتناسى أمرها بسهولة فقد كان لديها الكثير مما يتسلى به في المقبرة.

وكان قد اكتشف متعة جديدة لإشباع هوسه المريض بالأجساد العاجزة، فقد كان يتحين الفرص لنبش قبور المتوفيات اللاتي يدفن عصراً ليستكشف نوعية أجسادهن، ولم يكن يستثني منهن إلا من جاوزت الخمسين، أو من يخبره الموظف بأنها قد أنجبت العديد من الأولاد.

وأصبحت لحظات الترقب التي يستغرقها للوصول إلى تلك الأكفان هي أسعد لحظاته، فقد كانت تلك المغامرة أشبه باليانصيب أو لعب القمار بالنسبة له، فأحياناً قليلة كان يجد أجساداً ممشوقة جميلة، وأحياناً أخرى يجد من هي سمينة كالبقرة أو نحيفة كالعصا، وكان بعضها مشدوداً مغرياً وبعضها مترهلاً كريهاً، كان يكتفي في معظم الأحيان بالتفرج على ما يجد، ويكتفي بافتراس من يلذ له منظر جثتها ويتعفف عن الباقي.

وفاجأته صديقته الساحرة يوماً بأنها وجدت من ترضى بزيارته في المقبرة، ولكن فرحته بهتت عندما أخبرته مقدماً بأن من وجدتها ليست بذات جمال ولا شباب، كانت سيدة قد تجاوزت الأربعين وقد لجأت إلى الساحرة عندما علمت أن زوجها ينوى السفر إلى أحد البلدان القريبة الفقيرة ليختار لنفسه زوجة جديدة صغيرة في السن وجميلة، لم تكن تملك المال لتدفع للساحرة فقبلت مرغمة بذلك الحل المهين...

ورغم ذلك فقد انتظر بفارغ الصبر حلول موعد اللقاء قرب باب المقبرة، وجاءت صديقته عند منتصف الليل وقد أحضرت معها سيدة متشحة بالسواد حتى أخمص قدميها، مر على جسدها بنظرة فاحصة وهي تسير أمامه محنية الرأس إلى غرفته فرأى أنها كانت تميل إلى البدانة.

«لا بأس، القليل من اللحم اللين سيكون جيدا!»، كان يقول لنفسه وهو يقود تلك المرأة خلال ممرات المقبرة الطويلة ويراقب اهتزازات جسدها المترهل تحت العباءة السوداء، وما إن احتوتهما غرفته حتى طالبها بأن تكشف وجهها..

تنهد بأسى عندما رآها، لم تكن ملامحها تحوي أي نوع من الجمال، وعندما خلعت ملابسها خاب أمله أكثر، لا عجب أن زوجها كان يبحث عن أخرى، فقد كان ثدياها مترهلين وبطنها قبيحاً ومقسماً إلى عدة طيات منفرة، ورغم بدانتها فقد كانت ساقاها نحيلتين وعظامهما بارزة.

وكأن بشاعتها لم تكن كافية، فما كاد يقترب منها حتى أخذت تشهق بالبكاء متوسلة إليه أن يعفيها مما جاءت لأجله، وأخذت تستعطفه بالله أن لا يلوث شرفها الذي حافظت عليه كل تلك السنين ولم تكن لتفرط فيه لولا خوفها من فقدان زوجها..

لم تفعل دموعها المنهمرة إلا أن زادتها قبحاً في نظره ورغبة في تحطيمها أكثر، أي شرف هذا الذي تتحدث عنه وقد جاءت بقدميها إليه في جوف الليل، وإلى أين؟ إلى المقبرة التي رفضت حتى المومسات الحضور إليها...

لكنه كان مصمماً على النيل منها حتى لا يضيع انتظاره سدى، باغتها بصفعة رمتها أرضاً وهو يصيح بها أن تخرس، انفجرت في البكاء أكثر وحاولت الهرب وقد غلبها الرعب فاستمر بصفعها وركلها حتى خرست صرخاتها واستسلمت خائفة.

بصق عليها بقرف بعدها ودفعها أمامه إلى باب المقبرة حيث كانت الساحرة الشابة تنتظر، أخفت الساحرة صدمتها لرؤية من أحضرتها مبعثرة الثياب و تظاهرات بعدم ملاحظة الدموع التي كانت تلمع في عينيها، إذ لم تكن ترغب بإفساد علاقتها الوثيقة بالحفار الذي كان الغضب بادياً على وجهه..

  • إياكِ أن تحضري لي نوعية كهذه مرة أخرى !

همس بتهديد وهو يدفع بتلك المرأة خارج الباب..

  • سأحدثك بالهاتف فيما بعد . همست له وهى تبتعد مسرعة ..

تجاهل اتصالاتها لعدة أيام فقد كان لا زال غاضباً، ولم يقبل بالحديث إليها حتى توسطت لها إحدى الساحرات الأخريات، سامحها فيما بعد لكثرة ما توسلت إليه وبعد أن أغرقته بالهدايا، لكنه لم ينس غضبه على تلك السيدة القبيحة مدعية الشرف التي أحضرتها، فقد أخذ الصرة التي تخصها التي أعطتها له الساحرة ورماها في القمامة، وتمنى لو رآها ليقول لها بأنها ضحت بشرفها المزعوم دون جدوى.

ظلت حياته تسير في منوالها المعتاد، ولكن شكه في أبيه كان لازال يقلقه، كان يرسل له كل الأموال التي يجمعها ولم يبق شيئاً لنفسه، وحتى المال اللازم لعلاج زوجته كان يرسله له فلم يعد يطيق الحديث إليها.

أخبره أبوه في إحدى المرات بأن حالة زوجته تزداد سوءاً وأن تجاهله لها يزيد مرضها، ولكنه لم يكترث وظل يرفض الكلام إليها، ولم تراوده تجاهها أي شفقة فهو لم يحبها يوماً.

صحا يوماً من نومه قبل الفجر بقليل على رنين الهاتف بقربه، كانت تلك الساحرة الشابة تخابره لتعلمه أنها ستحضر إليه في الموعد المعتاد وستحضر معها ساحرة جديدة تود أن تعرفها به، أطارت تلك المكالمة النوم من عينيه فقرر أن يخرج لانتظارهما مبكراً.

كان يقبع في الظلام منتظرا حضورهما عندما رآهما قادمتين وهما مستغرقتان في الحديث، كاد أن يخرج لملاقاتهما عندما سمع اسمه وانتبه أن كلامهما يدور حوله، فقرر أن ينتظر ليعرف عم يتكلمان، فرغم لطف تلك الساحرة الدائم معه له، وإحضارها للعديد من الزبائن له إلا أن طبعه الخبيث جعله يتشكك في إخلاصها له، فما يدريه أنها لا تحصل على الكثير من المال من تلك الساحرات دون أن تشاركه به؟

ظل مختبئاً بهدوء وهو ينصت إلى حديثهما، وذهل عندما سمع ما تقوله عنه صديقته، كانت تصفه بالقذر النتن الرائحة قائلة باستهزاء أن اختلاطه بالموتى جعل رائحته مثلهم، وكانت تخبر صديقتها بأنها تضطر إلى الاستحمام وغسل كل ثيابها بعد كل مرة تقابله بها حتى لا تلتصق رائحته النتنة بها، وأنها اضطرت في نهاية الأمر إلى تخصيص عباءة معينة لمقابلته تبقيها في السيارة حتى لا تفسد رائحتها باقي ملابسها.

واستمرت في الكلام وسط قهقهات من معها قائلة أن السيدة التي أحضرتها له يوماً قد أصيبت بمرض معدي وانتشرت القروح في كل ناحية من جلدها، ورفعت يديها المغطيتين بكفوف سميكة سوداء ونزعت إحداهما لتري من معها قفازات أخرى من البلاستيك تحتها..

  • هل ترين! إني أرمي هذه القفازات كلها بعد كل مرة أقابله فهو يصر على مصافحتي، ويظل ممسكاً بيدي وهو يبتسم كاشفاً عن أسنانه المخيفة معتقداً أنه بذلك سيتمكن من إغوائي، ليتك تعلمين كم مرة صددت محاولاته المستميتة للتقرب مني، ولكن الأصعب هو أن أتمكن من فعل ذلك دون أن أغضبه مني، تم فأنا أحتاجه لإتمام تعويذاتي السحرية، ولكن كل ما في الدنيا من مال لن يكفي لأسمح له بالاقتراب مني..

أعادت ارتداء الكف الأسود وهي تنظر إلى الناحية التي اعتاد القدوم منها:

  • لا أدري ما الذي أخره اليوم، فأنا أجده عادة يجلس على الأرض بانتظاري ويهرع إلي فور وصولي وابتسامته التي يقشعر منها بدني ترتسم على وجهه البشع.

تحامل على ألمه و استدار بهدوء من خلف م السور ليعود من الناحية التي كانت الساحرة تنظر إليها، وما إن رأته حتى رفعت صوتها مرحبة به بحرارة كالعادة:

  • أهلا بصاحبي الوسيم! ما هذا العبوس الذي تقابلني به اليوم؟ أين ابتسامتك الجميلة؟

  جاهد لابتلاع غصته ورسم الابتسامة على وجهه، لم فعلت به هذا؟ لقد كان يحبها فعلاً ويأنس إلى حديثها ويعشق مجالستها، لم يفتح قلبه يوماً ويظهر حقيقة نفسه لإنسان سواها، يا له من غبي أحمق. كان الغضب يشتعل في أحشائه وهو ينظر إلى ابتسامتها المنافقة وبشاشتها المصطنعة، أخفى يديه في جيبي بنطاله ليمنع نفسه من الإمساك بعنقها الجميل والضغط عليه حتى تزرق شفتاها ويخرج لسانها الكاذب من بينهما ليقطعه بأسنانه، لكن لا، لن يكفي هذا الإشباع غليله، سيعرف كيف ينتقم منها لاحقاً، أما الآن فعليه أن يتمالك نفسه ويستمر في التمثيل حتى لا تنتبه أنه قد اكتشف خداعها ..

  • من هي صاحبتك اليوم؟ قال مبتسماً وهو ينظر إلى الساحرة الجديدة..
  • إنها ابنة خالتي، ما رأيك؟ هل تشبهني؟

مدت يدها وأنزلت النقاب الذي كانت تلك الساحرة تغطي به نصف وجهها، كانت جميلة فعلاً، ولكنه استطاع تمييز نظرات الاحتقار الممزوج بالخوف التي كانت ترميه بها.

  • لا! إنها لا تشبهك! بل هي أجمل منك بكثير، قال مقهقهاً..
  • كيف تجرؤ؟

قالت وهي تضحك ضحكتها الجميلة التي كان يطرب لسماعها فيما مضى، أما الآن فقد أصبح رنينها كسياط تلسع قلبه، دوى صوت المؤذن منادياً لصلاة الفجر ليخرجه من عذابه..

التقط مسرعاً الصرة التي أحضرتها الساحرة الجديدة واختطف المال الذي قدمته له دون مجادلة، وغمز بعينه لساحرته وهو يقول للساحرة الجديدة أنه لولا حضورها مع صديقته المفضلة لطلب منها مبلغاً أكبر بكثير..

عاد إلى غرفته مسرعاً والغيظ يستعر في جوفه، أخذ يضرب رأسه و صدره بقبضتيه وهو يلعن نفسه لغبائه، كيف ظل مخدوعاً بها كل هذا الوقت؟ من يعلم ماذا تقول عنه أيضا فهو بالتأكيد لم يسمع إلا جزءاً يسيراً من ما بنفسها، وأخذ يمزق الفراش بأظافره وهو يحاول خنق الدموع التي بدأت تتجمع في عينيه..

  • لا! صاح غاضباً في الظلام الذي كان يسود غرفته:- لن أبكي! لن تبكيني قذرة كهذه! بل سأجعلها هي تبكي دماً! ستندم على كل ما قالته عني وعلى كل الكذب والخداع الذي قابلت به طيبتي معها وثقتي بها!

قفز من فراشه وأخذ يجول في المقبرة محاولاً تهدئة نار غضبه، وكان يراقب شروق الشمس وهو غارق في أفكاره، لم يتسلل إلى نافذة غرفة تغسيل النساء كما اعتاد في مثل هذه الساعة، فقد شغله الحقد الذي كان يعتمل في صدره عن هوايته الدنيئة.

وظل صدى كلماتها القاسية يرن في أذنيه طوال ذلك النهار ولأيام كثيرة بعدها، كان يقضي الليالي ساهراً وهو يعمل تفكيره ليتوصل إلي خطة للانتقام منها، حتى توصل إلى فكرة جعلته يضحك بسعادة.

أمضى عدة أيام بعد ذلك وهو يرسم كل جوانب خطته حتى أصبحت محكمة تماماً، وانتظر بصبر عودة تلك الساحرة من رحلتها إلى بلدها الأم، فقد كانت قد أخبرته بأنها ستذهب لزيارة أهلها وإحضار بعض الأشياء الضرورية لعملها التي لا تتوافر إلا هنالك.

واستقبل مكالمتها الأولى بفرح حقيقي فقد كان يتلهف لإتمام انتقامه، وأخبرته ضاحكة بأنها قد أحضرت له هدية خاصة..

  • حقا؟ ومتى ستحضرينها لي؟
  • حين تشاء! حدد لي أنت الموعد الذي يناسبك..
  • ما رأيك أن تحضريها لي غداً؟
  • لا بأس، سأراك في مكاننا المعتاد.
  • لا، فإن عودتك بعد هذا الغياب تستحق احتفالاً خاصاً، ما رأيك أن تحضري إلى المقبرة؟ سأسمح لك بالتجول فيها كما تشائين وسأفتح لك أي قبر تختارينه.
  • أحقا؟ هل تعني ما تقول؟ ولكنك كنت دائماً ترفض أن تدعني أدخل إلى المقبرة!
  • أجل ولكن غيابك الطويل جعلني أشتاق إليك، فلا توجد أي ساحرة أخرى تعاملني باللطف الذي تغمريني به دائماً، ولهذا قررت أن أجعلك تدخلين إلى المقبرة حين تريدين، وسأسير معك وأساعدك في كل ما ترغبين بفعله.
  • أنا سعيدة جدا لا يمكن أن أصف لك مقدار سعادتي، فمهما كانت دقتك في إتباع تعليماتي فإن سحري سيكون أكثر تأثيرا لو وضعته بيدي في المكان المطلوب، فهناك تعاويذ خاصة يجب أن تصاحب كل عمل حتى يحدث التأثير المطلوب.
  • سأتركك تأخذين كل الوقت الذي تحتاجينه، ولكن احذري! لا يمكنك أن تخبري أحداً! فلو علمت باقي الساحرات بأنني سمحت لك بدخول المقبرة دونهن لانتقمن مني شر انتقام، بل ربما أبلغن عني وفقدت عملي!
  • لا تخش شيئاً، لن أخبر أحداً، فحين أتمكن من دخول المقبرة حين أشاء سأصبح أقوى منهن جميعا وستهجرهن جميع زبوناتهن ويتزاحمن علي.
  • لا تخبري حتى قريبتك التي أحضرتها معك في ذلك اليوم، فربما لن تستطيع كتمان السر فهي صغيرة السن!
  • اطمئن فلن أخبرها، إذن هل أستطيع القدوم غدا؟ وفي أي ساعة؟
  • تعالي في الواحدة حتى نضمن نوم الحارس، هل تريدينني أن أجهز شيئا قبل أن تأتي؟
  • هل تعلم؟ إني أحتاج إلى قبر حديث لم يدفن فيه أحد من قبل، هل يمكنك أن تحفر لي قبراً جديدا؟
  • يا له من طلب بسيط! إني أحفر قبوراً جديدة كل يوم، لا تقلقي سيكون لديك الكثير من القبور لتختاري منها ما تشائين، سأراك غدا في الواحدة.

أقفل الهاتف وأخذ يصفق بسرور، لقد وقعت في الفخ الذي نصبه لها، وغداً سيتم انتقامه ويأخذ بثأره منها،

نهض من فراشه وخرج إلى المقبرة، وأخذ يتجول في أرجائها حتى عثر على المكان الملائم لتنفيذ خطته، ثم أوى إلى فراشه ونام قرير العين لأول مرة منذ تلك الليلة.

انهمك في عمله في الصباح التالي والحبور يغمره، فكلما مرت الساعات كلما أقترب موعد الثأر الذي تاقت نفسه إليه كان التفكير في الانتقام قد أفقد الرغبة في أي شيء سواه في الأيام الماضية، فقد أصبح طعم الطعام والشراب مرا في فمه، وانعزل في غرفته ولم ينبش أي قبر أو يمس أي جسد ولا حتى فكر في ذلك، لم يكن يرى أمامه إلا وجه تلك الساحرة الكاذبة ولم يفكر بسواها.

وعندما انتصف الليل توجه إلى جانب المقبرة الذي حدده في الليلة السابقة وأخذ يحفر ويحفر، كان أعمق قبر حفره في حياته، وأحس بألم ممض يمزق كتفيه لكنه لم يتوقف، فقد كان عليه أن ينتهي قبل قدوم الساحرة..

كان قد دلى حبلاً علق به دلو كبير وربطه إلى شجرة مجاورة لسور المقبرة ليستعين به في إخراج التراب، وما أن أحس أنه وصل إلى العمق المطلوب حتى رن هاتفه، كانت الساحرة قد وصلت في الموعد الذي حدده لها..

تمسك بالحبل وأسرع بالخروج من ذلك القبر، وجرى للقاء الساحرة وقد أنساه شوقه للانتقام كل تعبه، أخذت تضحك مسرورة حين رأته قادماً، وتمكنت بجهد من كتم ضحكاتها وهي تستمع إلى الشخير المنتظم للحارس والحفار يفتح لها باب المقبرة، فهذا الباب كان بالنسبة لها بابا إلى الثروة والسعادة.

كم ستموت صديقاتها اللدودات من الساحرات غيظاً لو علمن بالحظوة التي نالتها، فقد كانت أقصى أمانيهن أن يدخلن المقبرة ليلاً دون أن يراهن أحد، وها هي الآن تدخل وتسير بحرية بين القبور. كما تشاء، بل إن الحفار الغبي قد وضع نفسه تحت تصرفها وستتمكن من تنفيذ وعدها لزبونتها الغنية بتفريق من تهواه عن زوجته.

وسرحت أفكارها وهي تتبع الحفار في ظلام المقبرة الدامس بالأموال التي ستحصل عليها، وأخذت تهنئ نفسها على ذكائها في استمالة الحفار لجانبها وتظاهرها بصداقته حتى تمكنت من إخضاعه لها، ما ضرها الآن من تحملها لرائحته الشنيعة ومنظره المنفر وصوته المخيف، لقد ربحته إلى جانبها وأصبح الآن طوع أمرها.

وكان الحفار يسير أمامها وعيناه تلمعان بالحقد، فقد انتبه فور أن رآها إلى القفازين السميكين التي كانت تغطي كفيها بهما تحسباً لاحتمال مصافحته لها، وعادت إلى ذهنه كل كلمة قالتها في تلك الليلة.

سلط نور البطارية الذي كان يحمله إلى إحدى يديه ففاجأه منظرها كأنه يراها لأول مرة، كانت أظافره طويلة متقوسة وسوداء من منبتها وأصابعه متكلسة غليظة المفاصل من طول استخدامه للرفش، أجل لقد كان منظر يديه مقرفاً، أبعد النور عن يده وهز رأسه ليمحو منظرها من ذهنه، فلم يكن بنيته أن يلتمس العذر لتلك الساحرة مهما كان منظر يديه، فقد كانت تستطيع ببساطة أن ترفض مصافحته بدل أن تلجأ إلى الكذب والنفاق.

  • إلى أين تأخذني؟ سألته الساحرة بدلال..
  • ألم تطلبي أن أحفر لك قبراً جديداً لقد انتهيت للتو من حفره وسآخذك إليه الآن!
  • لكننا ابتعدنا عن بقية القبور!
  • أجل لقد حفرته في موضع منعزل وبعيد عن القبور، فقد تذكرت أنك قلت إنك تحتاجين قبراً لم يدفن به أحد من قبل..
  • يا لذكائك ومهارتك! كم أنا محظوظة لأنك صديقي! أتعلم؟ إن الزبونة التي أعددت لها هذا السحر غنية جداً وسوف تدفع لي بسخاء إذا نجح السحر وعندها سوف يكون لك النصف مما أحصل عليه، ماذا تريد أكثر من هذا؟

التفت إليها وسلط النور الذي يحمله إلى وجهها، كانت ابتسامة المودة المعتادة مرسومة بمهارة على وجهها، ولكنه أصبح الآن قادراً على قراءة النفاق المطل من عينيها، أكمل السير صامتاً..

من يعلم كم مرة خدعته بمثل هذا الكلام المنمق وكم من الأموال حصلت عليها بفضله ولم تدفع له منها إلا الفتات، فقد كان بغبائه ينفذ لها أحياناً ما تطلبه بلا مقابل عدا ابتسامة من ابتساماتها الجميلة، وأحياناً كانت تحضر له قميصاً أو ساعة يد أو ثياباً لزوجته مقابل خدماته مدعية أنها قد كلفتها الكثير.

كان يفكر بمرارة الآن أنها كانت بالتأكيد تضحك منه لجهله وحماقته وأن الهدايا التي كانت تحضرها له كانت تشتريها برخص التراب، توقف عند القبر الذي حفره وافتعل ابتسامة رسمها على وجهه وهو يستدير إليها:

  • ها قد وصلنا!

نظرت حولها بتوجس، كانت معتادة على وحشة المقابر منذ تعلمت السحر، ولكن الجانب الذي اختاره الحفار كان موحشاً أكثر من باقي المقبرة، فلم تكن هناك أي أنوار وكانت الأشجار الكبيرة المزروعة قرب سور المقبرة تزيد المكان ظلاماً، بينما كانت أغصانها تتحرك تحت وطأة الرياح وتصدر حفيفاً بدا صوته في ذلك الظلام الشديد مرعباً كأنه فحيح الأفاعي.

سلط الحفار النور على القبر لتراه فشهقت مفزوعة:

  • إنه عميق جداً إنني لا أستطيع حتى أن أرى قاعه!
  • طبعاً! فإن صديقتي المفضلة تستحق الأفضل! لقد تعبت كثيراً في حفره، ولكن لا بأس فأنت تستحقين التعب.
  • لكن كيف سأدخل فيه؟ بل كيف سأخرج منه؟
  • بهذا الحبل، هكذا فعلت أنا.
  • لكن ماذا عن الصخور المدببة على جوانبه؟ سوف تخدشني وتمزق ثيابي!
  • لا تخشي شيئاً فأنا هنا بقربك، سوف أنزل إلى القبر قبلك ثم أساعدك في النزول وأخرج بعدها، وعندما تنتهين مما تريدين فعله سأحملك خارج القبر وأخرج أنا باستخدام الحبل.

انقبض قلبها كأن يداً تعتصره، لم تكن تدري ما الذي يخيفها أكثر. هل هو النزول في هذا القبر العميق بظلامه الدامس.. أم هي فكرة أن يحملها الحفار وأن تحس بأصابعه القذرة على جسدها.. كانت تود أن تولي الأدبار وتبتعد، ولكن ماذا عن الأموال الكثيرة التي ستحصل عليها؟ كيف تتخلى عنها؟ ثم إن الحفار قد يغضب منها إذا رفضت هذا القبر بعد كل ما بذل من جهد لحفره، وقد تخسر صداقته الثمينة..

  • ماذا تنتظرين؟ إن الوقت يمر بسرعة وقد يستيقظ الحارس ويرانا!
  • إنني خائفة!
  • مم تخافين؟ ألم تنزلي قبراً من قبل؟
  • بلى ولكن ليس بهذا العمق!

كان الحفار قد بدأ يتململ في وقفته، كان يخشى أن تفلت الفرصة من يده، ولكنه فكر أن استمراره في الإلحاح قد يزرع الشك في نفسها، وقرر أن يتظاهر بعدم الاكتراث حتى يجعلها تتخذ القرار بنفسها..

  • كما تشائين! سأردم هذا القبر وسأحفر لك غيره في المرة القادمة لكني لا أدري متى سأتمكن من إدخالك من جديد.. هيا بنا سأرافقك إلى الخارج!

أسقط في يد الساحرة... ماذا تفعل؟ هل تتحامل على خوفها وتتجاهل اشمئزازها من الحفار أم تنتظر فرصة أخرى؟ ولكن ماذا لو لم تسنح هذه الفرصة؟ ماذا لو غضب عليها هذا الحفار المتقلب الأطوار ورفض إدخالها إلى المقبرة من جديد؟ بل ماذا لو رفض حتى أن يقوم بتنفيذ أي خدمة لها وانقلب ضدها كما فعل بالساحرة العجوز التي كانت ولية نعمته؟

أحس الحفار بحيرتها فقرر أن يزيد من الضغط على أعصابها، استدار باتجاه باب المقبرة وخطا عدة خطوات مبتعداً..

وهنا وقع قلبها في جوفها... فقد رأت أحلامها بالشراء تطير أمام عينيها، إنه لم يلح عليها ولم يبذل أي جهد لإقناعها، إنه فقط يريدها أن ترحل هذا أسوأ مما كانت تخشاه، إن هذا البرود وعدم الاكتراث لا يعني سوى أنه قد غضب، وها هو الآن يخرجها من المقبرة وربما لن تستطيع العودة مرة أخرى، سوف تصبح مدار تندر رفيقاتها الساحرات وستخسر كل زبائنها..

استسلمت على مضض مقاومة مشاعر الخوف التي كانت تعتمل في أحشائها، ووضعت يدها على رأسها وهي تحاول بكل جهدها أن تسكت صرخة تحذير كان عقلها يصرخها، لا! لن تفشل! لن تسمح لنفسها أن تفشل وتخسر كل ما بنته في سنين بسبب شعور مبهم لا تدري له سببا، مهما كانت قوة هذا الخوف الذي يعتصر قلبها، لن تسمح له أن يوقفها عن تنفيذ ما جاءت لأجله..

ابتلعت ريقها بجهد وأرغمت نفسها على الابتسام وهي تنادي الحفار:

  • هيا عد إلى هنا! ما بالك؟ منذ متى أصبحت سريع الغضب هكذا؟

كان يدير ظهره لها فلم تستطع رؤية الفرحة الوحشية التي غمرت وجهه.. لقد نجح.. ها قد استسلمت لجشعها وتجاهلت خوفها.. الآن أصبحت في قبضته.. الآن سيتمكن أخيراً من تذوق طعم الانتقام الشهي.

بذل جهداً لا يوصف ليكتم فرحته ويبقي الغضب مرتسماً على ملامحه، يجب أن يستمر في خداعها وإلا ستفشل خطته، عليه أن يتظاهر باللامبالاة وأنه سيان لديه أنزلت القبر أم لا حتى لا تستشعر أي ضعف في تصميمه وحتى يظل طمعها منتصراً على خوفها..

عاد إلى ذلك القبر بخطوات متمهلة وبدون أن يكلف نفسه عناء الرد عليها أو حتى النظر إليها، أمسك بطرف الحبل وأنزل نفسه في داخله رويداً رويداً، كان يتعمد أن يبطئ حركاته لكي تظل خائفة ومشدودة الأعصاب، وعندما وصل إلى القاع ناداها:

  • هيا! انزلي!

جحظت عيناها من الخوف، كان القبر مظلماً تماماً ولم تكن ترى في جوفه إلا شبح الحفار وبريق أسنانه الصفراء المرعبة، وأخذ قلبها ينبض بشدة حتى كادت نبضاته تمزق صادرها وهي تستدير وتنزل قدميها في الحفرة.

تدلت رجلاها في الهواء بينما بقيت يداها متشبثتان بحافة القبر بكل قواها.. أمسك الحفار بخصرها لينزلها فانتابتها قشعريرة زلزلت كيانها، وكادت تصيح بأعلى صوتها من هول ما تملكها من اشمئزاز وكره، تمنت لو نستطيع الخروج من جلدها أو قطع المكان الذي لمسته يداه الكريهتان.

وقفا متواجهين في ظلام القبر، كان الحفار معتاداً على الظلام فتمكن من قراءة ملامحها، ورأى أنها كانت تكاد تفرغ ما في جوفها ولم تعد تستطيع حتى رسم ابتسامة النفاق المعتادة على وجهها .. كانت ترتجف رغم حرارة الجو وتحاول أن لا تتلافى نظراتهما حتى لا تنفضح مشاعرها التي لم تعد تستطيع كتمانها.

ومن جديد كان على الحفار أن يقاوم الرغبة العارمة التي افترسته ليمسك بعنقها ويخنقها فقد فهم سبب ما بها، رفعت عينيها إليه فرأت النار التي تستعر في عينيه لكنها لم تفهم سببها، بل ظنت خطأ أن تلك النار مبعثها رغبته بجسدها، وعادت إلى ذهنها محاولاته السابقة معها فأخذ قلبها يخفق بجنون، كيف ستهرب منه الآن؟ إلى أين ستذهب؟ وماذا لو أرغمها؟ ماذا لو اغتصبها؟ كيف ستقاومه في هذا القبر الضيق ومن سيسمع صرخاتها؟ ماذا تفعل الآن؟

وأخرجها من تساؤلاتها المفزوعة عندما قال من بين أسنانه بكل الهدوء الذي استطاعة:

  • سوف أخرج الآن وأتركك تستكملين عملك.. سأجلس هنا قرب القبر، ناديني عندما تنتهين..

وأمسك بالحبل ثم قفز ودفع قدميه على حائط القبر وارتفع حتى أصبح خارجه وما كاد يغيب عن ناظريها حتى تنفست الصعداء، لقد انزاحت الغمة أخير طردت ذكرى تلك اللحظات المليئة بالرعب من ذهنها وأحست أخيراً بشيء من الأمان لأول مرة منذ رأت هذا القبر.

استدارت إلى جانب القبر الأيمن وحفرت بأظافرها حائط القبر وأدخلت صرة كانت تحملها في حقيبتها كانت تتمتم بألفاظ سحرية غريبة لا يفهمها إلا من تتعامل معهم من الشياطين، وحفرت حفرة أخرى على مسافة بسيطة من الحفرة الأولى ودفعت فيها صرة أخرى وهي مستمرة في التمتمة وتلاوة تعاويذها، وقد غابت عن الوجود ونسيت أين هي ونسيت وجود الحفار..

كان عليها أن تدفن تلك الصرر بترتيب معين لترسم الشكل المطلوب حتى تكتمل دائرة السحر ويتحقق التأثير المطلوب.. استدارت إلى الجانب الآخر واستمرت فيما تفعله... كان الحفار يقف على جانب القبر ويراقبها ويستمع إلى الترنيمات التي تقرؤها.. كم كان بوده لو أخبرها أن كل ما تفعله لن يكون له جدوى وأنها لن... لكن لا! ليس الآن! فليدعها غارقة فيما تفعله حتى تكون صدمتها أكبر وأقوى، سحب الحبل من جانبها وكومه بقربه دون أن تنتبه لما يفعله..

أنهت عملها بعد أن استكملت وضع الصرر السبع التي أحضرتها بالترتيب المطلوب.. تلفتت حولها مبتسمة وهي تعيد إغلاق حقيبتها.. رأى الحفار أنها قد انتهت فابتعد قليلاً لكي لا تنتبه أنه كان يراقبها، وانتظر حتى نادته...

  • ماذا؟ هل انتهيت؟
  • أجل لا تنس أن عليك أن تدفن رجلاً هنا خلال أسبوع! هيا ساعدني لأخرج من هنا!
  • على الفور!

دلى رجليه في القبر وتظاهر أنه يهم بالنزول، ثم توقف كأنه قد تذكر شيئاً وقال:

  • أين الهدية التي وعدتني بها؟
  • ألم أعطاك إياها؟ كم أنا غبية! ها هي تفضل!

قالت مبتسمة وهي تخرج علبة مغلقة من حقيبتها الكبيرة وترفعها في اتجاهه..

  • ما هي؟

قال وهو ينطرح على حافة القبر ويمد يده ليأخذ الهدية..

  • إنه هاتف نقال جديد.. فهاتفك الحالي أصبح طرازه قديماً ولم يعد أحد يستعمله!

وفجأة لمع في ذهنه خاطر كان قد نسيه.. يا له من أحمق.. لقد كاد يودي بنفسه إلى الهاوية ويفسد خطته لولا أن ذكرته هديتها بما كان قد نسيه. والآن عليه أن يتحايل للحصول عليه. فتح العلبة مبتسماً وأمسك الهاتف الجديد في يده..

  • ما أجمله!

قالها صادقاً فقد كان الهاتف لامعاً وذو لون جذاب.. ثم أكمل بعد أن خفت انبهاره وقد توصل إلى فكرة للحصول على ما يريد..

  • هل هو من نفس طراز هاتفك؟
  • لا هاتفي أحدث قليلاً.. أنت تعلم أنني أحتاج أن أتواصل باستمرار مع زبوناتي ومع صديقاتي الساحرات وأهلي في البلد المجاور، وهذا الهاتف يمكنني من التخاطب معهم بدون أن أحمل هم فواتير المكالمات.. قالت مترددة فقد كانت تخشى إغضابه..
  • ولماذا لم تحضري لي هاتفاً مثله؟
  • إنه غالي الثمن وليس لدي الآن ما يكفي من المال.. لكني أعدك أنني سأحضر لك واحدا مثله بل أحدث منه عندما أستلم ثمن السحر الذي ساعدتني لتنفيذه الليلة
  • هل يمكنني رؤية هاتفك؟
  • بالطبع! تفضل هذا هو!

ومدت يدها به وهي تفكر أن عليها أن تمسح هاتفها بمطهر قوي المفعول بعين تلمسه يداه القذرتان، بل ستفعل ما هو أفضل، ستشتري هاتفا جديد أو تعطيه هاتفها القديم حتى لا تضطر إلى إنفاق شيء مما ستحصل عليه.

أمسك هاتفها بفرح فقد اقترب خطوة أخرى من تنفيذ خطته، ونظر إلى الهاتف الذي لمعت شاشته في الظلام ما إن لمسه فانتبه إلى الوقت الذي كانت أرقامه تشع على وجه الهاتف.. كانت الساعة قد تجاوزت الثانية.. لقد أضاع الكثير من الوقت دون أن يشعر وعليه أن يسرع وإلا فسدت خطته، وقرر أن يكف عن الأسئلة ويقضي على أي شك لديه..

  • سأتركه هنا لتأخذيه بعدما تصعدين.. هل تعلمين؟ ما رأيك أن أخذ حقيبتك أيضاً وأتركها هنا لك؟ هكذا ستصعدين بسهولة أكبر!
  • أظن أنك على حق فهي ثقيلة فعلاً!..

مدت يدها له بالحقيبة بدون أن يخامرها أي شك في نواياه.. وضع الحقيبة قربه ومد يديه لها ليساعدها على الصعود، ترددت لحظة قصيرة ثم هنأت نفسها لأنها تذكرت لبس القفازات فمدت يديها وتمسكت بيديه..

رفعها حتى أصبحت بمحاذاة حافة القبر ثم توقف فجأة عندما أصبح وجهها بقرب وجهه، نظرت إليه مستطلعة وسألته لم توقف فلم يرد، وظل ممسكاً بها وهو يبتسم ابتسامته الشريرة المخيفة، وما إن نظرت إلى عينيه حتى انتابها الشك، ولكن قبل أن يتسنى لها أن تتأكد من شكوكها كان قد أفلت يديها وتركها تهوي في قاع القبر..

وقعت على وجهها ثم تمالكت نفسها ونهضت وهي تنظر إليه وقد عقدت الدهشة لسانها، مدت يدها إليه ليرفعها من جديد وهي تأمل بيأس أن يكون قد أوقعها بطريق الخطأ، لكنه لم يتحرك، وظل ينظر إليها هازئاً دون أن يتوقف لحظة عن الابتسام ..

وفجأة فهمت نيته وصرخت في رعب وهي تحاول تسلق جوانب القبر لتصل إلى أعلاه، تركها تحاول وهو مستمتع بمحاولاتها اليائسة وبمنظر الدماء وهي تسيل من يديها وصوت تمزق ثيابها والخدوش التي غطت ركبتيها، لم تعد قادرة على الصراخ الآن فقد جمد الخوف صوتها في حنجرتها. لكن همساتها المتوسلة المبحوحة كانت كرنين الموسيقى في أذنيه:

  • لا أرجوك! ارجوك لا! ارحمني! لا تتركني هنا! ساعدني أرجوك!

كان الخوف من المصير المظلم الذي ينتظرها قد أعطاها قوة فدفعت نفسها حتى أمسكت بحافة القبر بإحدى يديها، ولمعت الفرحة في عينيها بعد أن أصبح لديها أمل ضئيل بالنجاة، حاولت بيأس أن تضع يدها الأخرى على تلك الحافة لكن الحفار فاجأها بضربة قوية من رفشه على وجهها ألقتها في قاع القبر من جديد وقد تحطم أنفها وسال الدم من أسنانها..

حاولت النهوض من جديد فعاجلها الحفار بضربة أخرى على رأسها جعلتها تقع على وجهها وتوقفت عن الحركة.. انتظر الحفار متحفزاً وهو يمسك برفشه لكنها لم تتحرك.. نظر إلى ساعته وعض شفته بغيظ فقد حرمه فقدانها للوعي من أفضل متعة كان يمني نفسه بها، كان يريد أن يهيل التراب على وجهها شيئاً فشيئاً ويستمتع بعذابها وبمنظر عينيها المتوسلتين، لكن لا بأس فهي لم تمت بعد..

مد يده بالرفش حتى بلغ جسدها وحاول عدة مرات حتى تمكن من قلبها على وجهها.. ثم أخذ يهيل التراب عليها متعمداً أن يبقي وجهها مكشوفاً ويغطي باقي جسدها.. كان قد غطي معظم جوانب القبر عندما استعادت الوعي فجأة، وظلت عيناها فارغتين للحظات قبل أن تستوعب ما كان يحدث لها..

فتحت فمها لتصرخ فقذف الحفار كومة من التراب على وجهها ملأت فمها وعينيها .. حاولت تحريك يديها لتبعد التراب عن عينيها فوجدتهما مشلولتين بفعل التراب الذي يغطيهما، بصقت التراب من فمها وحاولت الصراخ من جديد فألقى الحفار كومة أخرى من التراب على وجهها خنقت صوتها..

كان الفرح الجنوني يتلألأ في عيني الحفار وهو مستمر في قذف التراب عليهاً حتى غطاها تماماً، وكانت تثن بتوجع والتراب يخنق أنفاسها شيئاً فشيئاً استكمل الحفار تغطية القبر وأحضر حجارة ثقيلة من بقايا ترميم السور وغطي القبر بها.. ثم عاد فأحضر المزيد من الأحجار ووضعها فوق الأحجار الأولى ليضمن أن لا تستطيع رفعها، فقد كانت شابة وقوية البنيان وربما استطاعت الخروج من التراب بعد مضي بعض الوقت.

جلس فوق الأحجار فلم يشعر بأي حركة لكنه ظل جالساً ليتأكد من موتها. وأخذ يسلي نفسه بالعبث في حقيبتها.. وكم كان فخوراً بذكائه عندما وجد فيها هاتفاً آخر.. لقد أحسن صنعاً عندما أخذ منها حقيبتها قبل أن يدفنها.. حمل أحد الأحجار وأخذ يضرب بها هاتفيها حتى حطمهما تماماً.. ثم جمع بقاياهما في الدلو الذي كان يحمله وقرر أن يدفن تلك البقايا في أحد القبور حتى لا يجدها عمال النظافة إذا رماها في القمامة..

وفجأة رأى الأحجار ترتفع، كانت الساحرة قد تمكنت من الخروج من تحت التراب ورأى جزءاً من رأسها ويديها وهي تحاول دفع الحجارة الثقيلة، انتظر حتى تمكنت من إخراج رأسها ثم حمل أحد الأحجار واستدار ليواجهها، وما كادت تراه حتى انقلب الفرح بالخروج في عينيها إلى فزع شديد، وقبل أن يتسنى لها أن تصرخ كان قد رفع الحجر وهشام به رأسها..

انفجر الدم من رأسها وغطى عينيها ووجهها، كانت قد توقفت عن الحركة لكنه لم يتوقف.. رفع الحجر ثانية وأهمده على رأسها عدة مرات حتى رأي جزءا من دماغها يسيل على جانبي رقبتها فتوقف أخيراً... أعاد حفر القبر ورماها فيه ثم غطاها تماماً بالتراب وساوى القبر بالأرض..

كان الفجر قد بدأ يقترب عندما عاد أخيراً إلى غرفته، سعيداً هانئاً.. الآن ستحلو له الحياة من جديد، أوى إلى فراشه ليلتقط بضع ساعات من النوم، لكنه ظل يتقلب مسهدا، كانت سعادته بإطفاء نار غله قد أطارت النوم من عينيه، كما أنه كان يحس بالجوع كأنه لم يأكل منذ دهر، وأخذ ينتظر بفارغ الصبر أن تدق الساعة السابعة لينقض على الفطور الذي يحضر له يومياً في هذا الوقت..

قرر أن يسلي نفسه بحفر القبرين الذين طلب منه الموظف حفرهما في الليلة السابقة، كان الوقت لا زال مبكراً فأخذ يحفر بتمهل فقد كان كتفاه لا زالا متصلبين بعد تعبه الليلة الماضية، وفجأة لفت انتباهه صوت النباح المرتفع لبعض الكلاب الضالة خارج سور المقبرة، تتبع مصدر الصوت ولاحظ بفزع أنها كانت تنبح قرب المكان الذي دفن فيه الساحرة..

جاء الحارس أيضاً على صوت النباح ونظر إليه متسائلاً، كانت دقات قلبه تتسارع لكنه تمكن من الحفاظ على هدوء أعصابه.. فلم يعد إلى غرفته بالأمس إلا بعد أن دفن حطام هاتفيها في قبر آخر وتأكد من إزالة أي آثار تدل على ما فعله، لكنه لم يحسب حسابا لهذه الحيوانات الضارية التي لا بد أنها قد اشتمت رائحة الدم الطازج وجاءت بحثاً عنه..

انتظر أن يقطع الحارس حبل الصمت لكن انتظاره طال، واضطر في النهاية إلى الكلام:

  • لا أدري ما الذي يهيج هذه الكلاب لتنبح هكذا في هذا الصباح الباكر!
  • ألم تر شيئاً عندما خرجت؟ سأله الحارس..
  • لا فلم أخرج اليوم، فقد غلبني النوم ولم أذهب للصلاة..
  • حاول أن تصعد فوق السور فقد ترى شيئاً!

وضع بضعة أحجار قرب السور وصعد فوقها وهو يسترق النظر إلى مكان قبر الساحرة ليتأكد أنه لا يمكن تمييزه من الأرض الجرداء حوله.. وما كادت الكلاب تري رأسه يطل من فوق السور حتى هاجت وارتفعت وتيرة نباحها.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا