13. التخيل في عالم الطفل
حين أعود من عملي ألاحظ على أولادي وأولاد الجيران الأدوار التي يتقاسمونها في لعبهم.
فأحمد يأخذ دور الأب وناديا دور المعلمة وزياد دور الطالب .. أي إنهم يتخيلون ما نعمله نحن الكبار في حياتنا.
كما أن أبني الكبير يشغل ساعات من وقته في رسم الوجوه واللعب وما يراه على شاشة التلفزيون.
وقد زارنا صديق فنان ورأى ما يرسمه ابني فأبدى ملاحظات كثيرة على طريقة الرسم وتعبير الوجوه، وهو ما نبهني إلى طرح مشكلة التخيل عند الطفل.
علني اقرأ تحليلكم لهذه الظاهرة بعد أن يأست من أن أرى ذلك على صفحات المجلات والصحف.
رفيق. س
ربما كانت المشكلة التي تطلب تحليلها هي من أهم الحالات التي يصادفها الآباء مع أولادهم دون أن يعيروا ذلك انتباههم. وأهم أنواع التخيل عند الطفل هو التخيل الاستحضاري، وهو التخيل الوحيد من التخيل الذي نستطيع أن نجده عند الأطفال دون الثالثة. ويصل التخيل الإبداعي إلى أقصى درجة فيما بين الثالثة والخامسة ويمتاز التخيل في هذه المرحلة بالخرافات وعدم تقيده بما يمكن أن يقع ثم يتدرج الطفل بعد ذلك من الوهمية إلى الواقعية كلما كبر فيصبح الطفل فيما بين العاشرة والثالثة عشرة مقيداً في تخيله ما هو ممكن ويفقد التخيل عنده ميزته الوهمية ويصبح عملياً كما يميل إلى الحصول على نتائج.
فوظيفة النشاط التخيلي عند الطفل في تلك المرحلة وهمية أي لا تكون حياته العقلية فيها سوى أوهام وأحلام. فالأساس في تخيل الطفل هو حياته الوجدانية وبخاصة المخاوف العديدة التي تعرض له في هذه المرحلة التي يكون فيها قليل الخبرة، قليل الحيلة في بيئة تظهر له على العكس أن كل ما فيها كبير وقوى. وعلى ذلك اعتاد الكثيرون أن يظنوا أن التخيل هو مجرد حاجة تلك العقلية الضعيفة القليلة الخبرة إلى أن تتحول عن مواجهة الحقيقة الجافة الصعبة في العالم الخارجي فتحقق لنفسها الاتزان. إلا أن وجهة النظر هذه تترك لنا دون تفسير أهم عنصر من عناصر الخبرة في الحياة المبكرة، والواقع أن التحليل الدقيق لمظاهر التخيل عند الطفل يجعلنا نجزم بأنه ضروري للتطور الوجداني، فحياة الطفل العقلية والوجدانية في السنوات الخمس الأولى لا تنفصلان. وأمام الطفل مشاكل لابد أن يجد لها حلا وتيسيراً. ولا وسيلة عند الطفل - القاصر الخبرة - لحل هذه المشاكل سوى أحلام اليقظة التي تسقط هذه الإحساسات وهذه المشاعر إلى العالم الخارجي، فالطفل لا يستطيع أن يتغلب على انفعاله الغامض قبل أن يرمز له بصورة ما من الصور الوهمية - فوظيفة التخيل الأولى هي أنه يجعل الطفل يعتاد الأشياء التي تسبب له المخاوف. وبالتدريج يخترع الطفل في خياله الوسائل التي تجعله يتغلب على تلك المخاوف.
والطفل في محاولته هذه يبدو إنه يكفي حاجته سواء أكانت طبيعية أم عقلية. يقف أولاً موقفاً موضوعياً باحتكاكه بالبيئة، ويتلو هذا مباشرة ارتداده على نفسه وعكوفه على خياله كي يفهم ويهضم ما اكسبه، فهو لا يستطيع أن يتصل بمشكلة بأجمعها مرة واحدة وبسرعة. وبهذا التذبذب بين الطريقة الموضوعية والطريقة الذاتية يتكرر اتصال الطفل بالحقيقة ويكمل ويصحح أفكاره التي يتعامل على أساسها مع الآخرين. أي أن التفكير يبدأ من الاحتكاك بالبيئة وينتهي بالتعبير عن الذات في البيئة، وفيما بين هاتين العمليتين يقوم بما نسميه أحلام اليقظة. ومثل هذا التفكير يعد الطفل لمجابهة المشاكل في المستقبل بشكل موضوعي عندما يصبح أكثر استعداداً لمثل هذه المجابهة.
أما إذا تتبعنا مراحل الرسم المختلفة عند الطفل نجد أن أولها هي المرحلة التخطيطية، وفيها يأخذ الطفل في عمل تخطيطات هوجاء متسعة وبسيطة ثم تأخذ في القصر شيئاً فشيئاً كلما زادت سيطرة الطفل على حركاته، كما أنها تكون مستقيمة الشكل أولاً تقريباً ثم وتصبح مستديرة ثم حلزونية - ثم تقل هذه الخطوط الكثيرة تدريجياً حتى يخرج الطفل منها بصورة إطارية، وهذه هي المرحلة الثانية. فالمرحلة الأولى إذن مرحلة يبحث فيها الطفل عن طريقة لاستحضار الشكل - والخطر الإطاري إنما يخرج من تلك التخطيطات التي سبقته أي أنه انتخاب الطفل من بين خطوط كثيرة لما يراه معبراً عن الصورة في نظره. وإذا ما عرفنا ذلك أصبح من السهل علينا أن نفهم أن الصورة الإطارية عند الطفل إنما تعكس ما يميز شخصيته. وبهذا يمكننا، بالبحث في الرسوم عند الأطفال وتحليلها، أن نكشف عن شخصياتهم ونعرف خبايا نفوسهم. وقد لاحظ لوفنلد في تجاربه على مئات الأطفال في الرسم أن الطفل رقيق الإحساس القلق، تظهر مميزاته الشخصية عند رسم صورة إنسان في تلك الخطوط الدائرية غير المحدودة وغير المقفلة. كما أن الطفل ذا العزم والتصميم يرسم صورة الإنسان في خطوط مربعة. من هذه الحقائق يتضح أن الرسوم التي يرسم الطفل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بنفسه الفردية، فهي ليست رموزاً اختيارية بل يقررها التكوين النفسي والجسمي. ولا يصدف هذا على تصوير الطفل للإنسان فحسب بل أيضاً على تصويره للمسافات والأشياء.
أن تصوير الطفل، ليس جامداً، أي أن الصورة الإطارية التي يرسمها ليست واحدة في كل حالة، بل هي دائماً في تغير، كما أنها تختلف من طفل إلى آخر. وهذه الصورة غير الجامدة تجريد لا شعوري لما يراد التعبير عنه. ولا شك أننا إذا ما درسنا أنواع التعديلات التي تطرأ على الصورة الإطارية التي يرسمها الطفل استطعنا أن نعرف العوامل التي تسيطر على تخيله.
كما أن تصوير الأطفال للأشخاص والأشياء والمكان لا يعتمد على البصر، بل أن هناك عاملين هامين يؤثران عليه وهما أولاً التجارب الجسمية الذاتية وثانياً أهمية الشيء بالنسبة إلى الطفل، وبذلك لا يجب أن ننظر إلى أخطاء الأطفال في رسومهم على أنها نتيجة لعدم إدراكهم للنسب أو العلاقات، فالطفل يعرف دون شك أن للرجل يدين ولكنهما قد لا يوجدان في رسم للرجل كما أنهم قد يوجدان بنسبة خاطئة، وقد يوجدان بنسبة صحيحة. والواقع أن للطفل وجهة نظر خاصة يتصور خلالها الأشياء وذلك بحسب ما تثير فيه من شعور سواء أكان ذلك تجربة جسمية ذاتية أم تجربة نفسية وجدانية، فالطفل محصور هنا في دائرة ذاته على العموم. وفي ذلك ما يؤيد ما يقال أن تخيل الطفل هو انعكاس حياته ومشاكله الوجدانية وذلك في صور رمزية.
ويمكن تشبيه الأطفال في رسومهم بمدرسة التأثريين أو الرمزيين، فهم لا ينقلون عن الطبيعة بل يعبرون عن شعورهم نحو هذه الطبيعة، ولكي نرى تطور الأطفال من هذه التأثرية إلى الواقعية علينا أن نتتبع قدرتهم على التركيز البصري، كما أن خروج الطفل من المرحلة الخيالية إلى المرحلة الواقعية في التفكير يعتمد على القدرة على التركيز الفكري.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا