أشباح الماضي

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-02-18

أشباح الماضي 

في إحدى المناطق القصية والمنعزلة من إنجلترا انتصب يوماً ما منزل قديم نسجت حوله الكثير من القصص المخيفة فتحول إلى قبلة للباحثين عن المغامرات الروحانية وكتبت عنه أشهر الجرائد الإنجليزية آنذاك. 

منزل دار حول قصته جدل واسع بين فريقين أحدهما مؤمن بصدق القصة ويقدم الكثير من الشهود والأدلة لدعم وجهة نظره، وفريق آخر يكذبها جملة وتفصيلاً وله أيضاً حججه وأدلته، وقد تكون النهاية المأساوية التي انتهى إليها المنزل قد أسهمت في إسباغ المزيد من الغموض عليه ورفعت من حدة الجدل الدائر حوله، مما جعله يستحق بجدارة لقب أشهر منزل مسكون في إنجلترا "راهبة دفنت وهي حية فبقي شبحها لقرون يبحث عن الراحة والسكينة". 

هو منزل متوسط الحجم كان يستعمل لسكن راعي الأبرشية وعائلته وقد تم تشييده عام 1863 في بقعة من الأرض كانت يقوم عليها في السابق بناء آخر اندثر منذ زمن بعيد، والمنزل يقع بالقرب من كنيسة قديمة أنشئت في القرن الثالث عشر وتعتبر من أبرز معالم بلدة بورلي الصغيرة الواقعة في مقاطعة إيسكس الإنجليزية، وتتألف البلدة الضاربة في القدم من عدة بيوت ريفية تفصل بينها مساحات خضراء واسعة وتنتشر في محيطها أطلال بعض القصور المهجورة والأديرة القديمة التي تعود إلى حقبة العصور الوسطى، الحياة في البلدة هادئة ورتيبة، حالها في ذلك حال أغلب البلدات النائية والمنعزلة في الريف الإنجليزي وربما كان الشيء الوحيد الذي يكسر هذا الروتين في بلدة بورلي هو حكايات الأشباح والأماكن المسكونة الغامضة التي ترويها العجائز في ليالي الشتاء الباردة، وإحدى أشهر تلك الحكايات تتحدث عن قصة قديمة ومأساوية وقعت في البلدة منذ قرون وهي تدور حول أحد رجال الدين الذي كان يعيش يوماً ما في البلدة وربطته علاقة حب مع إحدى الراهبات التي كانت تقيم في دير قديم يبعد سبعة أميال عن البلدة، ولأن علاقة من هذا النوع كانت تعتبر آثمة ومرفوضة في ذلك الزمان لذلك قرر العاشقان الفرار من البلدة، بعد أن ذاع سر علاقتهما وخافا أن يتم معاقبتهما وقد حاول بعض أصدقاء القس تهريبهم ليلاً بواسطة عربة تجرها الخيول؛ لكن لسوء الحظ ألقي القبض على الجميع فحكم على القس بالموت شنقا وعلى أصدقائه الذين حاولوا تهريبه بقطع أعناقهم بالسيف. 

أما الراهبة فقد واجهت العقوبة الأشد إذ دفنوها وهي حية في جدار الدير، ومنذ ذلك الزمان حدثت عدة أمور غريبة وغامضة، من حين لآخر كان بعض السكان يقسمون على أنهم شاهدوا شبح راهبة تتجول مسرعة في أرجاء البلدة، في حين زعم البعض أنهم شاهدوا عربة تجرها الخيول تسير بسرعة جنونية في الطرقات ويقودها شخصان قطعت رؤوسهما!

إحدى مناطق البلدة التي أمن السكان بشدة على أنها مسكونة كانت البقعة التي بني عليها منزل راعي الأبرشية، فرغم تحذيره من قبل العديد من أهالي البلدة أصر هنري بول راعي الأبرشية الجديد على أن قصص الأشباح في المنطقة ليست سوى خرافات لا أساس لها من الصحة. 

وسرعان ما انتقل للسكن في المنزل بمجرد أن انتهت أعمال البناء تصحبه عائلته الكبيرة المكونة من زوجته وأطفاله الأربعة عشر، ولم تمض على العائلة سوى أيام معدودة حتى بدأت بعض الأمور الغريبة تحدث داخل المنزل، كان أفراد العائلة يسمعون صوت خطوات مجهولة لشخص ما يتحرك على السلم صعوداً ونزولاً ورغم أنهم فتشوا جميع أرجاء المنزل فإنهم لم يعثروا على مصدر الصوت، وأحياناً كانت أجراس اليد المستعملة لمناداة الخدم ترن ليلاً دون أن يحركها أحد. 

وفي بعض الليالي كان أفراد العائلة يسمعون صوت أشخاص مجهولين يتهامسون بكلمات غير مفهومة في مكان ما من المنزل؛ لكن أغرب الحوادث على الإطلاق هي تلك التي وقعت في غروب أحد الأيام وشاهدته أربع من بنات العائلة، فبينما كن جالسات في الحديقة ظهر لهن فجأة شبح امرأة ترتدي ملابس راهبة وتقف على مسافة منهن تحت الأشجار، كانت تحدق إليهن وبدا وجهها شاحباً وباهتاً بصورة مخيفة وكانت نظراتها باردة وغير مريحة، وعندما حاولت إحدى البنات التحدث إليها والاقتراب منها اختفت فجأة وتبددت دون أن ترك أي أثر خلفها!

 وفي عام 1892 توفي راعي الأبرشية هنري بول فتولى ابنه منصبه واستمر بالسكن مع زوجته في المنزل واستمرت كذلك الأمور الغامضة والغريبة تحدث من حين لآخر حتى عام 1927 حيث توفي هنري بول الأبن وأصبح المنزل خالياً لعدة أشهر، ثم تولى منصب راعي الأبرشية رجل دين جديد يدعي إيريك سميث وانتقل للسكن في المنزل مع زوجته وابنته الوحيدة، وسرعان ما أخذت تتكشف لهم الأبعاد المخيفة لمحل سكنهم الجديد، ففي أحد الأيام كانت السيدة سميث تنظف خزانة ملابس قديمة داخل المنزل، عندما عثرت داخلها على كيس ورقي يحتوي على جمجمة بشرية تعود لامرأة شابة، ولم تمض مدة طويلة على هذا الحادث حتى بدأت تتكرر الأمور الغريبة نفسها التي واجهتها عائلة القس السابق، خطوات مجهولة على السلالم وأصوات هامسة مبهمة، إضافة إلى طرق غامض على الأبواب والنوافذ. 

وفي إحدى الليالي زعمت السيدة سميث أنها شاهدت شبح عربة سوداء تجرها الخيول متوقفة أمام المنزل، ويقودها سائق مقطوعة عنقه! كل هذه الأحداث الغامضة والمخيفة دفعت العائلة للاتصال بجريدة الديلي ميرر من أجل إجراء ونشر تحقيق عن المنزل على أمل أن يقرأه أحد المتخصصين بطرد الأشباح فيساعدهم في التخلص منها. 

وقد أرسلت الجريدة أحد صحفييها عام 1929 لرؤية المنزل، وقام بكتابة عدة مقالات عنه أدت إلى جذب اهتمام الكثير الناس، وأحد هؤلاء الذين أثارت المقالات فضولهم بشدة هو هاري بريس المتخصص في قضايا الروحانيات وما وراء الطبيعة والذي سرعان ما توجه لزيارة المنزل وأخذ يبحث في تاريخه وفي طبيعة الأمور الغريبة التي تحدث داخله. 

يبدو أن إيريك سميث وزوجته قد ضاقا ذرعاً بالأشباح التي شاطرتهم سكنهم لعدة سنوات، لذلك انتقلوا إلى سكن ثاني في أواخر عام 1929 وأصبح منزل موبرلي خالياً مرة أخرى حتى عام 1930 حيث سكنه رجل الدين ليونيل فويستير وزوجته ماريانا، وما إن تجاوز الزوجان عتبة المنزل حتى أخذت الأحداث الغريبة داخله تأخذ بعداً جديداً فأصبحت لسبب ما أكثر حدة وشراسة، وبدأ أفراد العائلة وأحياناً ضيوفهم يتعرضون للحبس داخل الغرف، حيث تقفل عليهم الأبواب فجأة وتضيع المفاتيح، وبدأت بعض قطع الأثاث تختفي وأخرى تتحرك من تلقاء نفسها، والنوافذ تتعرض للكسر، وفي الليل كانت أصوات غريبة ومخيفة تتردد في جنبات المنزل، وكان أكثر الأشخاص تعرضاً للحوادث هي الزوجة ماريانا، حيث زعمت عدة مرات أن يداً خفية أسقطتها من فراشها وأنها تعرضت للرمي بالحجارة والقناني الفارغة، كما بدأت فجأة تظهر كتابات وخربشات غريبة على جدران المنزل تطلب مساعدتها.

ومع تزايد هذه الحوادث ازداد اهتمام الناس بما يجري داخل المنزل، وأخذت أغلب الجرائد تكتب التحقيقات المطولة عنه، وأصبح أشخاص مهتمون بالروحانيات من أمثال هنري بريس من زواره الدائمين، وكان السيد بريس يعتقد ويؤمن بشدة أن المنزل تسكنه عدة أشباح، وأن أحدها هو شبح راهبة تم قتلها في هذه البقعة من الأرض!

وفي عام 1937 تركت عائلة فويستير منزل موبرلي، فاستغل هاري بريس الفرصة وأقنع الجهة المالكة للبيت بمنحه مدة سنة كاملة ليجري تحقيقاته حول الأشباح التي تسكنه، ثم قام بنشر إعلان في جريدة التايمز طلب فيه متطوعين للإقامة في مخيم قرب المنزل لغرض مراقبة الأشباح، وسرعان ما تقدم المئات للمشاركة في هذا المخيم إلا أن هاري بريس اختار منهم أربعين شخصاً فقط، وبدأ المتطوعون بمراقبة المكان على مدار الساعة مزودين بمناظير وكاميرات، وقد تمكنوا فعلاً من التقاط بعض الصور الغريبة التي تظهر فيها أشكال وأجسام غامضة تتجول داخل المنزل وحوله، ثم جاءت المفاجأة الكبرى عندما أعلن بريس أن إحدى المتطوعات وتدعى هيلين استطاعت التواصل روحياً مع شبحين من أشباح منزل موبرلي، كان الشبح الأول يعود لامرأة شابة ادعت أن اسمها هو ماري ليري وزعمت أنها كانت راهبة فرنسية تركت الدير وتزوجت من رجل إنجليزي ثري وانتقلت للعيش معه في إنجلترا وأنه قتلها في عام 1667 وأخفى جثتها تحت قصره، وقد أثبتت السجلات التاريخية القديمة أن شخصاً ثرياً اسمه هنري ويلدكراف كان حقاً يسكن قصراً فخماً في القرن السابع عشر في البقعة نفسها التي بني عليها فيما بعد منزل موبرلي إلا أن السجلات خلت من أي ذكر لاسم المرأة الشبح. وقد أمن هنري بريس أن هذا الشبح هو نفسه الذي رآه العديد من سكان البلدة وشاهدته أربع من بنات هنري بول في حديقة المنزل، وأعتقد أنه للتخلص من شبح الراهبة يجب العثور على بقايا جثتها ودفنها في قبر حقيقي حسب المراسيم والطقوس الدينية المتبعة. 

ولمدة الخمسة أشهر اللاحقة استمرت الاتصالات الروحانية عن طريق هيلين مع شبح الراهبة؛ لكن فجأة في ليلة 27 آذار أ مارس 1938 ظهرت روح أخرى غاضبة كانت الروح الجديدة تعود لرجل بدا في مزاج سيئ، وقال إنه سيحرق المنزل في تلك الليلة من أجل أن تظهر عظام الراهبة المقتولة تحته؛ لكن المنزل لم يحترق تلك الليلة وإنما بعد سنة كاملة بالضبط أي في ليلة 27 آذار أ مارس 1939 فعندما كان المالك الجديد للمنزل يحاول إفراغ بعض الصناديق سقط أرضاً أحد المصابيح النفطية فانتشرت النيران في أرجاء المنزل بسرعة والتهمته. 

وجاءت المفاجأة الكبرى عندما خمدت النيران، حيث تمكن هنري بريس من العثور تحت خرائب المنزل المحروق على عظام بشرية قديمة تعود لفتاة شابة.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا