11. نسيان أرقام الهاتف
قرأت ما كتبته في كتابك السابق (تحليل مائة حالة نفسية) عن فقدان الذاكرة. ولكن مشكلتي أن ذاكرتي سليمة، عدا عن ضعفي في تذكر أرقام الهاتف بشكل محرج، فكيف تحلل حالتي.
سليم. ي
تتعدد الحالات التي تصيب الإنسان ويكون منشئها واحد وأن اختلف التسميات، فآلة نسيان أرقام الهاتف شأنها كشأن الكثير من الحالات التذكرية (الرقمية), ولكن الموضوع له أهميته لك هنا بسبب (واقعة) أو (حادثة) كان نتيجتها نسيانك لرقم الهاتف.
ومن المعروف أن الإنسان يملك نوعين من الذاكرة: القصيرة والطويلة المدى. والمعتقد أن المجموع الكلي للمعلومات التي تختزن في الذاكرة متساو عند معظم الناس. أما الذي يختلف من شخص لآخر فهو نوع المعلومات المختزنة، وتلعب شخصية الإنسان دوراً كبيراً في تقرير مدى هذا الاختلاف، كما تشارك في ذلك اهتماماته وميوله المفضلة وتجاربه وخبراته في الحياة. فمثلاً، يكون لدى شخص ما قدرة فائضة على تذكر المعادلات الهندسية بينما يكون لدى شخص آخر قدرة مماثلة على تذكر المكان الذي تعلق فيه لوحة فنية في متحف عام.
وجلي أن طبيعة كلا الذاكرتين القصيرة المدى والطويلة المدى لم تفهم بدقة إلا قليلاً. أما الرأي العلمي فهو أن الذاكرة القصيرة المدى وعاء خزن مؤقت للمعلومات، تدوم ثلاثين ثانية كحد أقصى، غير إنه يمكن أطالتها بالتكرار، وكثيراً ما حاول علماء النفس تخمين الوظائف المحتملة لنظام غير كفء كهذا. وقد اتفقوا على تحديد ثلاث وظائف لهذا النوع من الذاكرة:
1. يحتاج المرء الذاكرة القصيرة المدى ليتذكر بداية الجملة حتى يصل إلى نهايتها وبذا يفهم معناها.
2. تعمل هذه الذاكرة على طرح المعلومات التي لم تعد هناك حاجة لها لكي يمكن التركيز فيما يتعلق بالانتباه على معلومات جديدة.
3. تفسح وقتاً لاختيار ذكريات معينة ونقلها إلى الاختزان الطويل المدى ثم تنظيمها بينما تنسى المعلومات التي لا حاجة للمرء إليها مستقبلاً.
ومن الأمثلة على عمل الذاكرة القصيرة المدى هو حالتك: فمثلاً تكرار طلب رقم هاتف، أو غيره من المعلومات، يحفظ في نظام الذاكرة القصيرة المدى. ولكن بعد توقف التكرار تضمحل المعلومات وتتلاشى بسرعة ما لم تعمل ترابطات أو تداعي معان تتولى نقلها إلى الذاكرة الطويلة المدى. على أن كمية المعلومات التي تحفظ بالتكرار قليلة كما يتضح من محاولة إنسان استظهار ثلاثة أرقام هاتف معاً. وإذا خزن معلومات جديدة خزنا دائماً أو شبه دائم، وجب نقلها من الذاكرة القصيرة المدى إلى الطويلة المدى بعملية ترابط أو تداعي معان مع معلومات موجودة فعلاً في النظام الطويل المدى.
وفيما يتعلق بالذاكرة الطويلة المدى فإن ما يعرف عنها قليل جداً، ومن هذا القليل أن الفكرة الشائعة عنها غير صحيحة. فالمادة التي تستظهر لا تسجل في الذاكرة على (شريط تسجيل) سمعي أو بصري، كما أن استعادتها لا تكون شبيهة بإعادة أدارة شريط التسجيل. وهذا يتضح لأي إنسان يحاول أن يسترجع من ذاكرته تفاصيل حادثة شاهدها أو شارك فيها قبل عدة سنوات.
إذ أن المرء في محاولته استرجاع الحادثة لا يحصل من ذاكرته الطويلة المدى على تفاصيل الحادثة مرتبة بترتيب حدوثها، بل يحصل على عدد كبير من الترابطات والتداعيات التي تبدو غير ذات علاقة ومن تنظيمها. وفي البداية يحتمل أن يتذكر منحنى تافهاً من الحادثة ثم يتذكر جانباً آخر ليس بالضرورة الخطوة التالية في الحادثة وهكذا.
أن ما ذهب إليه علماء النفس من أن الذاكرة تتألف أساساً من نظامين مختلفين - كما أشرنا - يسهل فهمها لو تخيلت أنك تريد أن تتصل بشخص وصل إلى الوطن من الخارج حاملاً لك رسالة من صديق عزيز وكان قد ترك لك رقم هاتفه وليكن 447036، فإذا اتصلت بالرقم وكان الهاتف مشغولاً فقد تنتظر لحظات ثم تكرر المحاولة مرة أخرى. وإذا كان الاتصال الثاني بعد الأول بأكثر من نصف دقيقة فإن الأغلب إنك، اعتماداً على ذاكرتك، لن تذكر الرقم الصحيح، رغم إنك استظهرته عندما اتصلت أول مرة بأن نظرت فيه مكتوباً على ورقة وكررته لنفسك وأنت تدير قرص الهاتف بالأرقام. وهذا النوع من الذاكرة هو ما أشرنا إليه على إنه الذاكرة القصيرة المدى. والمعلومات المختزنة في هذا النوع من الذاكرة تضعف بسرعة وتتلاشى في فترة قصيرة، ولولا هذا النسيان لامتلأت ذاكرتنا إلى حد الإرباك بالتوافه من المعلومات التي لا نحتاجها. ثم تخيل إنك بعد أن قابلت ذلك الشخص وقرأت رسالة صديقك قررت أن تشرك ذلك الشخص معك في مشروع ما ولذا فإن من المحتمل أن تتصل به هاتفياً في أوقات مختلفة من خارج المنزل أو مكان العمل، عندها تجد من الضروري أن تحفظ الرقم في ذاكرتك بشكل شبه دائم. وحفظ عدد من عدة أرقام بهذا الشكل أمر صعب بالنسبة للكثير من الناس ولحالتك التي تشكو منها. ولذا نرى أن الحل بالنسبة لك ولغيرك يكون في اللجوء إلى نوع من تداعي المعاني أو ترابطها كأن تقول في نفسك يبدأ العدد برقم (4) للدلالة على وجوده مرتين. ثم هناك (7) يليه رقم (0) مرة واحدة ثم (3) يليه رقم (6) - وبذا يصبح الرقم 447036، أو يمكنك أن تجزئه إلى ثلاث مجموعات فهو يبدأ بعدد (44) ثم برقم يزيد (26) عن الرقم الأول (70) والرقم الأخير زيادة عن الرقم الذي وضعناه (26) بعشرة (36). أو أي شكل من أشكال الترابطات. فمثلاً رقم (44) تذكر إنه رقم بيتك و(70) رقم صندوق بريدك أو بريد أخاك و(36) تاريخ زواجك. وبذلك لا يكون لديك صعوبة في تذكر الرقم لا لفترة قصيرة بل ربما لعشرات السنين، لأنك تكون قد اختزنت المعلومات في نظام الذاكرة الآخر وهو الذاكرة الطويلة المدى. وعملية إيجاد ترابطات أو تداع تستعمل كأسلوب رئيسي هام في دروس تنشيط الذاكرة.
وقد قال ليوناردو دافينشي: كل من يعتمد على المراجع في مناقشة الأفكار إنما يعمل بذاكرته لا بعقله.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا