3)
"لقد أرجلت يا أمي"
البدايات دائمًا هي الأجمل، مشوقة وممتعة ومثيرة، كما أنها تظل راسخة في ذاكرتنا ما حيينا بتفاصيلها الدقيقة، مثل قصص الحب الجميلة وبدايتها المحفورة في قلوبنا، وتلك الابتسامة التي تحتل شفاهنا ونحن نسترجع لحظات الحب الأولى بحلاوتها ونغماتها.
بداية شروق الشمس حين ترسل أشعتها تغازل هذا الكون فتبعث فينا حب الحياة، الحياة التي تدب في رحم الأم فتشعر بهذا النهر العذب يتدفق داخلها.. إنها البهجة الخالصة.
بدأت يومي بالصلاة وإعداد فطور بسيط لي ولزميلات السكن، تناولنا ساندويتشات الجبن الرومي التي من الضروري أن تجدها في كل بيت مصري، أتذكر عندما كنت أضعها في رغيف عيش بلدي وأتركها تذوب على نار هادئة وأتلذذ بتناولها مع كوب شاي بالنعناع لذلك قررت أن نبدأ يومنا بنكهة محببة لي.
كان بانتظارنا الباص الخاص بالشركة التي مر على عدة مبان تقطن بها مضيفات جدد مثلنا، انضم لنا ثلاث فتيات سوريات جميلات (صبا ولينا وبشرى), كانت بداية تعارفنا.
كنت أعتقد أن المصريين فقط يتمتعون بخفة الدم كما نردد نحن المصريين، ولكني اكتشفت أنها أكذوبة مثل كثير من الأكاذيب التي يروجها إعلامنا ويصدقها الكثير، تحدثنا عن مصر وسوريا، حينها ساقنا الحنين للوطن، وبدأنا بغناء "حلوة يا بلدي" لطالما عشقت تلك الأغنية، رغم أن بلدي فقدت جمالها من زمان.
دلفنا إلى برج كبير حيث أرشدتنا ماريا التي كانت بانتظارنا، ووجهتنا لإحدى الغرف وطلبت منا الانتظار فيها، بالداخل كان هناك 8 فتيات من الهند يرتدين الساري الجميل، بادرت بالسلام عليهن، وكانت تلك بداية ممارستي للغة الإنجليزية على مدار اليوم.
قد يبدو صعبًا أن نتحدث لغة أجنبية طيلة الوقت، وفعلاً كنت أجد نفسي أركز بشدة لاختيار الكلمات المناسبة للتحدث معهن، ولكن مع مرور الوقت أصبحت عفوية، تمامًا مثل علاقتنا بأي شيء جديد، في البداية نهتم به كثيرًا، وبعد التعود عليه نجد أنفسنا قد فقدنا ذلك الشغف والاهتمام به.
بعد أن دلفنا إلى الغرفة بلحظات دخل شاب وسيم يشبه نجوم الأفلام الهندية، عرفنا بنفسه:
- أنا ساليا من سيريلانكا وسأكون مدربكم لمدة شهر، ستكون هناك اختبارات عدة، ومن لم يقم باجتيازها سيعود لبلدته.
أوليس اختبار الغربة والوحدة بكاف؟!.. يا لها من بداية مشجعة!!
بعد التعارف وأثناء الاستراحة اعترفت للفتيات الهنديات بإعجابي بالأفلام الهندية التي شاهدتها مؤخرًا، حتى الفتيات السوريات أبدين إعجابهن بتلك الأفلام وبدأنا جميعًا بدندنة إحدى الأغنيات الهندية المعروفة التي تقول "أوه ميري محبوبة، محبوبة، محبوبة"، والابتسامة مرسومة على وجوهنا جميعًا وكانت هذه هي الطريقة المثلى لإذابة الجليد وبداية صداقة من نوع فريد.
قام ساليا بتوزيع جدول التدريب علينا وتقسيمنا لمجموعتين؛ مجموعة تبدأ بالتدريب على الأمن والسلامة وأخرى على خدمة متميزة للعملاء (الركاب), حمدت الله أنه تم وضعي أنا ولينا في نفس المجموعة، لا أعلم لماذا، ولكن إنه شعور الارتياح غير المبرر لأشخاص بعينهم.
بعد مرور أسبوعين وفي آخر يوم تدريب على الضيافة أصرت لينا على أن تعد لنا طبقًا من المطبخ السوري، صراحة كنت في شوق لتجربة شيء جديد، ولتقوية صداقتي بها، توجهنا جميعًا لسكنهن، بادرت بشرى بإعداد التبولة، وقامت لينا بإعداد "كفتة حلبي"، كنت شغوفة بتعلم كيفية صنع الكفتة والتبولة؛ حيث إنني وقتها كانت أقصى إنجازاتي هي ساندويتشات برجر بالجبنة.
- بعد أن انتهينا من الغذاء الذي استمتعت به، شممت رائحة شيء يحترق وبدأت في السعال، ناولتني بشرى منديلاً معطرًا قائلة: من هلا وبتكحي، طيب كيف راح تأرجلي؟
كانت بدايتي مع الشيشة، لم أكن من هواة التدخين ولكن الفضول دفعني لتجربة الأرجيلة، ما أطيب رائحتها ولكني ما إن سحبت ذلك النفس حتى شعرت أنني في النزع الأخير، لم أستطع البقاء جالسة، سقطت على الأرض من كثرة السعال والضحك في نفس الوقت، لم أستطع أن أواجه والدتي بفعلتي تلك ولكني أتخيل ردة فعلها الآن بعد أن تعلم.. نعم.. لقد أرجلت يا أمي.
انتهى اليوم بإحساس جميل يداعب قلوبنا المتلهفة على بناء صداقات تقينا من مر الوحدة، يوم واحد كسر الرهبة في قلبي، كانت بداية مبهجة ومشوقة.. هناك من يقول إن البدايات هي عبارة عن نهايات مستمرة، وآخرون قالوا إن البدايات لا تظهر الحقائق إنها فقط القشور.
و أقول أنا: ليت حياتنا كلها بدايات.
(4)
لو كان الخوف رجلاً.. لقتلته
قضينا شهرًا في التدريب على إجراءات الأمن والسلامة والإسعافات الأولية وبعد أن أتممنا كل التدريبات أخبرنا مدربنا بأن علينا السفر لدبي لاجتياز الاختبار والحصول على رخصة الطيران الدولية، أثناء حديثه التفت وأشار إلى لوحة معلقة خلفه وهو مبتسم ابتسامة شيطانية..
اللوحة مرسوم بها طائرة تغرق وسمك القرش بالأسفل في انتظار الضحايا، وكأنه يتنبأ لنا بهذه النهاية، كان من الأشخاص الذين يمتصون منك طاقتك الإيجابية ويبث في روحك الشعور بالضيق والاختناق.
كم كرهت محاولاته لزرع الخوف داخلنا من فكرة الفشل والعودة لبلادنا، ومن فكرة السقوط في المحيط ومواجهة أسوأ مخاوفنا التي كنت أستشعرها كلما نظرت لتلك اللوحة التي ذكرتني بفيلم ة"ىپِن واتِر"ة إنه الكابوس اللعين الذي ظل يراودني طوال سنين عملي وأسوأ مخاوفي.
ينصح الكثير من أطباء علم النفس بأن نواجه مخاوفنا ومعالجة أنفسنا من الرهاب من أشياء قد تكون غير حقيقية.
عن الخوف كتب أرسطو: "الخوف ألم نابع من توقع الشر".
في الظلام أيضًا أشعر باختناق شديد يملأ صدري وكأن هناك من يسحب مني شريان الحياة وينزعه مني نزعًا، إنه الخوف من الظلام، الخوف بشتى أشكاله الذي يتملكنا جميعًا، الخوف من المجهول ومن أن نبدأ حياة جديدة، الخوف من الفقد، الخوف من أن تنهي علاقة فاشلة ومن الدخول في علاقة جديدة، الخوف على الرزق والحبيب والأهل والوطن، الخوف من المرض والشيخوخة وظلمة القبر.. الخوف من الله.
الخوف الذي جعلني أعتاد النوم تاركة باب غرفتي مفتوحًا في محاولة للشعور بالأنس والذي كان سببًا في كشف رفيقة سكني على حقيقتها عندما لمحتها في إحدى الليالي وهي تعيد كارت البنك الخاص بي في درج الكوميدينو بجوار سريري حيث كنت أحفظه هناك ومعه الرقم السري، بعدها ذهبت لأتفقد حسابي وتأكدت أنها سحبت منه 1000 ريال، لم أواجهها وقررت أن أعطيها فرصة أو يجوز لأني لأول مرة أقع في موقف كهذا فآثرت تجاهله.. عدم الخبرة يجعلنا نخطئ في حق أنفسنا أحيانًا.، للأسف ثقتي كانت بغير محلها، والدرس الأول لي في الغربة "ألا أثق بأحد".
كنت أعالج نفسي الخائفة بتشتيت أفكاري سواء بالحديث مع لينا عن خطيبها المولع حبًا بها أو بدندنة بعض الأغاني المحببة لقلبي، كم كنت أحسد لينا على تلك العلاقة الجميلة التي كنت أشاهدها في الأفلام فقط، كم من مرة ذكرت لها ذلك وكانت تستقبل كلامي بابتسامة جميلة وبدعوة لي أن أعيش تلك الحالة من الهيام.
هي الأخرى كانت دائمًا خائفة من أن تفقد حب خطيبها لها بسبب البعد ومرددة: "البعيد عن العين بعيد عن القلب"، البعد قادر على أن يقتل إحساس الحب والشوق، كم من قصص حب انتهت بسبب البعد، كان الخوف من خسارة حبيبها يدفعها لمحادثته يوميًا صباحًا ومسًاء، وكانت متعتي الاستماع لحوارهما الجميل باللكنة السورية الرقيقة.
في طريقنا لدبي وبعد صعودنا الطائرة، التفت لنا مدربنا قائلاً: أريد منكن ملاحظة طاقم الضيافة وهن يقمن بتأمين الطائرة وتقديم الوجبات، أريد منكن تقييمهن.
طاقم الضيافة كان مهتمًا جدًا بنا وبتقديم شتى الخدمات، ولكني لاحظت تلك الابتسامة الصفراء على وجوههن ونظرة مرتعشة في عيونهن، إنه الخوف، الخوف من مدربنا الذي يشكل لهن مصدر تهديد، فهو يراقبهن مثلما يراقب الصقر ضحيته، وكأنه يتلهف للانقضاض عليهن، للأسف تمتلئ الشركات والمؤسسات بتلك الشخصيات القاتلة للروح، التي تسحب منك كل طاقتك الإيجابية وتحولك لكائن ميت تقوم بكل شيء دون متعة، شخص تعيس خائف من فقدان مصدر الرزق.
وصلنا لمبنى الطيران وبدأنا الاختبار بر كوب طائرة "سيميليتور" مثل ألعاب 3D، حيث ظهر فجأة دخان كثيف والكل صرخ من الخوف وقف المدرب وبدأ في توضيح كيفية التحرك في وجود دخان والتنفس من خلال ملابسنا وكيفية فتح الباب في حالة الطوارئ وإخراج الركاب ومحاولة إنقاذهم جميعًا.
شعرت بالاختناق الشديد وخيل لي أني سمعت دقات قلبي، تملكني الخوف بشدة، كانت حركة الطائرة كأنها حقيقية والأفكار كلها في عقلي تدور حول ماذا لو حدث هذا بالفعل!
بالتأكيد لن أستطيع التحرك من مكاني، لن أتذكر كل تلك التعليمات ولن أهتم حتى بتذكرها، عندما يكون الخوف هو سيد الموقف لا تسألني ماذا سأفعل، الخوف يشل تفكيرنا ونتصرف دون وعي في محاولة للبقاء حتى لو على حساب الآخرين، "ومن الخوف ما قتل".
بعد عودتنا للمنزل فاجأتني "نغم" بقرار عودتها إلى مصر، لم تستطع نغم التغلب على شعور الوحشة والوحدة، خوفها من البعد والوحدة أثر على حالتها النفسية، لم تكن سعيدة ولم تشاطرنا لحظات جنوننا، كانت منزوية دائمًا وكنت أخشى أن أثقل عليها باقتحامي خلوتها، لكن من الواضح أنها كانت تحت تأثير الخوف الذي جعلها تدرك أن الحياة أقصر من أن نعيشها بعيدين عن أحبائنا، آثرت العودة للحضن الآمن الذي يقيها من الشعور بالخوف من الغد ومن المجهول.
خلال شهر كانت نغم قد رحلت ووصلت رفيقة السكن الجديدة حفصة من المغرب، كنت متشوقة لمقابلتها، لم تكن الغربة أثرت في بعد، ولكن الوحدة ملأت صدري فأيقنت أنه من الصعب الشعور بذلك الدفء الأسري مرة أخرى، ولكن ممكن أن نتعايش في وجود أرواح نتآلف معها.
أتذكر بداية تعلمها اللهجة المصرية وكيف كانت تصمت لبرهة أثناء حديثنا حتى تستطيع تكوين جملة كاملة باللهجة المصرية، كانت تفهم نكاتي وتضحك عليها وكنت أحاول جاهدة فهم لهجتها المغربية، حتى أصبحت أجيد الهدرة المغربية.
وأتذكر أيضًا يوم أن أخذتني معها لمقهى الإنترنت وعلمتني كيفية إنشاء حساب إلكتروني، نعم كانت هي معلمتي التي لن أنسي فضلها علي، تجربة جميلة محفورة في قلبي وذاكرتي بمواقف كثيرة مررنا بها، عادة تنتهي بضحك هستيري وتناول قطعة من الكنافة النابلسي تلك الحلوى الشامية التي أهواها، كم أشتهيها الآن مع "كاسة" شاي وجلسة من جلساتنا الممتعة.
لم أجد صعوبة في بناء علاقة صداقة قوية معها أعتز بها حتى الآن، كانت أرواحنا متشابهة، فالعيب عندنا واحد والمسموح معروف حدوده، تحب الموسيقى ونتعبد خاشعين في بيت الله، هي سبب حبي للمطبخ المغربي.
كانت حفصة مختلفة عن الفتيات المغربيات حتى في أحلامها، فمعظمهن يأتين للخليج على أمل اصطياد عريس يغمرها بماله، ولكن حفصة كان هدفها الهجرة لكندا واستكمال دراستها هناك وكان عليها توفير مبلغ كبير من المال حتى يتسنى لها الحصول على التأشيرة.
كانت رحلة التدريب الأولى إلى لاهور، والتي تعد ثاني أكبر المدن في باكستان، المسافرون من تلك البلدة عادة مسالمون ومهذبون، معظمهم من طبقة العمال الكادحة التي تظهر في قسمات وجوههم الطيبة والسماحة، والفقر.. أكثر ما أثر في سلبًا هي نظرة بعض الزملاء لهم، كانت نظرة تعالي ودونية تلك النظرة التي لا أطيقها، وطريقة وضع الطعام أمام الراكب دون خيارات وكأنه مجبر على قبول أي شيء يوضع أمامه، بالإضافة إلى النكات السخيفة عن رائحتهم وطريقة أكلهم، تحدثت مع مشرفة الرحلة عن عدم تقبلي لتلك الطريقة، أجابتني مبتسمة، بأنها رحلتي الأولى، وأنه مع الوقت وكثرة الرحلات والتجارب ستختلف نظرتي لاحقًا وقد أفعل مثلهم، هي مسألة وقت فقط.. تمنيت ألا تختلف نظرتي قط.
في الرحلة الأولى يسمح لنا بالجلوس في كابينة القيادة، احتفاء بنا على متن الطائرة، وكانت من أروع التجارب، دلفت داخل الكابينة، استقبلني الكابتن بكوب صغير من المكسرات التي يتم تقديمها لهم بين حين وآخر، روحه الجميلة جعلت تجربتي الأولى في الطيران لا تنسى.
أقلعت الطائرة، وبدأ قلبي ينبض بسرعة، إنها رهبة التجربة الأولى، وجدت نفسي أحلق بين السحب، حاولت أسترق السمع لعلي أسمع دعوات الآملين والتائبين، ولكنني سمعت لحنًا جميلاً عزفته دقات قلبي فرحًا ورهبةً في آن واحد... هنا ترتفع الأدعية، وهنا حلقت ولامست أحد أحلامي.
هل سأشعر بنفس الرهبة مرة أخرى أم للتجربة الأولى سحرها!.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا