حفار القبور 6 للكاتبة ليلى الرباح

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2021-11-22

– لا أعلم، ربما حفره الكلب!

لقد أصبح يكذب الآن بسهولة وبدون أن يرتبك أو يرتجف صوته، فقد أتقن أخيراً ما يتقنه أهل بلده من خبث بالسليقة وما كان سائق التاكسي ذاك يتفاخر به..

  • لمن هذا القبر؟

وكان بالطبع يعلم لمن، لكنه استمر بالتظاهر بالجهل والبراءة:

  • لا أدري، دعني أرى! وتظاهر بقراءة الرقم المكتوب علي لوح خشبي صغير بجوار القبر، فلم يكن لذلك القبر شاهد.
  • أظن أنها الفتاة التي ماتت قبل يومين في حادث السيارة!
  • أتعني تلك التي جئت تكلمني عن مدى تشوه وجهها؟
  • أجل! أجل! أظن أنها هي بالذات!
  • وما الذى جعل ذلك الكلب يختار قبر هذه المسكينة؟ فقد دفنا بعدها عدة أموات منذ الأمس، ربما لم تحسن تغطية القبر لفزعك من منظر وجهها!

تظاهر بالجزع من ذلك الاتهام:

  • بلى يا سيدي! لقد غطيتها تماماً يا سيدي! لقد أتممت عملي كما يجب وكما أفعل دائماً يا سيدي!

ودفع ببعض الدموع إلى عينيه ثانية:

  • انظر إلى كوم التراب الذي أزاحه ذلك الكلب فلو أني لم أحسن تغطية القبر لما استغرق هذا الوقت للحفر دون أن يصل إلى جسدها!

وأكمل وقد بدأ بالنشيج وترك بعض الشهقات تقطع كلماته:

  • لو أني لم أسمع زمجرته ولم أخرج حاملاً رفشي لأستطلع الأمر فمن يدري ماذا كان سيفعل بجثة تلك الفتاة المسكينة! كأن ما حدث لها لم يكن كافيا!

استمر بالكلام وقد اندمج في أداء دوره حتى كاد يصدق نفسه:

  • لقد أردت أن أبعدها الله يعلم أني حاولت أقسم بالله العظيم أني حاولت! أقسم بالله العظيم أني حاولت بكل جهدي! ولكني فزعت رغماً عني لمنظره المرعب وفررت ألم تر كيف كان غاضباً علي وكيف حاول تمزيقي! ولولا حضورك وإنقاذك لي لربما كان قد تمكن من ذلك!

 واستغرق في البكاء والنحيب وقد ترك الدموع تغرق وجنتيه..

 رق قلب الحارس وعاوده الشعور بالذنب «يا لقسوة قلبي! ألم يكفني أني بإهمالي قد تسببت بإفزاع هذا المسكين حتى أتهمه أيضاً بالتقاعس في أداء وظيفته!»

وبقي الحارس صامتاً للحظات وهو مستغرق في التفكير، فيما انهمك الحفار في البكاء وهو ينظر للحارس بطرف عينه بين الفينة والأخرى منتظرا أن يقطع صمته ويقول شيئاً ليعلم هل صدقه أو لا..

  • لا ريب إذن أنها لم تغسل جيداً أجل! لابد أن من قمن بتغسيلها لم يحسن الغسل! ربما فزعن لرؤية وجهها كما فزعت أنت، وربما أكثر، إذ لا بد أنما حل بجسد هذه المسكينة كان بلا شك أسوأ مما حل بوجهها، ولهذا فقد غسلنها بعجلة ولم يتقن عملهن!

وأكمل الحارس كلامه وقد بدا قانعاً بالاستنتاج الذي توصل إليه، فيما بقي الحفار صامتاً وهو يحس كأن هماً ثقيلاً كان ينزاح عن كتفه رويداً رويداً مع كل كلمة من كلمات الحارس:

  • لهذا هاجم الكلب هذا القبر بالذات! فلا بد أنه اشتم رائحة الدم الذي لا زال عالقاً بتلك المسكينة؛ أجل لا بد أن هذا ما حدث!
  • هيا! كف عن البكاء كالنساء وأعد هذا القبر كما كان!

قال الحارس أخيراً للحفار بصوت حاول أن يجعله حازماً، ولكن الحفار استطاع بخبثه أن يستشف نبرة الحنان التي حاول الحارس إخفاءها بقسوة كلماته..

تظاهر بأنه يمسح دموعه فيما كان مستمراً في النشيج، وأمسك رفشه وأخذ يردم القبر كما كان وقد ترك الحزن المفتعل يبطئ حركاته حتى ابتعد الحارس عن نظره، وعندها نفض باقي الدموع من عينيه وأتم عمله بعجلة وجرى إلى غرفته مسرعاً.

لقد نجا مرة أخري! كان يحدث نفسه وقلبه يكاد يطير من الفرح، لقد نجا ولم يترك تمثيله المتقن أي ذرة من الشك في قلب الحارس، و استلقي في فراشه وغطى جسده المقرور بالغطاء الصوفي وهو يبتسم بسعادة...

ولكن ما كاد الدفء يسري في جسده حتى تذكر ما كان قد خرج لأجله، وتلاشت فرحته بالنجاة عندما إلي ذهنه ما خسره..

ضرب الفراش بقبضة يده غاضباً، فلولا ذلك الكلب لتمكن من قضاء الليلة مستمعاً بذلك الجسد الفتي، وها هو الآن وحده وقد عاد جوع جسده يقض مضجعه وهو يرتجف من البرد، وقد ضاعت للعبث بذلك الجسد هذه الليلة، بل وربما إلي الأبد، فلا بد أن الحارس سيشدد من قبضة حراسته بعدما حدث الليلة، ومن يعلم، فلربما تمكن من أقناع الموظف بالبدء في ترميم السور بسرعة لتمتلئ المقبرة بالعمال في الأيام القادمة...

وتقلب فراشه والغيظ يتآكله، فلن يتمكن من لمس ذلك الجسد البديع لفترة طويلة، ومن يعلم ماذا سيحدث للجسد بعدها، فقد كان يعلم بخبرته أن كل ذلك الجمال سيتلاشى ويفني، وسيأكل الدود ذلك الجسد الغض قبل أن تسنح له الفرصة للاستمتاع به.

حاول تعزية نفسه بأن سرعة فناء الأجساد تتفاوت من جسد لآخر، ربما كان محظوظاً و بقي ذلك الجسد الذي يشتهيه محتفظاً بجماله لفترة أطول، وخاصة أن الجو في هذا الفصل بارد جداً وقد تحفظ البرودة الجسد بوضعه الذي دفن به لبضعة أيام.

وغلبة النعاس وهو يتمني أن تمتلأ السماء بالغمام في الأيام القادمة ويهطل المطر حتى تحجب الغيوم حرارة شمس هذا البلد المحرقة في كل فصول السنة، ثم عاد وتذكر أن هطول المطر قد يعطل أعمال الترميم للسور وبذلك سيبقى العمال فترة أطول قد يتعفن خلالها جسده المنشود، وتلاطمت الأمنيات المتناقضة فيرأسه فلم يعد يدري ما يتمنى وهو يستسلم للنوم.

كان موظف المقبرة ينفخ بتأفف وسأم، فلم يتوقف الحارس الصامت عادة عن الكلام منذ الصباح الباكر إلا لالتقاط أنفاسه، وأخذ يعيد بتكرار ممل إخباره عن ما حصل ليلة أمس وعن ضرورة البدء بتصليح السور فوراً، بل إنه استدعى الحفار ليشهد بما حدث في الليلة الماضية، وبالطبع كانت دموع الحفار تسبق كلماته كما هو معهود من أهل بلده الذين يسارعون بالبكاء لأدنى سبب متظاهرين بالذل والمسكنة.

  • لا أستطيع: ألا تفهم؟ هناك إجراءات عديدة يجب إتباعها!
  • ألا يمكنك التغاضي عن هذه الإجراءات؟ فالموقف لا يحتمل التأجيل! قال الحارس بإصرار..
  • ليس الأمر بيدي، فعلي الحصول على موافقة الوزارة، ويجب أن يأتي موظف مختص للمعاينة، ثم يتبعه مهندس بناء لتقدير حجم الخراب وكم سيتكلف إصلاحه، وبعدها يحول الموضوع إلى اللجنة المالية لاعتماد تقرير المهندس، ثم طرح العطاءات لاعتماد الشركة التي ستتولى القيام بأعمال الترميم..

واستكمل كلامه ببرود : - هذه الإجراءات قد تستغرق أسابيع وربما أشهر، ومن يدري؟ ربما تكون هناك إجراءات أخرى لا أعلمها قد تستغرق وقتاً أكثر..

فزع الحفار وهو يحس بأن أمله بنيل ذلك الجسد يتلاشى أمام عينيه، وليس هذا فقط، فلا بد أن الحارس سيربض قرب ذلك السور كما فعل بالأمس حتى يتم إصلاحه، وبذلك لن يتمكن من تنفيذ الأعمال التي توكله بها صديقاته الساحرات لفترة طويلة، ولربما سئمن من انتظاره وتوجهن إلى مقبرة أخرى وجف معين الأموال التي كانت تتدفق عليه منهن.

وجالت الأفكار السوداء في رأسه، كيف سيستكمل بناء بيته، ومن أين سيدفع لأبيه الذي لا تنتهي طلباته، وماذا عن زوجته التي دفع حتى الآن الكثير من المال لعلاجها ولازالت إلي المزيد حتى تتعافي...

وأخيراً قرر أن يستجمع شجاعته ويتكلم، وابتلع ريقه بصعوبة وهو يحاول أن لا يتلعثم:

  • سيدي..

قاطعه الموظف صائحاً:

  • ماذا تريد أنت أيضاً؟

ارتجف من الخوف، فلم ينس بعد الصفعة التي تلقاها من ذلك الموظف ولا البصقة التي تبعتها عندما تدخل في ما لا يعنيه، ولكنه حاول التغلب على خوفه وعاد إلى الكلام متسلحاً بقناع من الذل رسمه على وجهه:

  • سيدي! ألم يخبرك الحارس؟ لقد حاول الكلب بالأمس نبش أحد القبور الحديثة، ولولا أني سمعت صوتاً وخرجت لأرى ما يحدث لتمكن من تمزيق جثة المتوفية، ولكن الحارس الشجاع تمكن من إبعاده في الوقت المناسب...

قاطعه الموظف وقد جحظت عيناه من الغضب:- ماذا تقول ؟

ثم توجه بنظره إلى الحارس:

  • هل هذا صحيح؟ هل حاول ذلك الكلب فعلاً نبش أحد القبور؟ لماذا لم تخبرني؟

  أحني الحارس رأسه، فقد تعمد أن يتغاضى عن ذكر ذلك الجزء مما حدث حتى لا يعرض نفسه للوم والاتهام بالتقصير، إذ اعتقد أن مجرد تمكن الكلب من الدخول للمقبرة وتهديده لحياة الحفار سيكفي لإقناع الموظف...

  • أجل هذا صحيح!

قال أخيراً باستسلام، وقد قرر أن المحافظة على مقبرته العزيزة وعلى سلامة الأجداث التي أوكل بحراستها أهم من الحفاظ على وظيفته..

  •  لماذا لم تخبرني؟

كرر الموظف والغضب يصبغ وجهه بالاحمرار.. : - وأين كنت أنت؟

  • كنت نائماً، فقد حدث ذلك بعد منتصف الليل..

قال الحارس وهو لا زال يحني رأسه..

  • وهل ظننت أن عملك ينتهي عند منتصف الليل أيها الكهل الغبي؟ ألا تعلم أن أهم ما في وظيفتك هو حراسة المقبرة ليلا؟ ففي النهار تعج المقبرة بالزوار وعمال النظافة وبأهل المتوفين والمعزين، ولا تحتاج المقبرة للحراسة إلا بعد مغيب الشمس وخلوها من الناس!
  • لكني أحرس المقبرة منذ سنين طويلة ولم يحدث يوماً أمر كهذا!

قال الحارس وهو يغالب دموعه، فقد أحزنه أن يهان بهذا الشكل وهو في هذه السن الكبيرة، وخاصة أن ذلك يجري أمام الحفار الذي كان دائماً يحدثه باحترام ويهابه ويخشاه، واستمر الموظف في الصراخ والحارس يحس أن كرامته تتمزق أكثر في كل لحظة..

ولكن الحفار لم يكن معنياً في تلك اللحظة بكرامة الحارس، فقد أقلقه تصاعد الأحداث وخشي أن يفقد الحارس عمله ويتم استبداله بآخر، وما يدريه كيف سيكون ذلك الحارس الجديد؟ فلربما كان شاباً نشيطاً وأفسد عليه الحرية التي يتمتع بها الآن في التجول ليلاً بين المقابر ونبش أي قبر يشاء.. وقرر أن يخاطر مرة أخرى بمخاطبة الموظف:

  • سيدي لا ذنب للحارس فيما حدث! فقد خاطبك عدة مرات لتقوم بإصلاح السور ولكنك لم تفعل شيئاً!
  • اخرس! إياك أن تفتح فمك هل فهمت!

قال الموظف والشرر يتطاير من عينيه وقد حول غضبه إلى الحفار..

ورغم خوفه فقد أحس الحفار وهو ينظر إلى عيني الموظف بأن غضبه كان نابعاً من خشيته أن يحمله رؤساؤه جريرة ما حدث، فتشجع للاستمرار في الكلام، واقترب من الحارس المسن وأحاط كتفه بذراعه متظاهراً بالتعاطف معه، وكاد يفتح فمه عندما فاجأه الحارس ودفعه بعيداً بلا شعور فقد كان يكره أن يلمسه احد...

اقترب الحارس من الموظف وواجهة ويحدق في عينيه بلا خوف، فقد ذكره ما قال الحفار بأنه لم يقصر في أداء وظيفته وليس لديه ما يخجل منه:

  • هذا صحيح! لقد كلمتك عدة مرات ولكنك تجاهلتني! ولو أنك قد قمت  بواجبك وأبلغت المسؤولين عما حدث للحائط حين أخبرتك قبل شهور عديدة  لما وصل الخراب به إلى هذا الحد!
  • كيف تجرؤ أن تقول لي هذا؟ أنا لم أقصر يوماً في واجبي! فقد أبلغت المسؤولين بكل ما حدث في حينها، وجعلتهم يحضرون الشرطة للتحقيق فيما حدث لتلك المتوفاة المسنة التي أخبرتني أنك وجدت جثتها ممزقة!
  • أعلم هذا! لكنك لم تفعل شيئاً لإصلاح الحائط!
  • بلى! لقد فعلت كيف تظن إذن أنني أعرف كل الإجراءات المطلوب اتخاذها؟ لقد بحثت واستفسرت وحضرت جميع الأوراق المطلوبة، ولكني أوكلت للموظف الذي كان سيحل محلي استكمال تلك الإجراءات إذ كان موعد إجازتي السنوية قد حل، ولم تحدثني أنت عن هذا الموضوع بعدها فافترضت أن كل شيء قد تم!

تدخل الحفار في الحديث مرة أخري متشجعاً بصمت الحارس و بخفوت وتيرة الغضب في صوت الموظف:

  • سيدي! لا يهم الآن من المسؤول عما حدث، فيمكننا ببساطة أن نحبر المسؤولين عن المقبرة أن المطر الشديد هو ما تسبب فيما حدث للحائط...

أيد الحارس ما قاله الحفار:

  • هذا صحيح، فقد كان الخراب بسيطاً في ذلك الحين واقتصر على تحرك بعض حجارة السور من مكانها، ولولا غزارة الأمطار التي هطلت في هذا الشهر لاستغرق الأمر عدة سنوات ليصل الدمار إلى ما وصل إليه الآن..
  • حسناً! إذن هذا ما سنخبر به المسؤولين !
  • لكن لا زال عليك أن تفعل كل ما يمكنك لتسريع الإجراءات! فماذا سيحدث لو جاء ذلك الكلب مرة أخرى، أو إذا جاء غيره؟ لقد تمكنت من طرد هذا، ولكن ماذا لو تجمعت الكلاب وهاجمت المقبرة في وقت واحد؟ فالمقبرة واسعة ومترامية الأطراف كما تعلم! ولن أتمكن وحدي من حراستها والسور بهذه الحال!

وعاد الحفار للحديث مستغلاً ما كان يعتبره نقطة الضعف التي تعلم بخبرته أن أهل هذا البلد لا يتمالكون أنفسهم أمامها، وهي قوة إيمانهم:

  • سيدي أليس حراماً أن نترك هؤلاء الموتى المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة نهباً للكلاب الجائعة لتعيث في أجسادهم العاجزة فساداً؟ إن الله سبحانه لا يرضى بهذا!

خفض الموظف رأسه مستسلماً، وأخذ يبحث بين الأرقام الموجودة في هاتفه حتى وجد الرقم الذي كانت لديه تعليمات مشددة بعدم استخدامه إلا للضرورة القصوى، فقد اقتنع أن الوضع يتطلب تجاوز رؤسائه المباشرين والتوجه مباشرة إلى من يستطيع اتخاذ قرار سريع متجاوزا كل الإجراءات الروتينية المعتادة:

  • سيدي الوزير؟ السلام عليكم، أنا الموظف المسؤول عن مقبرة....

وابتعد الموظف عن مرمى بصرهما وهو مستمر في الحديث وشرح الموقف، وتنهد الحفار بارتياح، لقد ضمن بقاء وضعه على ما هو عليه، ولن تمر عدة أيام حتى يتم إصلاح السور ويأمن هجوم ذلك الكلب أو سواه، ولا بد أن الحارس سيعود بعدها إلى، موعد نومه المعتاد ويتمكن هو من أن يجول في المقبرة كما يشاء ..

  لقد فقد الفرصة ليتمتع بذلك الجسد، ولكن لا بأس ستكون هناك أجساد كثيرة غيره، ربما لن تكون بجمال جذعه المذهل، لكنها بالتأكيد ستكون سليمة الأطراف والوجه، وسيجد متعة أكثر في لمسها وتحسسها والعبث بها كما يشاء دون أن يفزعه منظر وجه ممزق كذلك الوجه.

وقبل أن ترتفع شمس الظهيرة لذلك اليوم كانت المقبرة قد امتلأت بالعمال، ولعدة أيام بعدها كان الحفار يتسلى بمراقبة العمال خلال عملهم، وكالعادة لم يرغب أحد منهم بمحادثته ولكنه لم يكترث، فقد أعجبه منظر خلاطة الإسمنت التي كانت تدور باستمرار وهي متوقفة خلف الجانب الآخر للسور وكان لا يمل من مشاهدتها..

وكان مفتوناً بصرخات العمال المستمرة التي كانت تعكر هدوء المقبرة، فقد بدا أن هؤلاء العمال يستعينون بالصراخ بدل الحديث، كان يحاول تعلم كلماتهم ويكررها وراءهم حتى صاح به أحدهم ظاناً أنه يستهزئ بهم، ولكنه استعان بالابتسامة البلهاء التي تمرس الآن على رسمها على وجهه حين الحاجة ليقنعهم بحسن نيته..

وتوقف العمال بعدها عن نهره كلما اقترب منهم، وخاصة أنه كان يحضر لهم الشاي ويجرى لمساعدتهم في وضع الأحجار الثقيلة مكانها دون أن يطلب أحد منه ذلك، فقد كان يريدهم أن ينتهوا من عملهم ويرحلوا بأسرع وقت، بينما ظنوا أنه يفعل ذلك لطيبته وسذاجته.

وقبل أن ينتهي الأسبوع كان العمل في السور قد انتهى وعاد إلى سابق عهده، ووقف مع الموظف والحارس يتأملون بسعادة الحائط الجديد، ولكن لا أحد كان بسعادته، فالآن سيخلو له الجو بعد أن تعود المقبرة إلى هدوئها الذي اشتاق إليه.

وكما توقع فقد عاد الحارس بعد إصلاح السور للنوم في موعده المعتاد وأصبح يتجول بعدها في المقبرة كما يشاء.

ودفعه الفضول يوماً لنبش قبر تلك المتوفاة الشابة ليرى ما حل بجسدها، وكم كانت خيبة أمله عندما كشف الكفن عنها، فقد تحول ذانك النهدان البارزان المتحديان إلى ما يشبه بالونين خاويين من الهواء، وتدليا على جانب جسدها ولم يشعر عند لمسهما إلا بالنفور يغمر نفسه، فقد كان ملمس جلدهما المترهل البارد مثيراً للاشمئزاز.

أما ذلك البطن المستوي المسطح فقد انتفخ وضاعت الحدود التي كانت مرسومة رسماً بين خصرها ووركها، وهزل فخذاها الممتلئان كأنما كانا منفوخين بالهواء وتم إفراغهما، ونظر إلى وجهها ليستكمل خيبته فقفز فجأة مرعوباً فقد ظن أنه رأى عينيها تتحركان، ودقق النظر بعد أن هدأ فزعه ليرى أن هناك دودة تتجول داخل حدقتيها.

أعاد ردم القبر وهو يتأسف بشدة على ذلك الجسد الذي ضاع هباء منثوراً وتحول إلى جيفة نتنة دون أن يستمتع به، وأخذ يلعن نفسه لتردده في نبش القبر منذ اليوم الأول وتضييعه لتلك الفرصة.

تعود بعدها أن ينصت باهتمام أكثر من المعتاد عندما يخبره الموظف بعدد القبور المطلوب حفرها للمتوفيات من النساء، وكان يسأل عن أعمارهن متصنعاً الحزن والأسى عندما يكن صغيرات في السن، ولكنه منذ رأى تلك الجيفة المقرفة كان قد فقد الرغبة في لمس الميتات أو نبش قبور أحد منهن.

وحتى من تم دفنهن حديثاً لم يكن قد وجد الجرأة بعد للاقتراب من قبورهن، واكتفى بأحلام اليقظة التي كان يسلي بها لياليه، والتي كان يتخيل فيها أجساد المتوفيات الشابات جاعلا جميع تلك الأجساد كذلك الجسد الذي لم ير في حياته أجمل منه.

وكان قد حاول عدة مرات أن يحوم بالقرب من غرفة تغسيل النساء منتظراً أن تستدعيه تلك المغسلة ليساعدها مرة آخري، ولكن ذلك لم يحدث، وخاب أمله فقد عاد جوع جسده يلح عليه في لياليه الخاوية، وكان يأمل أن يرى ما يستعين به خياله ليشيد تلك الأحلام ويجدد فيها.

وانتبه خلال جولاته الخائبة قرب تلك الغرفة لوجود نافذة طويلة أعلاها، حاول مرة في ظلام الليل أن يستكشف ما يمكنه رؤيته منها ولكنها كانت عالية جداً، وهداه تفكيره إلى الاستعانة بالأحجار التي تركها العمال خلفهم للوصول إليها.

أخذ ينقل الأحجار بحذر يوماً بعد يوم، وفرق تلك الأحجار قرب الحائط وباعد بينها حتى لا يشك أحد بسبب وجودها، جرب أن يرصها فوق بعضها عدة مرات حتى توصل إلى العدد الذي يمكنه من رؤية ما يدور في تلك الغرفة دون أن يراه أحد، وكان يحرص على إعادة تفريقها بعد أن ينتهي حتى لا يثير منظرها انتباه أحد من الموظفات أو أهل المتوفيات.

والآن أ صبحت المعلومات التي يمده بها الموظف دون أن يقصد ثمينة أكثر، فقد كان يتسلل بهدوء في الفجر ليشبع نظره برؤية أجساد المتوفيات الشابات اللواتي يتم تغسيلهن في ذلك الوقت ليتم دفنهن صباحاً، فقد كان هذا هو الوقت الوحيد الذي يضمن فيه أن لا يراه أحد.

وأدمن تلك المتعة المريضة حتى اضطرته قلة عدد المتوفيات الصغيرات في السن إلى خفض معايير الجمال لديه، وأصبح يتخذ مكانه عند تلك النافذة حتى لو كانت المتوفاة قد جاوزت سن الشباب، ولسعادته فقد اكتشف أن بعضهن كن يحتفظن بجمال أجسادهن حتى بعد تجاوزهن للخمسين، وخاصة إذا لم يسبق لهن الحمل والولادة ولم يمتهن الأطفال أجسادهن ويفسدوا أثداءهن.

ولا بد أن ذلك الحفار كان أحد السعداء القلائل بانتشار العنوسة في ذلك البلد، فقد كانت هنالك العديد من المتوفيات العوانس اللواتي تجاوزن سن الشباب وتجعدت وجوههن فيما ظلت أجسادهن مشدودة وفتية نسبياً، وكان هذا يهمه فلم تكن تعنيه الوجوه، بل كان الجسد هو كل ما يشتهي النظر إليه.

ومع الوقت لم يعد النظر يكفيه ولم تعد أحلام اليقظة تفيده، وعاد شيطان شهوته يزين له فتح القبور وافتراس الأجساد المدفونة فيها، حتى استسلم لشيطانه في أحد الليالي الحارة فتجرأ على نبش قبر إحدى المتوفيات التي كانت في الأربعين من عمرها، كان قد راقب المغسلات وهن يغسلنها في فجر ذلك اليوم فسلب عقله منظر جسدها الممتلئ وصدرها العامر..

هجم على ذلك الجسد ما إن وصل إلى الكفن، ولم تفلح برودة ذلك الجسد العاجز ولا جمود أطرافه وتصلبها في ردعه، وكم كانت فرحته عندما وجدها عذراء، إذن هكذا يكون شعور من يحصل على عذراء، ولم يضطر للزواج ولا دفع المال لرجل كذلك الذي قتله ليحصل عليها ..

وخرج من القبر والابتسامة ترتسم على وجهه وهو يهنئ نفسه، كم هو محظوظ بعمله، واعتاد بعدها أن يسأل الموظف متظاهرا بالحزن عما إذا كان للمتوفاة أولاد متأملاً أن يفوز بعذراء أخرى، وقادته فطنته التي خلقها خبثه وطول الفترة التي قضاها في العبث بأجساد الموتى دون عقوبة إلى السؤال أحياناً عن عدد أولاد المتوفين من الرجال أيضا حتى لا يشك الموظف بأمره.

كان يحرص على انتقاء ضحاياه بعناية ويترك فترات كافية بينهن يجلس فيها في غرفته بهدوء، فقد كان الحارس يتجول أحيانا في المقبرة قبل أن يخلد للنوم بعد تلك الحادثة، فكان يتظاهر بالاستغراق في النوم فور أن يراه قادما وربما حتى تصنع الشخير، وكان يتعمد ترك ستارة نافذته مفتوحة ليضمن أن الحارس قد رآه.

واكتشف مع الوقت أن الأجساد الطازجة التي تدفن بسرعة تبقى صالحة لفترة أطول، فقد كان أفضلها من تدفن في نفس يوم مماتها، ويا حبذا لو تم الدفن عصرا ليسعد هو بالحصول عليها ما أن ينتصف الليل، أما الأجساد التي تصل المقبرة مجمدة بعد وضعها في ثلاجة الموتى فقد كان الخراب يسري فيها بشكل أسرع.

وفي أحد الأيام دفعته رغبة لم يعد يستطيع مقاومتها في تجربة جسد طري إلى أن يتهور ويدخل غرفة تغسيل النساء، وكانت الموظفات مشغولات بغسل متوفاة في غرفة أخرى، كان سعيداً عندما عبث بالجسد الطري للمتوفية التي وقعت بين يديه، وكان خوفه من اكتشاف أمره في تلك اللحظات القصيرة التي انتهزها يضيف إلى متعته، فقد كان ذلك الجسد أدفاً من أي جسد حصل عليه يوماً...

وفجأة سمع خطوات المغسلات وهن يتجهن إلى الغرفة التي كان فيها، ولم يسعه الوقت للهروب، فاختبأ بسرعة تحت طاولة تغسيل الموتى التي كانت مغطاة بقماش مشمع كبير يفيض ليستر كل جوانب الطاولة اختبأ تحته وهو يرتجف، وظل صامتا كالفأر حتى انتهت المغسلات من عملهن وعدن إلى الغرفة الأولى..

خرج مسرعاً وهو يهنئ نفسه بالنجاة وقد عزم أن لا يعيد الكرة بعدها، ما أهمية أن لا يحصل على الجسد إلا بعد أن يبرد؟ المهم أن يشعر بالأمان وهو ملتحف بأستار الظلام وهل وع الليل وأن لا يخاطر بافتضاح أمره.

ورغم كل الانحطاط الذي تردى فيه، وحتى في أيام القحط التي لا تموت فيها إلا العجائز من النساء اللاتي أكل الدهر على أجسادهن وشرب، فلم يفكر يوما أن يقترب من أجساد الرجال، وقد صرخ غاضباً على تلك الساحرة الشابة عندما،أحضرت له يوماً فيلماً اكتشف بعد مشاهدته أنه لا يحوي إلا رجالاً:

  • ما هذا الفيلم الذي أحضرته لي؟ كيف يشتهي الرجل رجلا آخر؟ قال حانقاً..

وانفجرت الساحرة الشابة بالضحك:

  • كم أنت ساذج! يوجد الكثير من الرجال الذين ينفرون من النساء ولا يجدون متعتهم إلا مع رجال مثلهم!
  • ولكن لماذا؟ فليس في جسد الرجل أي شيء يغري، كم أن جلودهم خشنة ومليئة بالشعر الكثيف!

قال وهو يتذكر باشمئزاز ما حدث له في ذلك اليوم الذي خرج فيه من المقبرة عندما حاول ذلك الرجل الحقير الاعتداء عليه..

  •  هذا ما تظنه أنت وباقي الرجال الطبيعي الميول، لكن هنالك العديد من مرضى النفس الذين يفضلون راحة التعامل مع رجال مثلهم على الارتباط بامرأة وتحمل المسؤولية!
  • ولم لا يلجؤوا لنساء مثل زبونتك بائعة الهوى تلك؟
  • لا أدري كيف أشرح لك؟ إنهم لا يريدون النساء ولا تتحرك أجسادهم لمفاتنهن. وأكملت وهي تريح جسدها على سور المسجد المجاور للمقبرة الذي اعتادت مقابلته عنده:
  • هل تعلم؟ كانت عندي زبونة دفعت لي الكثير من المال لتوقع رجلاً كانت تهواه في حبها، وكانت قد استنفدت كل السبل لمحاولة إغوائه حتى كادت أن تعرض نفسها عليه بصراحة دون أن تفلح بإثارة اهتمامه ولو قليلاً، وذلك رغم جمالها الصارخ وتهافت الرجال عليها، وكانت قد انتظرته لعدة سنوات قبل أن تلجأ أخيرا إلي..
  • وهل تمكنت من جعله يحبها؟
  • حاولت بكل جهدي، جربت كل الطرق التي أعرفها دون جدوى، وعندما فشلت محاولاتي استعنت بساحرات أخريات أقوى مني، حتى أنني طلبت مساعدة تلك الساحرة العجوز وهي أمهرنا جميعاً، هل تذكرها؟
  • أجل ! قال من بين أسنانه فقد كان لا زال حاقداً على تلك الساحرة القبيحة.
  • ولكن كل ما فعلته قد باء بالفشل، واضطررت لإعادة بعض المال الذي دفعته تلك الزبونة إليها لأخفف من فورة غضبها لفشلي فقد كنت أملها الأخير.
  • ثم ماذا حدث؟

  قال يستعجلها فقد بدأت الشمس بالشروق وكان يخشى أن يمتلئ الشارع المعزول الذي يلتقيان به عادة بالناس، فقد كانت الفترة التي يلتقي فيها بها وبغيرها من الساحرات قصيرة جداً، إذ كان يستغل الدقائق القليلة بين انصراف المصلين من صلاة الفجر حتى شروق الشمس، والتي يخلو فيها ذلك الشارع من المارة والسيارات.

  • جاءت إلي تلك الفتاة معتذرة بعد فترة من الوقت، فقد اكتشفت أن من تهواه كانت ميوله شاذة ويفضل الرجال ولا يرغب بالنساء، والمضحك في الموضوع أنها اكتشفت أنه ليس حتى ما تسميه الفاعل بل إنه يتخذ دوماً دور المفعول به، وأنبأتني أنها قد تزوجت من رجل آخر وندمت على السنوات التي ضيعتها في انتظار ذلك الذي لا يستحق حتى أن يسمى رجلاً.
  • كيف اكتشفت ذلك ؟

سألها وقد غلبه الفضول بعد أن صمت لعدة دقائق حتى يستوعب ما تعنيه..

غرقت الساحرة الشابة في الضحك من جديد ثم تمالكت نفسها وقالت:

  • بعد أن فشلت جميع خططها لجعله يحبها قررت أن تصارحه لتنهي انتظارها الطويل، وانتظرته بسيارتها قرب باب بيته حتى ساعة متأخرة من الليل، وما إن وصل حتى خرجت من سيارتها وجرت إليه، وكم كانت مفاجأتها عندما رأته يرتدي شعراً مستعاراً طويلاً وقد غطى وجهه بالأصباغ، كان منظر شاربه الكث غريباً فوق شفتيه المصبوغتين بالحمرة.

خرج من سيارته وأخذ يتوسل إليها حتى لا تخبر أحداً بما رأت، ولكنها كانت مشغولة بالضحك على أكتافه العريضة العارية وعلى منظر صدره المكسو بالشعر تحتها الذي ضغطه بشدة تحت قميص ذا لون صارخ.

  • وهل استجابت لتوسلاته؟ سألها وقد غرق هو أيضا في الضحك..
  • بالطبع لا! فقد أخبرت كل من تعرفه وفضحت أمره، فقد كانت تريد الانتقام لأنوثتها التي جرحها بتجاهله وصده لها كل تلك السنين، وأرادت أن يعرف الجميع بأنه لم يرفضها لعيب فيها بل لشذوذه هو، ولولا أنه سارع بالاختباء في بيته لأخذت صورة له بوضعه المخجل ذلك ونشرتها في كل مكان.

أخذ الحفار الصرة التي أعطتها له وودعها ليعود إلى المقبرة، وانهمك في عمله وهو لا زال يضحك في سره على تلك القصة الغريبة، كان دائماً ينتظر بشوقي مقابلاته مع تلك الساحرة، فقد كانت تمتعه دوماً بأحاديثها الطريفة ومرحها الدائم، آه لو كان يستطيع مغادرة المقبرة ليجلس معها لفترة أطول ويشبع من حديثها الشجي، ولكن لا بأس، ففي هذه المقبرة الحبيبة كل ما يريد وأكثر، ولا ضير في أن يضحي بمتعة بسيطة مثل الحديث الطويل مع ساحرته المحبوبة في سبيل كل ما يحصل عليه من فوائد.

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا