حضارة ما بين النهرين
مصطلح حضارة ما بين النهريين، أو حضارة بلاد الرافدين، يُشير إلى مجموعة حضارات متسلسلة، وقعت في بلاد العراق — سوريا — تركيا، وكانت نبتتها الأولى من بين أحضان نهري دجلة والفرات، ولعل أشهر هذه الحضارات، حضارة "سومر" و"أكد" و"بابل" و"أشور" و"كلدان"، وتعتبر بلاد الرافدين من أولى المراكز الحضارية في العالم بعد الطوفان على الإطلاق.
المكان: مدينة "أوبيس" المطلة على نهر دجلة، والتي تبعد نحو 80 كلم شمال شرق مدينة بابل عاصمة الإمبراطورية البابلية، آخر إمبراطوريات حضارة بلاد الرافدين.
الزمان: 27 سبتمبر من عام 539ق. م، وهو بداية شهر تشريتو البابلي (27 سبتمبر – 27 أكتوبر).
الحدث: حرب طاحنة، ودماء تغطى الأرض، ورائحة الخيانة تطغى على الأجواء، فالشرفاء والنبلاء يُطعنون من الخلف، وقوات الفرس (الأخمينين) قاتل بشراسة بفضل ترتيب قائدهم وملكهم الأعظم "كورش الأكبر"، والذي استخدم أقذر الأسلحة العسكرية وهي تجنيد الخونة، فلقد استطاع تجنيد قائد الجيش البابلي بنفسه القائد "جوبارو" أحد قادة الجيوش البابلية الكلدانية في زمن آخر ملك بابلي "نبونيد" أو "نبونائيد" والذي كان قد استأمنه على جيشه في بابل، بينما كان "نبونيد" في شبه الجزيرة العربية في مدينة "تيماء" تاركاً ولده "بلشاصر" الساذج وعديم الخبرة على كرسي الحكم بدلاً منه هناك.
لم يكن يعلم "نبونيد" بأن "جوبارو صاحب الأصل الميدي الفارسي سيتسبب في إسقاط آخر حكم وطني في بلاد الرافدين، وسيسلم مدينة بابل للفرس. لم يكن يعلم أن هذا القائد له مبرراته التي أقنعته بأن هذا الموقف لا يعتبر خيانة، حيث كان مقتنعاً تماماً بأنه واجب ديني، وذلك بعدما ما استطاعت كهنة الإله "مردوخ" إقناعه بذلك، فما لبث أن رأى "نبونيد" عدواً له، لأنه فضل عبادة الإله "سين" عن عبادة إلههم السائد "مردوخ"، فسمح لـ "كورش" الأخميني بالدخول لبابل وقتل ابنه "بلشاصر" بمنتهى البساطة.
وقف "جوبارو" داخل المعركة بكل فخر، مباركا لتوسعات الإمبراطورية الفارسية التي بسطت سيطرتها على الغرب الأسيوي كله، وتمكنت خلال سنوات قليلة من إسقاط إمبراطوريتي "ميديا" و"ليديا" وتمكنت من السيطرة على أراضي إيران وتركيا وأذربيجان وأفغانستان وتركمانستان. وقف "جوبارو" يشاهد سفك دماء القوة الوحيدة الموجودة في غرب فارس، إنها بابل العظيمة، التي كانت تحكم بلاد النهرين والهلال الخصيب، وشمال شبه الجزيرة العربية، والسواحل الغربية المطلة على الخليج العربي، الذي كان يسمى آنذاك ببحر الكلدان نسبا للكلدانيين الذين كانوا يحكمون بابل آنذاك. كان "جوبارو" يعلم أن الفرس به أو بغيره قادمون، فمع زيادة النفوذ الفارسي في المنطقة، كان ضعف السلطة في بابل يزيد، فملك بابل فضل زيادة التوسع الروحاني باحتلال أراضي شمال شبه الجزيرة العربية، فكان يكره البقاء في بابل، لأنه فضل عبادة الإله "سين" والذي كانت والدته "أداغوبي" الحارانية كاهنة عنده. ترك كل شيء ببابل وفضل الاستقرار في مدينة تيماء التي تقع حالياً في السعودية، تاركاً ابنه الضعيف عديم الخبرة "بلشاصر" على عرش بابل. ولقد ذُكر في سفر دانيال في الكتاب المقدس أن ابنه "بلشاصر" كان لا يطمع في الحكم، بل كان يكره الكرسي، فكان دائماً يفضل إقامة الحفلات الماجنة، والاستمتاع بالخمر والنساء.
الفرس يتقدمون في المعركة وجيش بابل بدأ في الانهيار، بفضل ترتيبات "كورش الكبير"، الذي حصد هذا النجاح المبين، والذي شعر بنجاحه الأكبر بعدما استعاد في ذاكرته تاريخ هذه البلاد العتيقة، وها هو الآن قد دخلها، محاولاً إسقاطهم بعد علوِّ أمجادهم المحفورة لآلاف السنين، فكان يعلم جيداً أن هؤلاء يتباهون بتاريخهم منذ الهجرات الأولى لهذه الأرض، كان يعرف جيداً أن بلاد الرافدين هي أول من عرف الزراعة، حيث كانت البداية هناك في قرية "جرمو" في شمال العراق، وكانت الزراعة وقتها محدودة وعلى نطاق ضيق جدا، لتبدأ أولى حضارات العالم في الظهور.
وقف كورش الكبير يشاهد تقدم فرسانه، ليشرد بذهنه قليلاً متأملاً تاريخ تلك الحضارة العريقة، ويسترجع تاريخها العريق.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا