ببيكوريل والصدفة..
واكتشاف النشاط الإشعاعي!!
جاء اكتشاف ظاهرة النشاط الإشعاعي، على يد العالم هنري بيكوريل والتي استفاد منها الزوجان كوري فيما بعد لتتوصل مدام كوري بمساعدة الزوج لاكتشافها المذهل.
ففي بداية 1896، وفي مدينة باريس كان الفيزيائي الفرنسي أنطوان هنري بيكوريل مهتماً بالأشعة السينية التي كانت مكتشفة حي حينه حديثاً، والذي كان يقوم باختبار عدد من المواد المضيئة وعندها وجد بالصدفة أن العنصر المضيء (ملح اليورانيوم) لا يصدر الضوء فقط بل يصدر شكلاً من أشكال الطاقة يسمى إشعاعاً، حيث وضع بيكوريل لوحا فوتوغرافياً مع معدن اليورانيوم في خزانة مظلمة وترك الفلم الفوتوغرافي مدة أربعة أيام، وبعد أن قام بتظهير الفلم لاحظ تكون صورة على الفلم الفوتوغرافي استنتج من ذلك أن معدن اليورانيوم قام بإطلاق أشعة غير مرئية أثرت على اللوح الفوتوغرافي.
سميت ظاهرة إطلاق بعض العناصر للأشعة بظاهرة النشاط الإشعاعي.. تعرف اليوم ظاهرة النشاط الإشعاعي على أنها ظاهرة الانبعاث التلقائي للدقائق أو الطاقة من أنوية الذرات. وهكذا أدرك أنه مصدر هائل للطاقة لم يحلم به أحد من قبل.
وما دمنا قد تطرقنا إلى النشاط الإشعاعي فإنه يجدر بنا أن نعطي القارئ الكريم نبذة مبسطة عنه بإيجاز وسريع.
ينتشر الإشعاع في الطبيعة نتيجة لمساهمة "النظائر المشعة" في بناء المادة المحيطة بنا، هذا بالإضافة إلى الإشعاعات التي تفد إلينا من الفضاء الخارجي. فما هي هذه "النظائر المشعة" ومن أين أتت؟
النظائر المشعة هي صلب ظاهرة النشاط الإشعاعي. وكانت هذه الظاهرة وما ينتج عنها من إشعاعات موجودةً في الطبيعة قبل وجود الحياة على وجه الأرض بزمن طويل، بل ويعتقد أن الإشعاع كان أحد نواتج الانفجار الأعظم الذي صاحب خلق الله للكون منذ حوالي عشرين ألف مليون عام!! والله أعلم.
وكما قلنا اكتشف ظاهرة النشاط الإشعاعي العالم النفسي بيكوريل ثم تلته العالمية البولندية ماري كوري التي تابعت العمل في هذا الطريق، وهي التي دشنت تعبير بيكوريل "النشاط الإشعاعي" للدلالة على مقدرة نوى بعض الذرات على التحول التلقائي إلى نوى أخرى، يرافق هذه العملية صدور أشعة.
قبل اكتشاف هذه الظاهرة كانت غالبية العناصر الموجودة في الطبيعة المكونة للجدول الدوري مثل الأوكسجين والهيدروجين والنحاس والحديد والكبريت واليورانيوم معروفة، وكان يعتقد أنها تشكل اللبنات الأساسية في بناء الوجود المادي، وأن لكل عنصر حالة واحدة يظهر بها تحدد خواصه الكيميائية والفيزيائية وتؤهله لاحتلال خانة معينة – دون غيرها – في هذا الجدول، لكن اكتشاف هذه الظاهرة أكد وجود أكثر من حالة فيزيائية نووية لكل عنصر من العناصر سميت هذه الحالات "النظائر".. والنظائر لعنصر واحد تحتل المكان نفسه في الجدول الدوري، فمثلاً للهيدروجين ثلاثة نظائر هي: التريتيوم والدوتيرريوم والهيدروجين تقع في الخانة الأولى من الجدول الدوري، وللأكسجين سبعة.
تختلف نظائر العنصر الواحد في خواصها النووية على الرغم من تطابق خواصها الكيميائية. من هنا جاء اهتمام علم الفيزياء النووية بالنظائر فيما يقابل اهتمام علم الكيمياء بالعناصر.
ترتبط التفاعلات الكيميائية وبالتالي الخواص الكيميائية للعناصر بإلكتروناتها بينما تتوقف الخواص النووية على تركيب النواة.
والنواة هي ذلك الجزء الصغير من الذرة الذي يشغل حيزاً (غالباً شكله كروي تقريباً) أصغر من الجزء الذي تشغله الذرة بعشرة آلاف مرة، وتتألف من جسيمات صغيرة يطلق عليها "النيكلونات" وهي على نوعين، نوع يحمل شحنة كهربائية تدعى البروتونات وعددها يساوي عدد إلكترونات الذرة ويكتب دليل سفلي إلى أسفل يسار الرمز الكيميائي، والثاني غير مشحون – فهي إذن معتدلة كهربائياً – وتدعى النيترونات، يضاف عددها إلى عدد البروتونات ليشكلا معاً العدد الكتلي ويكتب دليل علوي إلى أعلى يسار الرمز الكيميائي، وذلك للدلالة على النظير، وقد يكتب بجوار اسم النظير، فتقول الهيدروجين 1 والهيدروجين 2 والهيدروجين 3، للدلالة على أي من نظائر الهيدروجين.
وما دمنا نتحدث هنا عن بيكوريل فسوف نخرج قليلاً عن موضوعنا لنلفت نظر القارئ إلى أنه وإن كان توماس أديسون ابتكر المصباح الكهربي عام 1879، فقد كان بيكوريل "مكتشف النشاط الإشعاعي" هو أول من ابتكر "الفلوريسنت" فقام بطلاء أنبوب زجاجي من الداخل بالفوسفور في بداية عام 1859 ووجد أن هذا الأنبوب يضيء بمجرد وضعه في مجال كهربي.
ومع ذلك فقد ظهر أول مصباح فلوريسنت في الولايات المتحدة عام 1934 على يد الدكتور آرثوكومبتون الموظف في شركة "جنرال الكتريك". واعتبر المصباح الجديد اقتصادياً أكثر من مصباح "أديسون" لكونه يعمل على تيار منخفض ولأن مصباح أديسون يستهلك 80% من طاقته في إشعاع الحرارة بدلاً من الضوء، مما دفع العلماء إلى وصف مصباح الفلوريسنت بالضوء البارد!!
ووضع مصباح الفلوريسنت حدا لمصباح أديسون وأصبح الوسيلة الرئيسية للإضاءة الكهربية في الولايات المتحدة، ويرجع الفضل في انتشار هذا المصباح إلى أصحاب المشاريع الذين رغبوا في تقليص تكاليف الإنارة في أماكن العمل.
الخلاصة أن اكتشاف بكوريل لظاهرة النشاط الإشعاعي فتح عالماً جديداً من الجزيئات التي هي دون الذرات.
ولم يعد ينظر إلى الذرة على أنها جسم صلب مصمت، بل صار ينظر إليها على أنها تشبه مجموعة شمسية مصغرة تقع كتلتها الكبرى في مركزها حيث تتجمع البروتونات الموجبة، ومن حول هذه الكتلة يتم توزيع الالكترونات السالبة التي هي ليست إلا وحدات من الطاقة تتحرك حول المركز في نظام معين.
وتتوقف الخواص الطبيعة والكيماوية للذرة على ما يحمله حول المركز في نظام معين. وتتوقف على طريقة ترتيب الالكترونات حول النواة. وقد بذلت محاولات في بادئ الأمر لتطبيق قوانين نيوتن على الجزئيات دون الذرة، ولكن اتضح بعد قليل أن هذه القوانين لا تنطبق على تلك الجزيئات الدقيقة. وقد دعا ذلك إلى ضرورة قيام طرق جديدة أخرى للحساب فنشأت نظرية "الكوانتم" أو نظرية الكم. وهي تساعدنا على أن نعبر تعبيراً رياضياً عن احتمال سلوك البروتونات والالكترونات وغيرهما من الجزيئات دون الذرية.
ولكي نستطيع فهم ظاهرة الإشعاع أكثر، ولكي نفهم معنى بعض المفردات التي تقابلنا ونجدها كثيراً مربكة أو غامضة أو مستعصية على الفهم فنمر عليها مرور الكرام فإننا سنقدم هذا الإيضاح، وهو سهل الفهم، ولكنه يحتاج قراءة متأنية.
تحتوي نواة أي عنصر على عدد من جسيمات مشحونة بشحنة موجبة تسمى بالبروتونات ويرمز له بـ (A) وعدد من الجسيمات متعادلة الشحنة تسمى بالنيوترونات ويرمز به بـ (N) ومجموع عدد البروتونات يسمى بالعدد الذري ويرمز له بـ (Z)، بينما يسمى مجموع عدد البروتونات وعدد النيترونات بالعدد الكتلي (A) ويرمز للعنصر (X) مثلاً بـ (XAZ). ولكي يكون العنصر مستقراً ينبغي أن يكون الفرق بين عدد البروتونات والنيوترونات صغيراً نسبياً. وبما أن نواة العناصر الثقيلة تحتوي على عدد كبير من هذه الجسيمات (البروتونات والنيوترونات)، ويكون الفرق فيها بين عدد البروتونات والنيوترونات كبيراً جداً؛ وهو ما يؤدي إلى عدم استقرار النواة، تلجأ النواة إلى أن تفقد بعض هذه الجسيمات في صورة إشعاع لكي تخفض من ثقلها؛ وبالتالي تتحول إلى عنصر آخر مشع، وهو بدوره يفقد هذه الجسيمات في صورة إشعاع.. وهكذا حتى تصل النواة إلى حالة الاستقرار.
وفي النشاط الإشعاعي الطبيعي نجد أن الإلكترونات المدارية للذرة، تستطيع أن تمتص طاقة وأن تغير من مستواها، وفي بعض الأحيان قد تكون الطاقة الممتصة كبيرة لدرجة تسمح للإلكترون بعمل (قفزة نهائية) وبأ، يتخلص من جاذبية النواة. والنتيجة هي تولد الأيون (أي ذرة ينقصها إلكترون). ونستطيع القول بأنه في هذه الظروف الاستثنائية، تفقد الذرة كل إلكتروناتها أو معظمها – وتبقى عبارة عن نواة معزولة. ولذلك فإن الذرات، ليست غير قابلة للانقسام بعكس الاعتقاد الذي ظل سائداً لفترة طويلة. مهما يكن من أمر فإن التأين ليس مجرد ظاهرة عرضية.
فكل ذرة متأينة متصلة بالمادة، لن تلبث أن تستعيد إلكتروناتها وتقوم بامتصاصها من الوسط المحيط بها فتعود إلى تكوينها الأصلي. ولتقسيم ذرة بصفة نهائية يحتاج الأمر لإجراء إضافي: ذلك هو تفتيت نواتها. ذلك ما يمكن أن نتوقعه بالنظر إلى تعقد تكوين النوى. وليس فقط يمكن تفتيت النوى ولكن بعضها يتفتت تلقائياً وتنبعث منها إشعاعات ثم تتحول بعد ذلك إلى نوى مختلفة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا