لماذا لم يصل إلينا
تاريخ أمم ما قبل الطوفان؟
يبقى هذا هو السؤال الأهم: إذا كانت هذه العصور المتقدمة عرفت الازدهار، لماذا لم نسمع إلا عن عصر ساحق متخلف؟
السبب في ذلك ظاهرة قمع الأفكار المعارضة، والتي تعود إلى آلاف السنين، فأي محتل أو غازٍ كان أول إجراء يقوم بفعله عند احتلال بلدة جديدة، هو استبدال الثقافة القائمة ووضع ثقافة جديدة متوافقة مع سلطته، وكان هذا يتطلب منه أن يدمر الموروث الثقافي والتاريخي كله، فلو فتحت سجلات التاريخ ستجد أن بعد دخول المحتل أي دولة على وجه الأرض، أول ما يتم استهدافه هي أماكن الكتب والمنصات العلمية، واضطهاد أو اغتيال علمائها ومثقفيها، لكي ينجب المجني عليه فيما بعد أجيالاً خاضعة لفكرهم، ما يقيهم شرور المقاومة والمعارضة.
وعلى سبيل المثال، كان خلفاء الإسكندر الأكبر قد بنوا مكتبة "الإسكندرية" كمنارة للعلوم وهذا أمر جلي، لكن الإسكندر وقومه أيضاً هم من هدموا مكتبة "بيرسبوليس" في بلاد فارس، وهدموا الكثير من المؤسسات الثقافية خلال غزوهم للهند وأفغانستان وسوريا، فهم عندما بنوا مكتبة الإسكندرية لم يكن هدفهم نصرة العلم والثقافة، بل نصرة علومهم وثقافتهم اليونانية فقط. بناء المكتبة هو عمل جليل ورائع لكن بسببه ربما انطمست المصادر القديمة التي سجل فيها الوقائع السابقة للأرض، وبأسلوب ممنهج بدأت الثقافات اليونانية تطفو على السطح صانعة لنا حلقة كبيرة مفقودة من السجلات التي انتهت للأبد، أو ربما تتوارثها أجيال حالية في السر ولا نعرف مَن هم. وللعلم، ليس من مصلحة أي غازٍ أو محتل نشر ثقافة تنويرية في البلاد التي يحتلها، وهذا بالضبط ما فعله أيضاً الإسبان خلال غزوهم لأمريكا الجنوبية.
ورجوعاً لمكتبة الإسكندرية، فقد شهدت على أوقات مختلفة تدميرا قاسيا لكمية هائلة من المخطوطات والسجلات المطبوعة التي وصلت في عصرها القديم إلى مليون مخطوط، كانت تحتوي على مواضيع متعددة عن العلوم والفلسفة، وليس هذا فحسب بل كانت تحتوي على مخطوطات أسرار العالم القديم، فـ "يوليوس قيصر" وحده كان قد دمر سبعمائة ألف مخطوط نادر، عندما دخل الإسكندرية ليقتل "بطليموس الثالث عشر" بتوسل من أخته "كليوباترا"، فاستمر حرق الكتب فيها ستة أشهر، حتى أن هذا الدمار الكارثي قد طال أوراق البردي في مكتبة "ممفيس" النادرة أيضاً.
ومكتبة الإسكندرية مثلها مثل مكتبات عديدة تم تدميرها، فعلى مر التاريخ وقعت جرائم هائلة في حق الكتب وهي:
- في عام 335 ق.م، تم حرق مكتبة "برسيبوليس" على يد الإسكندر الأكبر، ويقال إنها كانت تحتوي على عشرة آلاف مخطوط.
- ثم في عام 270 ق.م، قام الإمبراطور الصيني "تسي شن هونغ" بحرق جميع الكتب الصينية القديمة، ويقال إنها كانت مئة ألف مخطوط.
- ثم مرة أخرى في الصين أيضاً، أصدر الإمبراطور "شي هونج تي" عام 213 ق.م، قراراً بتدمير عدد ضخم من الكتب.
- ثم في عام 146 ق.م، تم تدمير مكتبة "قرطاج" وكانت تضم خمسمائة ألف مخطوط، والتي اشتعلت لمدة سبعة عشر يوماً على يد الرومان.
- كذلك وبنفس الطريقة دُمرت مكتبة "بيرغاموس" في آسيا الصغرى، والتي تحتوي على مائتي ألف كتاب.
- وفي عام 84 ق.م، تم حرق جميع الكتب الملحقة بمعبد "أبولو" باليونان.
- ثم تم حرق مكتبة الإسكندرية على يد يوليوس قيصر، عام 48 ق.م.
- كذلك فعل يوليوس قيصر في بلدة "أوتن" الفرنسية، والتي كانت تحتوي على مخطوطات مذهلة.
- ثم قام الإمبراطور الروماني "أغسطس" عام 1 ميلادية، بحرق كل الكتب الغريبة على الحضارة الرومانية، مثل الكتب الفرعونية والتبتية والهندية، وكانت كتباً مهمة تتعدى ألفي كتاب.
- وفي عام 54 ميلادية، أمر القديس "بولس" بإحراق جميع الكتب الموجودة في مدينة "أفسوس".
- أما في عام 296 ميلادية، أمر الإمبراطور "دقليانوس" بحرق جميع الكتب والمخطوطات الإغريقية والفرعونية الموجودة في البلاد.
- وبعدها بأعوام قليلة، قام الحكام المسيحيون بإحراق جميع مكتبات أفسوس مرة أخرى، والتي كانت تحتوي على الآلاف من الكتب والمراجع النادرة.
- وفي عام 389 ميلادية، قام الإمبراطور "تيودوسيوس" بحرق جميع المكتبات المعروفة في عصره.
- وفي عام 490 ميلادية، نشب حريق في مكتبة الإسكندرية مرة أخرى.
- وفي عام 540 ميلادية، هاجم الشعب الروماني مكتبة "روما" وأتلفوا ما بها من كتب ومخطوطات، والتي كانت تتعدى عشرات الآلاف.
-ثم نشب حريق في مكتبة الإسكندرية للمرة الثالثة عام 64 ميلادية.
- وفي عام 728 ميلادية، تم حرق مكتبة بيزنطة على يد "ليون أيزوري" والتي كانت تحتوي على أكثر من نصف مليون كتاب.
- وفي عام 789 ميلادية، أحرق الملك "شارلمان" جميع المخطوطات والمراجع الوثنية المضادة لفكر واعتقاد الكنيسة.
- وفي القرن السادس، تم تدمير قسم كبير جدا من الأدب الأوروبي الكلاسيكي بشكل من منظم من قبل الكنيسة "البابوية" في سبيل القضاء على الوثنية والتي طالت أوروبا كلها.
- وفي القرن الثامن، أحرق "ليو إزاروس" ثلاثمائة ألف كتاب في القسطنطينية.
- وفي عام 1221 ميلادية، أحرق "هولاكو" مكتبة بغداد ومكتبات العراق.
- وفي نهاية القرن الثالث عشر، كان الكهنة المسيحيون قد انتهوا من إحراق كل مكتبات أوروبا.
- ثم قامت محاكم التفتيش بحرق جميع الكتب المضادة للمسيحية في القرن الرابع عشر الميلادي.
- وفي القرن السادس عشر قام الأرشيدوق "دييغو دي لاندا" بإحراق كل مكتبات المكسيك القديمة.
- ثم قام الغزاة الإسبان بحرق كل الآداب المتعلقة بحضارة المايا: وسط صرخات وبكاء علماء المايا الذين شاهدوها وقت الحرق، والتي فنيت تماماً ما عدا أربع وثائق فقط موجودة الآن في متاحف أوروبية.
- ثم في سنة 1566 ميلادية، أمر الملك "ألبيرو" بحرق كل الرسوم والنقوش الموجودة على اللوحات وجدران المعابد القديمة، ولو كانت قد نجت تلك الأثار إلى الآن، لكنا عرفنا كل شيء عن حضارات أمريكا الجنوبية الغامضة.
- وفي عام 1586 ميلادية، أقر مجلس "ليما" بحرق السلسلة الشهيرة والمعروفة بـ "الحبال المعقودة" والتي كتب شعب "الإنكا" تاريخهم وتاريخ أجدادهم عليها، ليفقد العالم واحدة من أعظم مخازن المعرفة في العالم القديم.
- وفي القرن الثامن عشر، هبط الكاهن "ميكار" إلى مصر، ليجوب البلاد ويشتري المخطوطات النادرة من الأهالي ثم يحرقها بقصد التخلص من العلوم الوثنية.
- وفي عام 1790 ميلادية، أحرقت جميع أعمال العبقري البرتغالي "جيسماو" والذي توصل إلى صنع أول طائرة في التاريخ الإنساني المكتوب، والذي أضاف العلوم الكيميائية غير العادية، وكان هذا على يد محاكم التفتيش.
- وعندما قامت الحروب النابليونية دُمرت ونُهبت الكثير من المكتبات في أوروبا.
- وفي الحرب العالمية الأولى دُمرت مكتبات عديدة وضخمة.
- أما في الحرب العالمية الثانية، ففقدت مخطوطات ضخمة ومراجع نادرة، وفقد الإنسان علوما كثيرة تم التوصل إليها حديثاً، والتي اختفت للأبد.
بهذا الشكل ظلم الإنسان نفسه، ومحى تاريخ أسلافه بيده، ليعطي لكل من هب دب فرصة التحكم في ماضيه، بل في طبيعته وجيناته، فلا تتعجب إن تطاول أحدهم على الجنس البشري ليقول إن أجدادنا كانوا قردة.
هذا التدمير الممنهج للوثائق في أماكن متفرقة من العالم هو السبب وراء جهلنا عن ما كان يجري بالضبط في العالم القديم، وليس بأيدينا أي شيء سوى حل واحد، ربما قد ذكره الباحث "أندرو توماس" عندما قال ليس للباحثين حيلة غير الاعتماد على الأجزاء غير المترابطة والعبارات والمقاطع الهزيلة في سبيل بناء صورة عن الماضي، فماضينا البعيد للأسف يعتبر فراغا عشوائياً مملوءاً ببعض اللوحات التذكارية والتماثيل والرسومات وعدة أدوات ومصنوعات أثرية، وإذا رميت الأمر على عاتق الباحثين والمكتشفين في تفسير هذا الماضي السحيق فيجب عليك أن تعلم جيداً أن الاكتشافات ستستمر للأبد مادام عمر الإنسان الأرض، وحتى يوم الدين، فهناك عالم آخر قد مضى لا نملك تحديده بالضبط، لكن ما هو واضح أنه كان عالماً عظيماً، فتلك المدن التي تقبع اليوم تحت مستوى الأرض أو الماء، أو رمال الصحاري أو التي ابتلعتها الأحراش، أو التي ما تزال سالمة على عمق ميل تحت جليد القطب الجنوبي، تقف صامدة في تحد تام لعوامل الطبيعة وتأخر السنين وكأنها تقول نحن موجودون، وهي ليست دليلاً على قوة الأقوام البائدة قبل الطوفان وحسب، بل تدل على أن الإنسان القديم كان قد عمر معظم يابسة الكرة الأرضية في جغرافيتها القديمة، أما الآثار المختفية والتي لا نملك عنها أي معلومات سوى في الأساطير كانت موجودة وصامدة، أما اختفاؤها فكان قد تم في العصور السابقة القريبة، فعلى سبيل المثال آثار "تياهواناكو" المختفية في بوليفيا التي صمدت لآلاف السنين، والتي جاءتنا أخبارها وقصصها منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، كان قد ذكرها المسافرون الذين سافروا إليها في ذلك الوقت، ووصفوا أعمدتها الجليلة بل ورسموها وصنعوا مخططاً كاملاً لها، أي أنها كانت موجودة وصامدة حتى القرن التاسع عشر، وكانت تحتوي على جدران ضخمة ذات مسامير هائلة من الفضة في المبنى الحجري، وتماثيل ضخمة لرجال ونساء، أين ذهبت الآن! لماذا اختفت من الوجود؟ لأنه ببساطة سلبها الإسبان، وحتى الحكومة البوليفية نفسها ساهمت في تدميرها، فقد استخدموها كمواد للبناء! أما الإسبان فلهم النصيب الأكبر من دمار آثار وسط وجنوب أمريكا على مر عصور غزوهم الإسباني الكبير، فكانت من عاداتهم صهر كل القطع والمصنوعات الذهبية هناك بشكل فوري.
لقد دمر الإنسان تاريخ أجداده الأولين سواء كان أثراً أو مخطوطاً أو حتى حجراً، ولم يرتضِ بأن يكون تاريخهم غامضاً فحسب، بل زاد هو في غموضه أكثر، فبسبب قسوة السنين لا تزال آثار جزيرة "الفصح" واللوائح في "موهنجو - دارو" في باكستان، ومخطوطات حضارة "المايا" غامضة وشكلها مخيف، أما مخطوطات ونقوش "تيهوانكو" و"ماشوبيشو" فجميعها دمرها الإنسان للأبد، وآثار كثيرة أخرى لا يمكننا فهمها ولا استيعاب دلالتها.
لا أنكر أن الأمر معقد، ولكن إعادة النظر والمراجعة للقطع الأثرية التي صنفوها فنية فقط، وأدوات العبادة وغيرها، من الممكن أن تنتج عنها معلومات جديدة عن هذا الماضي الغابر، وللأسف أعتقد أن هذا مستحيل أن يتحقق، في ظل عدم اعتراف الغالبية بوجود الحضارات القديمة من الأساس.
يجب إعادة صياغة فترة ما قبل التاريخ، لا بد ألا نتجاهل الطبيعة الحقيقية للعلم، كفانا صياغة الحقائق المبنية على فرضيات، فحلقة الدائرة المفقودة والتي فصلتنا عن أجدادنا، وأفقدتنا إرثنا، تتسع، تتسع يوماً بعد يوم، يجب أن نكتشف أصولنا، يجب إعادة صياغة فترة ما قبل التاريخ حقاً
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا