إنسان الكهف
لقد أخبرونا بشكل علمي أن العصر الحجري الأول أو القديم قد بدأ قبل الميلاد بنحو عشرة آلاف عام، ويرسخون فكرة أن الإنسان في هذا التوقيت كان مجرد كائن بدائي، فوضوي، غبي، أبله، يتجول بشكل دائم ويتغذى على الفاكهة وعلى ما يصطاده من الأسماك، ثم بعد ذلك استقر وعاش بالمناطق التي تحتوي على الأنهار والبحيرات، إلى أن وصل إلى العصر الحجري الحديث في الألفية الرابعة قبل الميلاد، ثم لاحقاً عصر المعادن. معنى ذلك أن أسلافنا استمروا بدائيين لمدة ستة آلاف عام منذ الماضي البعيد ومرورا بالطوفان ولم يعرفوا الحضارة إلا متأخرا! هل تصدق ذلك؟! هل يُعقل أن هذا الإنسان القديم الذي كافح من أجل البقاء على الأرض، وذات القوة والبنيان، استمر آلاف السنين بدائياً ولم يستخدم عقله، ونحن في آخر مائة عام صعدنا للفضاء وتسكعنا على سطح القمر؟!
على كل حال هذا ما أخبرونا به، وقالوا إن أقصى تطور قد وصل إليه الإنسان القديم في هذه الأوقات هو اكتشاف الزراعة، نسبة لاستقراره بجوار مناطق المياه، ثم بدأ في إقامة المستوطنات، ثم كبرت المستوطنات وأصبحت مدناً، وفجأة وفي يوم من الأيام وبدون أي مقدمات، قدمت لنا الكرة الأرضية كائنا بشرياً جديداً متطوراً ذكياً ومعه تكنولوجيا عظيمة وعلوماً في غاية التطور والتعقيد، وكأنها هبطت عليه من السماء، كيف هذا(، كيف استطاع إنسان بدائي جاهل أن يقفز بين عشية وضحاها من سنوات الجهل والتوحش والبدائية الطويلة — على حد رأيهم — والتي استمرت ستة آلاف عام، إلى مرحلة المعجزات العلمية واللا أفق!
والغريب هو تجاهلهم وإنكارهم لمؤشرات عديدة تبرز أن في هذه العصور الغابرة حضارات ضخمة، متغافلين عن أن الكرة الأرضية كان لا يسكنها البشر بشكل فوضوي طول هذه السنوات على الإطلاق، بل بشكل حضاري متقدم، ففي الماضي البعيد كان يسود الأرض نموذج موحد من التكنولوجيا المتطورة ولكن مختلفة السمات على حسب كل منطقة، فجميع أساطير ونقوش العالم البعيد وأقوامه البائدة تحكي عن قصة عالم ذهبي متقدم انحدر فجأة بسبب كارثة كونية من المؤكد أنها الطوفان، والذي مسح العالم القديم من الوجود. الغريب أن بعض المنصات العلمية مؤخراً انتصرت لأقوال هذه الأساطير، وكذبت ادعاء الأكاديميين الذين ساروا على خطى "داروين" والذين أفحمونا بادعاءات نظرية التطور، وأن أسلافنا كانوا جنساً غير راق أو أنهم قردة.
للأسف الشديد هناك أشخاص يعتبرون أنفسهم دون غيرهم المؤتمنين الرسمين الوحيدين على المعرفة الأصلية، وقد حددوا للجميع قواعد لا يمكن أن يتخطوها أو حتى يفكروا أو يبحثوا في حل لغز جديد، فظهرت أحكامهم النهائية متمثلة في:
أنه لا توجد أي حضارات قديمة ضائعة أو غامضة، وأنه لا توجد أي معطيات قديمة عصية عن التفسير، وأنه لا توجد أي غرائب أثرية تم توثيقها، وأن كل ما تقدم من رأي مجرد وهم، وأن الحضارة الأولى للإنسان لا يتجاوز تاريخها خمسة أو ستة آلاف سنة قبل الميلاد!
بالطبع هناك سؤال عميق جداً يسأله رافضو نظرية تقدم الأولين، فربما يقول أحدهم: كيف تقدم الإنسان الأول وتطور وهم لم يلبسوا لباسنا ولم يصلوا لأشياء كثيرة جداً مما توصلنا إليه الآن؟ في الحقيقة، هو سؤال مهم جداً، ولا يستطيع أحد إنكار هذا الكلام، ولكن رداً على هذا الكلام فإن القدماء ربما وصلوا لأكثر مما وصلنا إليه الآن، ولكن من طريق ومنظور آخر، وبعمليات ووسائل أخرى، أضف إلى ذلك عشرات الرسومات المكتشفة في الكهوف القديمة لبشر يرتدون زياً متحضراً.
جميع الآثار القديمة المفهومة أو الغامضة تتفق على شيء واحد مخالف لما تعلمناه، جميها تدل على أن فترة ما قبل التاريخ كان أسلافنا لا يقطنون الكهوف والمستوطنات البدائية فقط كما يظن الكثير، بل كانت لهم ثقافات متقدمة ذات مستوى عال في كل أرجاء العالم، من سيبيريا حتى القطب الجنوبي، ومن جرينلاند إلى إفريقيا، والدليل على عظمة هذه الحضارات أنها رغم السطو عليها والتعديات القاسية، آلاف القطع والأجزاء منها قد نجت من الزوال، صامدة في وجه الشمس، وما زالت موجودة في السجلات والموروثات الشعبية والأساطير والملاحم الأدبية، لكن الغريب فعلاً أن ثمة مجموعات وحضارات اختفت كلها في وقت واحد وكأنها تعرضت لسبب زوال شامل.
والآن، استطاعت بعض الأبحاث العلمية الحديثة تفسير أن الإنسان القديم عاش الحياة البدائية مرتين، وأنه قد عرف البناء والحضارة مرتين، حقاً في المرة الثانية قد نهض بسرعة لم ينكروا ذلك، ولكن بمعلومات ووصايا سابقة، وبعقل وذكاء، على عكس ما يصوره الجميع. وتعتبر الظروف والكوارث كالدمار الشامل أو الطوفان العظيم، هي من أجبرته على أن يعيش الحياة البدائية مجدداً، ولم يكن هذا غباء منه على الإطلاق، فرجل الكهف القديم بدا مؤخراً أنه لم يكن بالوحشية التي وصفوها لنا، ففي القرب من "نيس" الفرنسية وجدوا في إحدى الكهوف القديمة مقبضاً مصنوعاً بمهارة كبيرة لشفرة حلاقة يعود إلى ما قبل التاريخ، وهذا تصرف أشخاص متحضرين لديهم فكر، ولكن طبيعتهم قد دُمرت، ما اضطرهم لاستخدام معداتهم الأولية من أجل البقاء. أما في بقعة أخرى بعيدة في جبال "سوبيس" في غرب بورنيو شمال غرب إسبانيا اكتشفوا كهوفاً ضخمة، مبنية بشكل رائع ولها صالات واسعة ومزينة بمنتهى الدقة والرقي، ووجدوا الكثير من التحف والمصنوعات الموجودة هناك، والتي توحي بأن إنسان الكهف اهتم بالرسم والفن والزخرفة، ما ينم عن خلفية هذا الكائن البشري حضارياً، ورسومات الكهوف الأولى هي أروع وأرق من رسومات الحيوانات في مصر واليونان وبابل، والدليل على ذلك ما هو ظاهر في رسومات الحيوانات على الصخور في كهوف "ألتاميرا" و"لاسكوس" و"ريباداسيلا" وغيرها من الروائع الفنية، وبالنسبة لرسومات كهف "ألتاميرا" والموجودة بالقرب من "سان تاندر" بإسبانيا فهي تعادل في جمالها وجودتها رسوماتنا الحديثة، أما رسومات كهوف كل من الجزائر وليبيا و"لاسكوس"، فهي دليل على أن إنسان الكهف استخدم الرسم المنظوري والشكل الحر، وهذا الفن المتطور لم نعهده نحن إلا في القرن الخامس عشر، كما أن رسومات الكهوف اتبعت طريقة منظمة في الترتيب الرمزي، ومنتشرة في كافة أرجاء أوروبا الغربية، وكانت هذه الكهوف المزخرفة ربما تُقسّم لبعض الأنظمة الميتافيزيقية التي ما زلنا نجهلها، والغريب في الأمر أن كل رسومات الكهوف على الإطلاق مواضيعها لها نمط واحد شائع في كل أرجاء العالم القديم، وكأنها جميعاً كانت متصلة ببعضها أو من مدرسة واحدة.
ورجل الكهف القديم لم يعرف الرسم فحسب، بل عرف التأثير ثلاثي الأبعاد باستخدام الصخور، فصنع من الثغور الضيقة عيون ثور "البيسون" الغاضبة، وصور شقوق الصخر في رسمته على أنها جروح غزال مصاب، وقد استخدم تناقضات الضوء والظلال ووزعها على أشكال الصخور الطبيعية، ما يُوحي لنا الآن أن الحيوانات التي رسمها حية وتتنفس، ويقولون عنه بعد كل ذلك "إنسان الغاب طويل الناب!" لا تصدق هذا، فثقافتهم الفنية هذه أكثر تطورا بالمقارنة مع مستواهم الفكري الذي أوهمنا به المجتمع العلمي، فلقد استخدموا الحبر في رسوماتهم، وهناك رأي مهم للعالم "روبير تشارو" بأن تصنيع أقلام من أكسيد الحديد أو المنجنيز المستخدم في الرسم يتطلب تقنية معقدة ومتطورة، فهل تعتقد أن إنساناً بهذه العقلية كان عاجز عن بناء حائط أو منزل؟ الإجابة لا، ولكنها كانت سمات متفرقة من شخص لشخص، ورغبات متنوعة، والدليل أن فنانو "لاسكوس" حولوا رسوماتهم هذه إلى معارض على ارتفاع 12 قدماً فكيف صعدوا من المؤكد أنهم صنعوا منصة، والمنصة شيء متطور في علم البناء وليست فكرة بدائية بالطبع، ومعرفة البناء هو سمة تسبق صناعة المنصات. ولتأكيد كلامي هناك فرن من العصر الحجري تم العثور عليه بفرنسا، والمفاجأة أنه كان مبنياً من حجارة على شكل طوب ومثبت، بمادة الإسمنت! أي أنهم استخدموا الإسمنت، بل ووجدوا في "تشارو" معدات تعود لما قبل التاريخ منها فؤوس حجرية، أما في تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا تم اكتشاف منازل تعود إلى العصر الحجري، نعم منازل! وكشفت عن تقنيات بناء معقدة وتطبيقات من مجال الرياضيات والهندسة. أما رسومات كهوف الصين القديمة في جبال "هونان" تحتوي على صور لصيادين بملابس حديثة ومعاطف وسراويل أنيقة، أما بالنسبة لشعوب العصر الحجري والحضارات القديمة التي تَلَتهم فمن المؤكد أنها قد ورثت التقويم القمري من حضارة أقدم منها كما قلت، وكما هو متوقع من الباحثين الأحرار، فتقويمهم كان يحتوي على آلاف الملاحظات المدونة مثل العلامات العمودية، والخطوط والنقاط، والرسم والنقش والتي تم اكتشافها بين إسبانيا وأوكرانيا، وتُعرف هذه الرموز الآن بأنها عملية ممنهجة لتسجيل مراقبة القمر لغرض التقويم، وهي عبارة عن دراسة معقدة جداً.
وقد يظن الكثير أن الإنسان في العصر الحجري لم يعرف غير الحجر والصخر، كيف نؤمن بأنه جاء من جذور متحضرة وأن أسلافه كانوا متقدمين وصنعوا حضارة بالصخر فقط! وفي الحقيقة هذا خطأ شائع، فإنسان العصر الحجري استخرج المعادن، فقد وجدوا الكثير من المعادن والتي تعود للعصر الحجري في غالبية أماكن العالم، ووجدوا خامات حديد في "سوازيلاندا" في جنوب أفريقيا، ووجدوه أيضاً بين الآثار بفرنسا وفي غالبية المناطق الساحلية، بل واكتشفوا منجماً أهم، يعود لفترة ما قبل التاريخ على عمق 18 قدماً بالقرب من نهر "أوتنوناجون" بميتشيجن، والذي احتوى على كتلة من النحاس تزن 6 أطنان، وفي مدخل المنجم وجدوا مطرقة حجرية تزن 36 رطلاً، ومنجم آخر في قرب بحيرة "سوبيريور"، وغيرها العديد.
برهن الكثيرون تخلف الإنسان الحجري لآلاف السنوات بسبب أنه استخدم السكين المصنوع من الحجر الصوان أو الفأس أو غيره من الأدوات الحجرية فقط دون المعدنية، فلو كان هذا صحيحاً وقاعدة عامة لوجدنا من تلك الأدوات الحجرية الملايين، فليس من المنصف أن نضع صورة شاملة عن تلك الفترة بسبب استخدام بعضهم تلك الأدوات، ففي القرن التاسع عشر استخدم الناس في أماكن متفرقة الأدوات نفسها، هل هم حجريون؟! بل إلى الآن هناك أشخاص في أماكن متفرقة مازالوا يستخدمون أدوات صوّانية، والآن من الممكن أن يلتقي إنسان حديث مع إنسان حجري في هذه الأيام، فقط سافر أنت إلى أدغال أفريقيا المنغلقة وقف أمام أحد سكان قبائلها.
إذاً هناك سؤال مهم جداً، إذا كان إنسان الكهف قد عرف المعادن وأن هذه الاكتشافات المعدنية تعود له، لماذا لا يتم اكتشاف آثار معدنية لتلك الفترة، لماذا لم نجد سوى أدوات حجرية فقط، الرد ببساطة — أنه نادراً ما يبقى المعدن لفترة طويلة بسبب تعرضه للتعرية الجوية، فغالبية أجسامه تتلف مع الوقت وتصدأ وتتبعثر ولا تعيش طويلاً، ما يصعب تمييز بقاياها، فتبقى الصخور فقط، أما المعادن فلم يجدها علماء التنقيب ولكنهم بالفعل وجدوا آثارها، ففي كهوف بالقرب من مدينة "أوديسا" في روسيا تم العثور على عظام حيوان يعود لما قبل التاريخ، وجسده كان مقطعاً على شكل ثقوب دائرية، وصرح الخبراء أنه قد تم ذبحه وتقطيعه بأداة حديدية مسنونة.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا