ذ(قصة)
ليت بعض الليت كان
تأليف
سمر رمضان محمد
في أحد أيام الشتاء ذهبت كعادتي للجلوس أمام المياه في المنتزه، شردت بعيداً لدرجة أنني لم ألحظ بكائي منذ ما يقارب ربع الساعة.
ما كسر هذا الاندماج كان (عمرو) الجالس يشرب قهوته بذلك المقهى، عندما رآني أبكي انقلب كياني في لحظة، أحاو إخفاء ما حدث بكل الطرق، أحاول أن أغادر المكان لكنني لم أستطع أن أفعل شيئاً قبل أن أراه يجلس بالقرب مني، وأنا لا أقوى مطلقاً على الحركة. جلس بجانبي وقد اجتاحتني دهشة كبيرة، بدا غامضاً جداً يجلس بهدوءٍ غريب ينظر وكأنه ينتظر شيئاً قمت أنا بفعله، دهشت من نفسي عندما قررت بل أنني لم أفكر كي أتخذ قراراً.
وجدتني فجأة أخبره بكل ما تحمله نفسي من أعباء عن الخيبات المتكررة والسقطات المتلاحقة، أخبرته وقد انهمرت دموعي بغزارة وأنا أخبره عن صديقتي المقربة التي لم تعد مقربة وعن الذين أقسموا علي بالبقاء ورحلوا، ظللت أتحدث إليه وأنا أشعر أن حملاً ثقيلاً نزل عن عاتقي على الرغم من أنني لا أحب حتى أن أشكو إلى المقربين مني.
وطالما شعرت بالسوء والثقل في نفسي عندما يقومون بمواساتي بكلماتٍ أعرفها جيداً حتى أنني أستطيع حفظها جميعاً من كثرة سماعي إياها، لكنه سمع كل هذا في صمتٍ غريب.
سمعه دون أن يتفوه بكلمةٍ واحدة
عدا هذا السعال الذي كان يخشى أن يزعجني أو يخرجني مما أنا فيه حتى أنه فجأة قام يسعل بعيداً!
ثم عاد ليخبرني أنه عليه الذهاب لكنه يأتي إلى هذا المقهى كل يومٍ في الموعد نفسه، بعد أن رحل واستيقظت من كل ما قد حل بي في ظل وجوده، لم أشعر بالندم للمرة الأولى في حياتي عندما أصف لأحد ما بي، ارتبت من أمري، كيف لي أن أجلس إلى جوار غريب؟ وأفعل ما فعلت دون أن أشعر بالارتياب أو عدم الألفة؟ هذه ليست أنا أم أنها أنا! لم أعد أدري على الإطلاق من هي!!
أصبح الذهاب إلى المنتزه يومياً في الموعد نفسه أمراً لا بد منه، لقد أصبح روتيناً يبقيني على قيد الحياة، حياتي البائسة التي لا أعرف لها معنى أو أشعر لها بطعم، حاولت التخلص منها من قبل لكنني لم أفلح، إلى أن جاء بنسيم عبقه الذي اجتاح المجرة بأكملها، فما بال قلبي الذي انتظر هذا الاجتياح منذ أن ولد، منذ أن بدأت الحياة تسطر خطوات حياته؟!
- عارفه إيه هي الحاجة اللي كل الناس بتسعى لها؟
= مش فاهمة، حاول توضح قصدك.
الحاجة اللي كلنا جايين هنا عشانها وعشان نستمتع وبس، روحنا دايماً بتبقى محتاجة تحس حاجات كتير، من ضمنها الحزن، تعرفي إن الحزن مش حاجة وحشة كمان؟
- ما تحاول تفهمني طيب.
= ببساطة أنا شايف أو بحس دايماً إن روحنا بتبقى عاوزه تحس بالفرحة والحزن والفخر ونفسها تحس حاجات كثيرة جداً وبتسعى لده، ممكن فجأة تحسي إنك زعلانه أو متضايقة عشان اتفاعلتي مع حاجة حسستك بده، زي لما تشوفي فيلم مليان حزن أو دراما، في الوقت ده أنت لو محستيش بالحزن ممكن تتضايقي، يعني بشوف أن دايماً أي حد في الحياة بيسعى عشان يحس بحاجة معينة، بيسعى عشان يتشهر مثلاً فيحس بالفخر أو النجاح، حتى أشر الناس هتلاقيهم بيسعوا عشان يحسوا برضوا حتى لو هما ما أجزموش بده، لكنه هو الدافع اللي بيسعوا عشانه.
= كنت فاكره إنك مهندس بس، مش دكتور نفسي كمان.
هههه كنت حابب أبقى دكتور نفسي جداً لكن والدتي كان نفسها أبقى مهندس.
= خليني أحييك لأني أكتر شخص شايفك أحسن دكتور نفسي قابلته، ولو أني ما شفتش قبلك يعني، بس أنا مبسوطة.
- أنا فرحان أنك مبسوطة وكمان بقيتي بتقوليها بفرحة كده.
= بتحب السينما أكتر ولا المسرح؟
- بحب المسرح جداً، بتحسي كل الانفعالات والمشاعر وبتبقى أنت نفسك البطل لو مشتت أو خايف لدرجة ممكن تخليك تكتشفي أنك فعلاً البطل، بس في حياتك أنت بحس أن حتى لو القصة خيالية بتحسي أنك حد من اللي عايشينها وأنها قصتك أنت.
= هو أنت أيه اللي خلاك في اليوم ده تيجي وتقعد جنبي، أزاي فكرت في ده أو أزاي توقعت إني ممكن أتكلم معاك ومقولكش اتفضل من هنا؟
- مش عارف!!
= هه مش عارف إزاي؟
- مش عارف ولا قادر أحدد إيه اللي ممكن يكون خلاني أقوم بالسرعة الغريبة دي وأجي عشان أبقى جنبك وأسمعك أو منين جبت الجرأة والشجاعة اللي خلتني آجي أقعد وأسمعك، يمكن عشان اتخضيت ليه بتعيطي بالطريقة الموجعة دي وإيه ممكن يكون سبب إن جواك كل الحزن ده وقاعده لواحدك، كل اللي حسيته وقتها أني عاوز أقف جنبك وأسمعك حتى أني مش هتكلم بس يمكن لما أسمعك أحس إني عملت حاجة ساعدتك في وقت كنت فيه لواحدك.
= شكراً
سألته العديد من الأسئلة التي حتى لم أكن أريد لها إجابة لأعرف في منتصف حديثنا إجابات أسئلة ملحة لتهدئ حيرتي التي أسكنها قلبي دون أن يدري حتى أنني أظنه لا يدري من كثرة البراءة في حديثه الذي بات غامضاً بعض الشيء أم أنا من اختلق كل ذلك وهو لا يبالي به!
دائماً ما يعطيني الأمل، دائماً أشعر من حديثه أن لدي الكثير والكثير الذي لم يعلن نفسه للجميع إلى أن أيقنت أنني بالفعل أملك كل هذا، أن العالم بحاجةٍ إلى بالفعل وأنني باستطاعتي أن أقدم للعالم ما يجعلني أعشق وجودي هذا، وأحمد الله على بقائي على قيد الحياة لأعرف ما خلقت من أجله لأصبر على الابتلاء وأظفر بالمنح التي يهبها لي باستمرار وسط كل هذه المحن التي أتعرض لها بعد أن كنت أشعر أنني أكره الحياة وأكره وجودي السخيف بها، وبعد اعتقادي الساذج بأن المحنة هي عقاب أو عذاب.
لقد منحني (عمرو) الحياة وجعلني أشعر كم كانت نظرتي للحياة سطحية لأفهم أن كل ما في هذه الحياة يقول لك في اتفاقٍ ضمني بينكما، تقدم إلى الإمام حتى وإن كان الظاهر من الأمر عكس ذلك، وإن كانت كل المؤشرات تبوء بعكسه فقط.. تقدم وأفعل ما بوسعك فستجد أضعاف أمنياتك بين يديك وأن التحدي الكبير هو حب الحياة والمغامرة إلى النهاية في اختباراتها.
ظللنا وظلت المنتزه رفيقة كل هذا التغير في حياتي، شاهدة على الأحزان والآلام والإشراق والحيوية والنشوة والاستعداد إلى تحمل أي شيء، ظللنا هكذا إلي اليوم السادس من أيام لقائنا، نظرت إليه بعد أن استجمعت كل القوى الممكنة في العالم كي أخبره شعوري به، وبعد أن استخدمت ما يعادل سبع آلات حاسبة لأحسب رد فعله الذي أيقنت أنني لن أستطيع تقديره على أي حال.
نظرت في عينيه، وجدت كلمات مبعثرة وحكايات مشتتة، ثم لم أنطق بشيءٍ على الإطلاق لأنني أدركت أن حقيقة هذا الشعور لا تزال مجهولة بالنسبة لي، شعور بالإعجاب والامتنان إلى جانب شعور لم أشعر به من قبل، لا أدري إن كان ذلك حباً أم احتياجاً طالما شعرت به، أين عقلي الذي أظنه أصبح لا يبالي بالأمر برمته بعد أن نحيته جانباً في كل ما مضي، أشعر أنه يقف مشاهداً دون أي رد فعل ينتظر ما سيحدث ليقف ويلومني، فيكاد رأسي ينفجر بعد أن كان هو المتحكم الأول في حياتي إلى أن مضى شهر بأكمله، أذهب ولا يأتي (عمرو).
لم أترك يوماً إلا وذهبت.
إنه لا يأتي، ألم يقل أنه يحب مساعدتي؟ إذاً فأنا بحاجةٍ إلى تلك المساعدة الآن وبشدة، أحتاجها أكثر من أي وقتٍ مضى، بحاجةٍ إلى أن أحدد طبيعة مشاعري كي يستكين هذا الجزء المستيقظ دائماً من عقلي.
شعرت أن هذا المكان ليس مكانها، شعرت فقط أنه أوحي لها بأنه سيكون لها، كي يبقى شيئاً من تلك الروح المهشمة التي تظهر أمامه بكل هذا الصمود المبعثر وهو موقن أنه عندما تتحدث عيناهما يرى كل تلك الانكسارات التي تحارب كل يوم كي تخفيها عن أعين الجميع، حاولت بكل ما أوتيت من قوةٍ أن تظهر ثورتها واحتجاجها واستياءها الكبير في هدوء صامت لا يفهمه سواه لم تعهد أن يفهم أحد صمتها ويعرف مدى ضعفها الذي لا يعلم عنه أحد شيئاً، ظلت محلقة فقط وشاردة في صفاء المياه، تتخيل لو تراه، لو لم يظهر في ذلك اليوم الذي ظنت فيه أنها لن تقوى على النهوض مرة أخرى، لن تستطيع كل تلك القوة مجدداً أن تواجه هذا العالم البغيض حينما رأته يبعث في روحها الأمل، وسرحت في جمال عينيه الزرقاوين اللتين اختطفتا كل ذرةٍ من انتباهها، سرحت في حديثه واهتمامه ولهفته التي لم تعتد عليها أبداً من أي شخص، ربما كان ذلك لأنها لم تعط تلك الفرصة لأي شخصٍ من قبل، ربما لأنها لم تجد سحراً كهذا الذي أسرها منذ الوهلة الأولى التي وقعت عيناها عليه.
في تلك الليلة، لم أقو على النوم مطلقاً، تراكمت الأفكار والاحتمالات في عقلي.
فكرت كثيراً، لماذا أنا؟
لماذا في ذلك الوقت؟
أيعقل أنه يشفق علي من كثرة ما أعانيه؟!
أم أن هذه الشفقة قد انتهت الآن؟!
لماذا لم يفهم أحد مطلقاً قبله هذا الشرود في عيني؟
كاد عقلي ينفجر من كل هذه الأفكار.
سألت نفسي كثيراً كل هذه الأسئلة..
ما الذي وضعه في طريقي؟ لم أكن أريد أن يخترقني أحد هذا الاختراق الجميل الذي لا أقوى على التخلص منه، لا أستطيع نسيانه أو الابتعاد عنه.
لقد سافرت روحي إلى كل مدن العالم التي حلمت أن أذهب إليها، سافرت إليها وهاجرت بعيداً عن همومي وآلامي، لم أعد أكترث لها، فهل يمكن أن يغيب ويتركني هائمة هكذا؟ لا أستطيع حتى أن أتخيل أنه لن يكون هنا.
إن وجوده يشبه ذلك الطريق الجميل الذي تشعر دوماً أنه لا ينتهي، الذي تظنه دائماً قد أوشك على الانتهاء إلى أن تراه يبدأ من جديد.
ذلك الاختراق الذي يشبه تخلل الهواء إلى قلبك من الداخل، فيضخ دماً جديداً مشرقاً غير ذلك الذي كاد أن يؤدي بحياتك.
هي تلك المنازل التي تظهر في الطريق أمامك فتسكنها روحك إلى أن يحن قلبك للعزلة ثانية، فيجيب بفعل ذلك.
هو هذا الهواء الذي يدخل إلى كل ذرةٍ من وجدانك دون أن يشعرك بلسعة برد يضمد جرح قلبك المكسور، حراك ملابسك وهي تتناغم مع كل تلك الأحداث وكأنك قد قررت ولو ليومٍ واحد، أن تخرج منك وتسلم كل جزءٍ منك لهذا الإحساس وتلك النسمات التي تجعلك تتيقن أنك أصبحت شخصاً آخر.
فتصل في النهاية إلى أن هذا الشخص هو أنت.
هو ذلك الركن المتألم الذي أطلق العنان لنفسه ولإحساسه.
هو كل جميلٍ مر على جرحك، فأنساك إياه.
هو.. هو..
تبخر من العالم، لم أعد أدري أين ذهب! لم يعد يأتي! لماذا لم أقلع عنه وعن التفكير به؟ قد أدمنته وأنا التي لم تظن بنفسها يوماً كل تلك الظنون، لم أكن أدري أنني أحمل تلك المشاعر أو أنني كنت أستطيع أن أشعر بها يوماً، ظننتها لن تسكن وجداني أبداً إلى أن أصبحت هي الوجدان ذاته.
أليس هو من منحني تلك القوة؟ فما باله الآن أصبح قاسياً إلى هذا الحد؟
ما باله يرفض مساعدة قد أبقتني على قيد الحياة؟
أيريد سلبي إياها أم أن يختبر مدى صبري على تطبيق ما علمني إياه؟ ألست مجتهدة بشكلٍ كافٍ شهر من الاختبار دون أن أصاب بخللٍ في عقلي من كثرة التفكير أم أن المعلمين أصبحوا قساة القلب هكذا!!
إلى أن جاء ذلك اليوم وأنا جالسة في انتظاره الذي لم أمل منه..
وجدت شخصاً يسألني:
- أأنت عاليا؟
- نعم
مد يده إلى بأوراقٍ أخبرني أنها من (عمرو) وقبل أن أنطق بحرفٍ واحد، اختفى عن ناظري تمامًا (عاليا.. إن كنت الآن في المكان الذي اعتدناه تجلسين في انتظاري وقد تغيبت لفترة.. فاعلمي أن هذا الغياب لم يكن بإرادتي الكاملة.
تضيق بنا الدنيا أحياناً بقدر ما اتسعت علينا، فلا نجد ما نبوح به ونعبر عن كل المشاعر الكامنة في أعماقنا التي قد تصل إلى السماء، فتنصب في قلوب من نحب معلنة ومعبرة عما بداخلنا دون التفوه بكلمة، فلا نحتاج حينها إلى التعبير، فأنصبت مشاعري تلك في قلبك، أحببتك كثيراً منذ المرة الأولى التي وقعت عيناي عليك فيها.
هناك سر أود مشاركتك إياه، لقد طلبت القهوة على مدار ستة شهور وأنا لم أحبها يوماً، طلبتها وأنا أجلس في انتظارك كل يوم، لكن ليس عدم حبي لها هو فقط ما جعلني لا أحتسيها، لقد وهبني الله منحة من التي يهبها إلى عباده، لقد وهبني الله سرطاناً وما دمت تقرئين الآن، فهذا يعني أنه قد كسب جولة جديدة من المعارك التي يخوضها المحاربون ضده كل يوم.
نعم قد كنت يوماً أحد هؤلاء المحاربين الذين انتصروا عليه مرتين وكسب هو الثالثة، لقد خضت معركة مليئة بالصبر والألم، عرفت خلال رحلتي في هذه المعركة، أن كل ما حدث في الحياة وما يحدث وما سيحدث، ما هي إلا مغامرة شائقة بمجملها، بالسعادة والحزن والاشتياق والفراق.
كل ذلك يشعرك شعوراً يجعلك تقدرين قيمتها وأن ما يحزنك اليوم هو سبب يجعلك سعيدة، فيما بعد عندما تتأملين حياتك ستجدين أن قيمتها في مدى تحملك لكل الصعاب وإصرارك الدائم على العودة وشعورك أن روحك خفيفة تستطيع أن تطير بعد مواجهة كل ذلك وأنت ما زلت تعيشين بالأمل وتتغلبين عليها على عكس إن استسلمت لأحزانك وسلمتيها زمام حياتك وجعلت من مواقف يمكن التغاضي عنها سواداً يحول حياتك إلى سلسلة متتابعة من الظلم والحزن والبؤس.
أحببتك كثيراً، أكثر مما تتصورين حتى أن كل تلك الإجابات على أسئلتك الغريبة، كنت موقناً أنها ليست الوسيلة لتصلين إلى حقيقة مشاعرك وانقضاء حيرتك.
أرضي الله وأعملي كثيراً حتى هذا اليوم الذي ستفارقين فيه الحياة، فلا يعلم أحد منا كيف سيكون هذا اليوم؟
كيف سيمر عليك وأنت وحدك؟
سيمر جميلاً مليئاً بالفرحة والاطمئنان والراحة عندما يكون لديك إجابة واضحة ملمة بسؤالٍ واحد..
وعن عمره فيما أفناه؟
أفنى عمرك فيما يرضى الله وتذكريني بالدعاء لعلي في أمس الحاجة إليه.
في المعركتين السابقتين، كنت أشعر أنني أريد المحاربة من أجل أمي الجميلة، حلوتي وكل شيءٍ لي في هذه الدنيا، كانت الشخص الوحيد الذي يشعر بي، تساندني وتشاركني ألمي حتى تفخر بصيبها اليافع الذي عشقت ضحكته وعنفوان شبابه، الذي يكافح كي يظل معها إلى أن قررت الرحيل، فكنت أنت من أحارب من أجله، من أجل أن أظفر بك، لنكمل تلك الحياة سوياً بعد هذه المعركة، كنت أتمنى كثيراً بدلاً من أن تكون بين يديك الآن تلك الأوراق، أن اصطحبك إلى منزلك لأطلب من والدك أن تكوني لي.
أنت لست ضعيفة يا (عاليا).. أنت فقط إنسانة تحملين أسمى مشاعر ومعاني الإنسانية داخل هذا القلب الجميل، أنت قوية تستطيعين المواجهة والصبر على ذاتك.
هناك فقط أمر قد ندمت لأجله، هو أننا لم نتخذ شكلاً رسمياً في علاقتنا، وأنني لم أصرح بحبي لك، لكن وضعي لاحتمال عدم وجودي معك الآن، جعلني أخشى أن أجعلك تتعلقين بشخصٍ يمكن أن يغادر في أي وقت، لكنني لم أستطع أن أمنع مشاعري تجاهك ومشاعرك تجاهي، فقد وجدت نفسي أفكر بك وفي حديثك الذي لم أمل منه وشرود عينيك الذي فهمته وعشقته حتى تلك الأسئلة المبعثرة التي سألتني إياها لتحاولين فهم الموقف، فهمتها جميعاً وكنت أتمنى أن أجيب في أوضح صورةٍ ممكنة بنفسي عليها، لكن أمل أن تجيب تلك الكلمات على حيرتك وتهدئ صفو روحك، ليتنا نمضي سوياً في حياةٍ أخرى ليست بهذه الحياة، حياة لا يفرق فيها الموت بين القلوب، دعوت الله أن تكوني لي عنده، فهناك لا يوجد فراق، لا يوجد سرطان يأخذنا ممن نحبهم أو يفترسهم ونحن نقف مكتوفي الأيدي آخر جلسات العلاج، كنت أتألم كثيراً، أردت فقط لو كنت بجانبي تسانديني، لا تقلقي.. قد فعلت ذلك بروحك دون جسدك، ولا توجد أوجاع لنداويها، وأنا أخط تلك الكلمات إليك لا أبالي بأن يتوقف قلبي، فليتوقف كيفما شاء، فلقد حصلت على قوةٍ عظيمة لا تضاهيها قوة السرطان ولا الكثير من جلسات الكيماوي ووحدتها الموحشة، تلك القوة هي أنت، كيف أشعر بالوحدة وأنت وروحك بجانبي؟ وحققت الشعور الذي حلمت دوماً أن أصل إليه، لن أتغيب بموتي سيظل نسيم روحي يتبعك أينما ذهبت، أكملي تلك الحياة لأجلك ولأجلي.
لم أبك في حياتي كما بكيت اليوم، شعرت وكأن روحي خرجت من جسدي لتبكي على فراقه، لتبكي على حبي الذي لم أكتشفه سوى الآن، تنوح على رفيق روحٍ مضى دون أن يخبرها، رحل دون إنذارٍ وبلا عودة، كيف له أن يفعل؟ لقد منحني الحياة وهو لا يعرف إن كان لديه متسع منها أم لا!
أيمكن أن يكون هناك شخص يداوي كل تلك الآلام وفي قلبه كل تلك الجروح الغائرة؟ أيمكن لشخصٍ أن يهب كل هذه القوة وهو يحتاج أضعافها ليواجه ويقاوم كل ذلك؟ كيف لي أن أتخلص من حياتي حيث أنني أشعر بكل هذا السوء تجاهها وتجاه نفسي؟ وهل يضاهي أي وجعٍ ومعاناة؟ والأدهى من ذلك كله، رحلتان من مواجهة هذا المرض اللعين ثم من بعده وفاة أمه وسط معركةٍ جديدة، أصر فيها أيضاً على المواجهة ومن أجلي أنا!
ولم يكتف بذلك، لم يشعرني لحظة ولو بنظرة أن ما واجهته كان لا يضاهي شيئاً مما أشعر به، لقد فقد أكبر داعم له، الشخص الذي عاش من أجله وظل يواجه، وفي تلك المرة كان لأجل تلك الفتاة التي كانت تبكي ولا تستطيع النهوض، تلك الفتاة التي أحبته دون أن تدري، تلك الفتاة التي ظنت أن الحياة تعيسة وهو من أفهمها معناها، تلك الفتاة أنا، إن معه كل الحق إذاً.
لقد خلقنا الله ولدينا القدرة على النضال، وأعطى لكل منا كل ما يحول بينه وبين سعادته ورضاه. والصعاب التي يواجهها، فإن (عمرو) بمواجهته كل ذلك يبين مدى القوة التي لا نستطيع تخيلها ووهبنا الله إياها، فجعلني أقدر معنى الحياة وأكون على أتم الاستعداد لعيشها، فالسر إذاً فينا وفي الطريقة التي نستغل بها هذه القدرة وتلك النعم التي يهبها لنا الله، ليست وفاة (عمرو) هي نهاية حياته فحسب بل هي نهاية للوجود المادي الذي كان يعيش بيننا بينما روحه وبشاشته وكل ما قد غيره بي وبحياتي ما زال موجوداً وله الفضل في إدراكي معنى الحياة وتقديري إياها، وسيرته التي سأظل أرويها ما حييت ستظل هي من يجعله حياً بذكراه، وليس بوحوده المادي فقط.
"أكملي تلك الحياة لأجلك ولأجلي"
سأكملها وسأظفر أنا بوجودي معك، لكن ليس الآن، سيكون حتماً عندما أستمتع برحلتي في هذه الحياة وأدرك دوري الكامل فيها، الذي خلقت من أجله، وستكون أنت ملهمي في كل خطوة، سأناضل كي أستحق أن أكون مع المحاربين مثلك، أكتب إليك هذا الآن بعد أن اصطحبت زهرتين جميلتين (ابنتي) إلى هنا، إلى المكان الذي شهد علينا وجعلني أما تفخر بنفسها وتعرف كيف تتعامل مع ابنتيها ومشاكلهما ومتطلباتهما، الذي شهد على كوني الآن تلك المرأة القوية التي تواجه كل ما يقف في طريقها، كل ما يحول بينها وبين نجاح أسرتها، أتمنى أن تكون مستعداً حين ألقاك لرؤية نتاج عملك، ونتاج هذا الألم الذي خلفته وراءك، وصنع من شخص كانت تتقاذفه مشاكل الحياة، إلى تلك المرأة التي لا تبالي بهذه الأحزان وتقدر معنى الحياة وتسعى للقاء الله بعينٍ تستحق أن تظفر بك، تستحق تحقيق تلك الأمنية.
تلك المرأة هي (عاليا).
هي أنا.
شيء واحد فقط هو الذي لم أستطع أن أغفله أو أتعلمه منك، لا يزال ذلك الجزء من قلبي يبكي على فراقك، لا تزال تلك الأمنيات التي رسمتها تهوي التحقق مهما صدمت بالواقع، فلا أدري كيف! ولست حتى على استعداد أن أنساها، أدمنت وجودها على أي حال.
أكتب إليك الآن وأتمنى لو كنت تعلم كل ذلك، أكتب إليك وأنت في السماء، أود إخبارك يا عزيزي، أنك كذلك النسيم الذي أشعر به عند سماعي (أم كلثوم) أو هيامي بأنغام (البيانو والكمان) عندما تلمس روحي وتهز وجداني حينما أستقل طريقاً طويلاً وأطير وأسبح مع تلك النسمات..
لدينا موعد سوياً، سأتبعك إليه في أحد الأيام بعد اكتمال الطريق.
تمت
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا