كان اسحق عبقرياً في دراسته ، لطالما انغمس بين كتبه و حاسوبه لساعات ، كان كل همه التفوق على نسرين ، تلك الطالبة الجديدة التي مافتئت أن تستولي على مرتبته ، البارحة قد تفوقت عليه في حل معادلة عقيمة و لأول مرة في مساره الدراسي يتعرض لمثل هذه المذلة ، قد أحس بأن الأرض انشقت و ابتلعته ، بدأ يحس بالخطر المحدق به ، الآن يجب عليه التسلح أمام عدو متسلط و التصدي له …
لم ينم تلك الليلة من شدة غيظه ، لديه رغبة قوية للانتقام من تلك الفتاة الفقيرة التي لم تغير حذاءها منذ بداية الدراسة ، لا ينبغي عليها أن تتفوق على ابن واحدٍ من الأعيان ، قد استحوذت عليه فكرة شيطانية و أسدلت ستارها الأسود على قلبه الذي لم يعرف أبداً الغل و الحقد ، الآن وجدت الشرور مثوى لها ، و ياله من ملجأ دافئ عقل عبقري مندفع ، كانت خطته التقرب منها و التودد إليها لمعرفة أسرارها ..
لقد كانت في نظر الكل فتاة غامضة لا تتكلم مع أحد و تتجنب الأخذ و الرد مع زملائها ، و لهذا نعتت بأبشع الألقاب منها غريبة الأطوار ، كيف لا و هي دخلت لوسط اجتماعي غير و سطها لذكائها و تفوقها .. التحقت بهذا المعهد عن جدارة و استحقاق بعد أن منحتها الدولة منحة دراسية .
توجه اسحق في اليوم التالي إلى الطاولة التي بقرب نسرين ، و التفت إليها مبتسما و أردف كلماته اللبقة : صباح الخير نسرين ..
نسرين: صباح الخير ، جوابها رافقته علامات من الاستغراب رسمت على ملامحها فلم يسبق لأحد أن تكلم معها في الفصل ، و الأشد غرابة من هذا اسحق الفتى الوسيم الذكي الذي تتودد إليه كل الطالبات و لا يعيرهن اهتماماً .
فجأة قاطع تفكيرها اسحق : أهنئك على علامة البارحة لقد تفوقت علي ، و أتمنى أن تساعديني على فهم المعادلة إذا لم يكن لديكِ مانع طبعاً .
كيف ستمانع و هي كانت شديدة الإعجاب به لكنها رغم فقرها غنية بكرامتها و عزة نفسها لم تكن كباقي الذليلات اللاتي دائما ما يبحثن عن حجة ما للكلام معه ، ردت عليه :
بالطبع ليس لدي مانع ، اختر الوقت المناسب كي أوضح لك حل المعادلة
اسحق: ما رأيك غداً بعد الدوام في مكتبة المعهد
نسرين : حسناً قالتها بابتسامة …
***
في الغد بعد الدوام توجها معاً إلى المكتبة ، اليوم قد غيرت نسرين حذاءها و انتعلت حذاءً جديداً و غيرت تسريحتها و أطلقت لشعرها الناعم العنان كي ينزلق فوق كتفيها ، استغرب اسحق لهذا التغيير و لكنه اعتبر خطته تسير في الطريق الذي رسمه ، و في نفس الوقت توجس خيفة في أعماقه لأنه أدرك بأن الفتاة معجبة به ، لم يكن يرغب في جرح مشاعرها هدفه الانتقام و الكشف بأنها تغش و يذلها بالفضيحة أمام الأساتذة ، لكن رب ضارة نافعة .
فتحت نسرين حقيبتها و أخرجت ورقة و قلم و استهلت الشرح بمقدمة بسيطة و كانت تتلعثم في الكلام ، أما اسحق فكان يمثل بأنه يتابع شرحها ، في الحقيقة قد بحث عن الحل ووجده ، هو هنا بغرض التقرب لا غير .. عند انتهاء نسرين من محاضرتها القصيرة ، سألها :
أيمكن أن تعطيني اسم حسابك على الفيسبوك ؟ إذا كنتِ موافقة أن نصبح أصدقاء ، كما تعلمين ليس لي صديق ، و لكني وجدتك متميزة و لطالما رغبت بصديقة مثلك ، و إن كان جوابك الرفض فسأظل أحترمك .
نسرين : أنا موافقة أن نصبح أصدقاء بل هذا يسعدني ، لكن ليس لدي حاسوب آسفة .
اسحق : لا بأس ، و شكراً على قبول صداقتي ، سأكتفي فقط برقم هاتفك إن لم تمانعي !
نسرين : لا أمانع البتة .. و أعطته رقم هاتفها
اسحق : أنا سعيد جداً بالتعرف عليك ، سأذهب الآن إلى اللقاء
نسرين : إلى اللقاء .
طوال الطريق و اسحق يفكر كيف سيكشفها !! على ما يبدو نسرين ذكية فعلاً ، لكنه لا يصدق بأنها استطاعت أن تحل المعادلة التي عجز عن حلها الأستاذ بنفسه و وضعها كتحدي بينه و بين طلابه ، فجاة طرأت على باله فكرة أخرى سأدعكم تكتشفونها في المقطع التالي :
هاتف نسرين يرن .. إنه اسحق ، ردت عليه :
نسرين : الو اسحق كيف حالك ؟
اسحاق : أهلاً نسرين ، أنا بالمتنزه العمومي بالقرب من منزلك ، إذا كان من الممكن أن ترافقيني في هذه النزهة سأكون ممتناً لك .
نسرين : حسناً و لكن سأتاخر لبعض الوقت قرابة ربع ساعة ، أيمكنك أن تنتظرني ؟
اسحق : نعم سأنتظرك ، أعلم أنك ستتأخرين لارتداء ثيابك و تسريح شعرك إلى اللقاء ، أنا في الجهة الشرقية المقعد الخلفي لا تتأخري .
نسرين لم تكن مصدقةً ما يحدث ، ما حلمت به يتحقق ، اعتقدت أن اسحق معجباً بها ، ارتدت ملابسها و قبل خروجها أخذت طلاءً أحمراً و كتبت رموزاً غير مفهومة و وضعتها بجيبها ، اتجهت إلى مكان اسحق و ألقت عليه التحية و جلست بجانبه ، لفت انتباهها علبة كبيرة بجانبه مغلفة بورق الهدايا ، حمل اسحاق العلبة و أعطاها لها قائلاً :
أرجوك لا ترفضي هديتي ، إن رفضت أخذها سأعتبره رفضاً لصداقتي
نسرين : لماذا كلفت نفسك ؟! أرجوك لا يمكنني أخذها فلم أعتد على هذا النوع من المعاملة ، أرجوك لا تقرن صداقتنا بقبول الهدية .
اسحق : كما تشائين ، سأذهب الآن إلى اللقاء ، و رسم على وجهه العبوس و الانزعاج .
نسرين : انتظر ، لماذا أنت متسرع ؟ سأقبلها و لكن بشرط أن تعدني بأنها آخر هدية .
اسحق : افتحيها أولاً ، أتمنى أن تعجبكِ..
فتحت نسرين العلبة و رأت بداخلها حاسوب محمول ، ذهلت فهي تعرف بأنه يكلف مبلغاً كبيراً فقالت :
نسرين : اسحق لا أستطيع قبول هدية ثمينة كهذه ، فأنا أحس بأني كمن يستغل الصداقة لأغراض مادية ، أرجوك لا تنزعج !
اسحق : هذا الحاسوب لا يساوي شيئاً أمام صداقتنا ، ستأخذيه الآن و إلا حطمته أمامك ، أرجوك نسرين لا تبالغي فهذا شيء عادي بين الأصدقاء .
نسرين : شكراً لك ، سيساعدني حقاً في دراستي و سيمكنني من التواصل معك يومياً ، كنت بأمس الحاجة إليه
اسحق: لا تنسي فتح حساب على الفيسبوك و أضيفيني ، ابحثي عن اسمي و ستعثرين على حسابي
نسرين :حسناً بكل سرور .
اسحق : سأذهب الآن و سنلتقي في الفصل بعد العطلة ، أنا سعيد لأنه أخيراً سنتواصل يومياً ، إلى اللقاء
نسرين : إلى اللقاء و شكراً .
ودعها و هو يبتسم ابتسامة ماكرة .. يا لخبثه فقد وضع في الجهاز برنامج تجسس خفي سيمكنه من مراقبتها ..
***
في المساء فتح حاسوبه و وجد طلب إضافة من نسرين ، قبل الطلب و رحب بها و لكن لشدة ذهوله أخذ يفرك عينيه لمرات عدة ، ليست نسرين التي تكلمه ، فعلى كاميرا برنامج التجسس يرى عجوزاً شمطاء !! شك في بادئ الأمر باكأنه خلل في البرنامج لكنه صدم حينما طلب من نسرين تشغيل الكاميرا كي يراها ، رأى تلك العجوز تذهب ناحية الدولاب و تفتحه و تخرج علبة بها طلاءٌ أحمر و تكتب رموزاً على ورقة و تضعها داخل جيبها فتتحول إلى نسرين و تجلس أمام الكاميرا و تشغلها و تقوم برفع يدها كي تحييه ، كلمها و اعتذر منها قائلاً أن أمه تناديه و سيذهب الآن .
جلس مصدوماً لا يدري ماذا يحدث ، إن هذا لأمر عجيب و مرعب ، من هي تلك العجوز ؟! و كيف تتحول يجب عليه كشف حقيقتها .
راقبها لساعات لم تكن في المنزل ، إنه منتصف الليل و لا أثر لوجودها ، فجأة تدخل نسرين إلى غرفتها و تخرج الورقة من جيبها و تعود إلى طبيعتها ، ليس هذا فقط قامت برسم دائرة بداخلها رموز غير مفهومة ، و سحبت قطاً أسود و نحرته و جمعت دمه داخل العلبة و هي تردد كلاماً غير مفهوم ، فجأة تصرخ و تسقط أرضاً و يغمى عليها ، أصيب اسحق بالرعب ، لكن ما فهمه خلال هذه الأيام أن تلك العجوز ساحرة تقوم بالتعاويذ لتتحول إلى فتاة شابة ، لهذا نسرين ذكية جداً و منطوية على نفسها ..
اعتبر أن هذا الأمر خطير جداً ، فأخذ يتهرب منها و لم يعد يكلمها ، استغربت تصرفه لكنها لم تهتم لأنها معتادة على هذا النوع من التصرف ، الحل الوحيد الذي خطر ببال اسحق هو التوجه إلى أقرب مركز شرطة و أخذ التسجيلات و الإبلاغ عنها و يا ليته لم يتخذ هذا القرار ..
بعد تبليغه عنها بحثت الشرطة في الأرشيف المنسي في القبو ، فاكتشفوا بأنه منذ خمسين سنة عثر على نسرين مقتولة .. فاقتحموا منزل العجوز و لم يجدوا لها أثراً لكن المنزل كان يعج بالقطط المذبوحة و رائحته كريهة جداً ، بحثوا عن نسرين أو العجوز و علقوا صورها على أنها مجرمة خطيرة و يجب التبليغ عنها فور رؤيتها ..
اختفت نسرين عن الأنظار لكنها لم تختف من كوابيس اسحق فقد كان دائماً يراها تتوعده و تلعنه ، لم يعد ينام .. ليس هذا فحسب لقد أصابه الجنون من شدة خوفه و عثر عليه ميتاً في المنتزه و كانت عيناه جاحظتان مما يفسر هلعه الشديد أثناء وفاته .
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا