في عيادة الدكتورة النفسيّة ، سألت الرجل الستيني :
- ما اسمك ؟
- مارك
- وكم عمرك ؟
المريض بصوتٍ صغير : 6 سنوات
- وماذا تفعل الآن ؟
- اشاهد امي وهي تعدّ الغداء
الطبيبة : هل عدّت لتوّك من المدرسة ؟
- نعم ، وانا جائعٌ جداً
ثم تغيّر صوته ، ليصبح اكثر قساوة :
- ستأكل بعد قليل ، ايها اللعين !!
الطبيبة : ومن انت الآن ؟
- ديانا
- هل هي قريبتك ؟
المريض بعصبية : انا عمّته !! فأخي المُدمن ترك ابنه المشاغب لأربّيه بعد وفاة زوجته
- ومتى توفيّت والدة مارك ؟
- بعد شهر من بلوغه سن السابعة
الطبيبة : الم تحبي ابن اخيك ؟
- لا !! فهو ليس ابني
- لكنك عمّته !
المريض بعصبية : هو يشبه امه كثيراً
- أتقصدين بالشكل ؟
- والصفات ايضاً
الطبيبة : وهل كانت سيئة معكِ ؟
- بل تدّعي المثاليّة ، وهذا يغيظني
- وهل كانت زوجةٌ جيدة ؟
المريض : لوّ كانت ، لما أصبح اخي مُدمناً
- ولما برأيك أصبح مُدمن كحول ؟
- لأنه يعشق غيرها
الطبيبة : ولما لم يتزوج حبيبته ؟!
- لأن والدي رفض زواجه من راقصة ، فصار يلتقي بها خفيّة من وقتٍ لآخر
- حتى بعد إنجابه مارك ؟!
المريض : نعم .. وبسببها أدمن الخمور ، حتى خسر عمله .. وأصبح مُشرّداً بالشوارع ، لحين وفاته !
- ولما لم تعالجونه من إدمانه ؟
- بحثنا عنه في كل مكان ، دون العثور عليه
الطبيبة : ولا بالناديّ الليليّ ؟
- كان اول مكان بحثنا فيه .. يبدو انه فقد عقله بعد معرفته بزواج حبيبته ، وسفرها الى ولايةٍ أخرى .. (ثم تنهّد بضيق) ..مازلت أذكر اليوم الذي طلبت مني الشرطة التعرّف عليه في المشرحة !
الطبيبة : وكم كان عمر مارك وقتها ؟
- 12 سنة
- كان صدمةٌ قويّة عليه !
المريض بتهكّم : وكيف سيكون شعوركِ لوّ عرفتي إن والدك توفيّ مخموراً ، امام مكبّ النفايات ؟
ثم تغيّر صوته فجأة ، قائلاً بخوف :
- لا تؤذيني ارجوك ، انا لست منحرفاً
الطبيبة: من معي ؟
- مارك
- وكم عمرك الآن ؟
المريض : 16 سنة
- وماذا يحصل معك ؟
فلم ينطق الرجل بشيء ، وظلّ يبكي وهو يغلق وجهه بكفّيه .. فسألته الطبيبة من جديد :
- لا داعي للحرج ، إخبرني بما يحدث الآن ؟
المريض بقهر : انه يعتدي عليّ في حمام المدرسة
- من هو ؟
- استاذ الرياضة
الطبيبة : لما يفعل ذلك ؟!
- قال بأنه ليس لديّ عائلة تحاسبه ، وهو يعشق الصبيّة الوسماء
- الم تخبر عمتك بما حصل ؟
المريض بحزن : عمتي تكرهني .. وتقول انها خسرت خطيبها الذي رفض عيشي معهما ، وبسببي أصبحت عانساً .. وأنه لا غرابة أن توفيّ والدايّ باكراً ، كُرهاً لي !
- ولما لم تبلّغ مدير مدرستك بإعتداء معلّمك ؟
- لأنه هدّدني بالطرد إن فعلت
الطبيبة : وهل كنت الوحيد الذي أذاه الأستاذ المنحرف ؟
- يوجد ثلاثة غيري ، وجميعنا جبناء
وهنا تغيّر صوته ، لتصبح نبرته حادّة :
- انا لست جباناً ، ايها الشاذّ !!
الطبيبة : من معي الآن ؟
- مارك
- وكم عمرك ؟
- 30 سنة
- تبدو قويّاً ؟
المريض بحزم : بل جبّاراً !! فأنا ضابطٌ في الجيش الأمريكي ، وحاربت في أفغانستان
- وهل انتصرت في معاركك ؟
- كنّا نربح ونخسر
الطبيبة : وما اسوء شيء حصل لك في الجيش ؟
فسكت قليلاً قبل صراخه بذهول ، والدموع تسيل على وجنتيه :
- لا تمتّ ، ارجوك !!.. إفتح عينيك .. لا تتركني يا صديقي
الطبيبة باهتمام : ماذا حصل ؟!
- جاك أصيب بطلقة قنّاص
- وهل إصابته خطيرة ؟
المريض بحزن : انه يموت بين ذراعيّ !!
- هل هو صديقك المقرّب ؟
- التحقنا معاً بالكليّة العسكريّة
الطبيبة : وهل مات الآن ؟
- نعم ! كيف سأخبر زوجته واطفاله بأنه خطأي
- ولما هو خطؤك ؟!
المريض بقهر : لم يكن يريد الخروج من الدبّابة ، لكني أمرته بإصلاح العطل .. وحينها سمعت صرخته الأخيرة !
- جيد إن القنّاص لم يصبك حين خرجت لمساعدته
- لم يكن يهمّني في تلك اللحظة سوى إعادة جثمان صديقي الى الدبّابة ، والإسراع للمركز .. كم أتمنى الإنتحار لأرتاح من عذاب الضمير
وهنا تغيّر صوته ، ليقول بشفقة :
- لا تبكي حبيبي مارك ، هذه هي الحياة .. ربحٌ وخسارة
ثم تغيّر صوته ثانيةً :
- أسكت انت !! ضعف شخصيتك دمّرني تماماً
الطبيبة : مع من تتكلّم يا مارك ؟
- مع جدي
- ولما انت غاضبٌ منه ؟
المريض : لأنه سلبيّ للغاية ! لم يدافع عني ، حين رآني أُضرب من متنمريّ مدرستي .. ولم يصرخ على الأولاد الذين منعوني من اللعب بالحديقة العامة .. ولم يتصرّف حيال إعتداء استاذي ، لأنه كسول ولم يرغب بسحب اوراقي وتسجيلي بمدرسةٍ اخرى .. واكتفى بنصحي بالصبر ، وعدم إخبار المدير بالأمر كيّ لا يؤذيني استاذي اكثر .. هل تصدّقين ذلك ؟!
الطبيبة : الهذا التحقت بالعسكريّة ؟
- نعم ، لأتخلّص من عمتي القاسية وأبيها ضعيف الشخصيّة الذي كرهته بعد إخباري بأن امي لم تمتّ بمرض القلب (كما ظننت) بل لأنها انتحرت من شدّة اكتئابها من ابي وعشيقته الراقصة !.. انا فعلاً انسان فاشل ، وأتمنى الموت كل لحظة !!
الطبيبة : لست فاشلاً يا مارك ، انت ابٌ رائع
- لم أكن زوجاً جيداً !
- هي لم تتفهّم مرضك ، فلا تلمّها
المريض باستغراب : هل كنت فعلاً اباً رائعاً ؟!
- هذا ما أخبروني به
- اذاً نجحت كوالد !
الطبيبة : نعم ، انت رائعٌ يا مارك .. ولا تحتاج لبقيّة الشخصيّات
- اذاً من اختار منهم ؟
الطبيبة : مارك بعمر الستين ، بشيبته الرائعة وابتسامته الحنونة ..
وهنا دخلت الممرّضة وهي تقول :
- حان وقت نومه
الطبيبة : حسناً ، ضعيه بالفراش .. ولا تنسي وضع أغنيته المفضلّة لينام ، كيّ لا يعاني من الأرق كما كلّ مرة
فأمسكت الممرّضة يد الرجل ، وهي تقول :
- حان وقت قيلولتك يا مارك ..
فنظر مارك للطبيبة ، وهو يقول بصوت طفل :
- هل ستطبخين الدجاج اللذيذ ، حينما أستيقظ يا امي ؟
الطبيبة : سأفعل حبيبي ، نمّ قليلاً لترتاح .. وبعد ساعة ، نتناول الغداء معاً
***
بعد نوم الرجل المريض في غرفته ، دخلت الممرّضة الى مكتب الطبيبة (في فلّتها) وهي تسألها :
- أمازال والدك يظنّك امه ؟!
الطبيبة بحزن : ربما لأنني اشبه جدتي .. لكني سأظلّ أعالجه يوميّاً لتتحسّن صحته ، فالمسكين عانى كثيراً بحياته
الممرّضة : انت ابنةً بارّة ، تعلّمت علم النفس لعلاجه من إضّطراب تعدّد الشخصيّات ..فهل هناك تحسّن في حالته ؟
- قليلاً .. فهو في بداية الزهايمر ، ومرضه الجديد جعله يحذف ثلاثة شخصيّات من خياله ، لم يذكرها في هذه الجلسة
الممرّضة باهتمام : وماهي الشخصيّات التي نساها ؟
الطبيبة : شخصيّة ديفيد
- الأستاذ المتحرّش ؟
- نعم ، أدرك الآن أنه لا علاقة له بذلك القذر .. وايضاً نسيّ شخصيّة جاكلين ، الراقصة التي أحبها والده ..اما الشخصيّة الثالثة ، فهي مادلين
الممرضة بدهشة : أنتِ ؟!
الطبيبة بقهر : نعم .. كان سابقاً ينتحل شخصيّتي من وقتٍ لآخر ! لكن يبدو انه نسيّ اصلاً إن لديه ابنةٌ ترعاه ، وترفض وضعه في مستشفى المجانين التي تعمل فيها !
- رجاءً لا تبكي ، آنسة مادلين
الطبيبة بحزن : أتمنى للحظة أن يعود ابي الحنون ، فقد اشتقت اليه كثيراً
وانهارت باكية ، بعد تدهوّر صحّة والدها الميؤوس منها !
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا