مواجهة الماضي

  • الكاتب : محمد يحي
  • / 2022-11-14
في بداية العام الدراسيّ ، نادى المعلّم (مروان) بأسماء طلاّبه للصفّ الثاني الإبتدائي .. ليتوقف عند الطالب الأخير بين ثلاثين تلميذاً ، بعد قراءة إسمه : ((وليد سمير النمر)) ليلاحظ تشابه التلميذ الجديد مع والده الذي عرفه سابقاً ! فتذكّر ماضيه مع المتنمّر سمير الذي حوّل حياته لجحيم من المرحلة الإبتدائيّة حتى الثانويّة ! فليس في قريتهم الصغيرة سوى ثلاثة مدارس للأولاد ، لهذا تجمّع الأصدقاء في كل المراحل الدراسيّة .. فشعر مروان بالضيق لأنه مُجبر على تعليم ابن المتنمّر الذي أساء لزملائه ، خاصّة هو لكونه فتى هزيلاً ويتيماً .. بينما سمير أضخم الأولاد وأكثرهم ثراءً ! لهذا تجنّب الأساتذة معاقبته رغم مشاغبته الدائمة ، بسبب تبرّعات والده (التاجر) لتحسين المدارس التي تعلّم فيها ابنه المدلّل ! ولم يتخلّصوا من أذاه إلاّ بعد انتقاله للمدينة لدخول جامعةٍ مهمّة ، بعكس زملائه الذين عملوا فور تخرّجهم الثانويّ لمساعدة اهاليهم بمصروف المنزل .. بينما أكمل مروان دراسته في جامعةٍ حكوميّة ، قبل عودته لتعليم اولاد قريته وهاهو المتنمّر يعود من جديد من خلال ابنه (ذوّ الثماني سنوات) الذي يأمل أن لا يكون سيئاً كوالده ، بعد انتقاله حديثاً لمدرسته المتواضعة فحاول الأستاذ تجاهل الوضع المزعج ، وبدأ بشرح الدرس الأول لمادة الرياضيات .. وبعد دقائق ، طلب من التلاميذ حلّ المسألة الرياضيّة .. ليكون وليد الوحيد الذي رفع يده بينهم ! فسمح له بالكتابة على السبّورة ، ليفاجأ بحلّه المسألة خلال ثواني ! فقال مروان بنفسه ، باستغراب : ((يبدو انه ورث الذكاء عن امه المسكينة التي تزوّجت ذلك الحقير)) وتابع شرح الدرس ، ليجد وليد أكثرهم مشاركة .. كما لاحظ سلوكه الجيد بردّه على الأسئلة ، وحديثه مع زملائه ! فهل هو ابن سمير بالفعل ، ام مجرّد تشابه اسماء ؟! *** بعد انتهاء الحصّة ، نزل الأولاد لتبديل ملابسهم للرياضة البدنيّة .. ولأن الأستاذ مروان مُتفرّغ للحصّة التالية ، راقب وليد وهو يلعب في ساحة المدرسة .. حيث كان لاعباً جيداً ، وبارعاً بتمرير الكرة لفريقه.. بعكس والده الذي كان يستحوذّ على الكرة ، بحجّة والده الذي دفع ثمنها ..ودائماً ما يُفسد اللعبة على الجميع ! *** ظلّ الصغير يشغل بال الأستاذ مروان الذي راقبه ايضاً في فرصة الطعام ، ليشاهده وهو يشارك حلوياته مع اصدقائه الجدّد الذين تجمّعوا حوله لسماع نكاته ، حيث تميّز بخفّة الدم .. بعكس والده الذي كان يرمي وجبات التلاميذ الضعفاء في سلّة النفايات ، ويسكب عصيره فوق حقائبهم المدرسيّة .. عدا عن إستفزازهم بألقابٍ مسيئة ، تدمّر نفسيّاتهم لسنواتٍ طويلة ! *** قبل نهاية الدوام ، دخل الأستاذ مروان الى مكتب المدير .. واستأذنه بقراءة ملفّ وليد ، الذي كان مُرفقاً معه طلباً مقدّماً من الأم : بمراعاة ظروفه ، لعدم رؤيته اباه الذي سُجن قبل ولادته فسأل المدير عن الموضوع ! فأخبره إن سمير سُجن عشر سنوات بسبب طلبه الرشوى من المراجعين اثناء عمله بمؤسسة الضمان الإجتماعيّ ، وانه سيُطلق سراحه بعد شهرين.. الأستاذ مروان بضيق : أتمنى ان لا يفسد اخلاق ابنه بعد عودته لحياته المدير : لا تستعجل الأمور ، ربما انصلح حاله في السجن ..خاصة انه سيُسرّح قبل سنته الأخيرة ، لحسن سلوكه - هذا مُحال !! فهو فاسدٌ حتى النخاع .. كم أشفق على الصغير الذي سيُصدم بأخلاق والده السيئة - المهم أن لا يؤثّر ذلك على مستواه الدراسيّ مروان : بالتاكيد سيؤثّر !! وربما يعلّمه اساليبه الملتويّة بالتعامل مع الطلاّب والأساتذة .. ويحوّله من طالبٍ محبوب ، لمتنمّرٍ مكروهٍ مثله - المهم أن ننتبه على وليد ، فوالدته تعبت كثيراً بتربيته وحدها مروان بعصبية : سأحاول .. لكن إن ساءت اخلاقه بعد عودة والده ، سأطلب نقله لصفٍّ آخر .. فأنا لا اريد التصادم مع سمير الذي نغّص طفولتي ومراهقتي المدير : حسناً كما تشاء *** مرّ شهران ، أصبح فيهما وليد من المتفوّقين بالمدرسة .. وذات يوم ، وبعد خروج الطلاّب لفرصة الغداء .. إقترب وليد من الأستاذ وهو يقول : - هل يمكنني إخبارك بشيءٍ خاصّ ؟ الأستاذ مروان : ماذا تريد ؟ وليد بقلق : غداً يعود ابي للمنزل الأستاذ بضيق : هل سُرّح سمير من سجنه ؟! وليد بدهشة : من أخبرك بذلك ؟! - لا تقلق ، لن يعرف أحد بالموضوع وليد : انا خائف ، لأني لم اقابله بحياتي - الم تزره من قبل ؟! - رفضت امي ذهابي معها بأوقات الزيارة الأستاذ : لا تلومها ، فهو أفضل لنفسيّتك - وماذا عليّ فعله حينما اراه ؟ - أحضنه ، فهو سيكون مشتاقاً لك وليد : وعليّ إطاعة اوامره ، اليس كذلك ؟ فتنهّد الأستاذ بغيظ : فقط الجيدة منها - ماذا تقصد ؟! الأستاذ بتردّد : لم أكن اريد اخبارك .. لكني كنت مع والدك من الإبتدائي حتى الثانويّة وليد بدهشة وفرح : انتما اصدقاء ؟! - لم نكن مقرّبين من بعضنا ، فقط تعلّمنا معاً وليد باهتمام : وكيف كان ابي ؟ هل كان متفوّقاً مثلي ؟ وهل لديه الكثير من الأصدقاء ؟ أكان طالباً مثاليّاً ؟ فلم يرغب مروان بكسر خاطره ، فكذب قائلاً : - نعم .. كان رائعاً مثلك وليد بحماس : ممتاز !! يعني سنتفاهم معاً .. شكراً استاذ ، كنت خائفاً من مقابلته .. لكن طالما أشبهه ، سيكون لقائنا ممتعاً وخرج سعيداً من الصفّ ، تاركاً استاذه بحيرةٍ وقلق : ((ترى هل اخطأت ! هل كان عليّ تحذيره من طباع والده الشريرة ؟! ...كان الله في عونك يا صغيري)) *** في اليوم التالي .. تفاجأ مروان بدخول سمير مع ابنه الى غرفة الأساتذة (التي كانت خالية ، فمروان الوحيد الذي لم يكن لديه حصةً اولى) حيث ظهر سمير مختلفاً تماماً عن طفولته ! فهو بدى هزيلاً وكبيراً بالسن ، كأنه جدّ وليد وليس والده ! واقترب من مكتبه ، رافعاً يديه .. سمير بحماس : مرحباً مروان !! لم أصدّق حين أخبرني ابني انك استاذه المفضّل .. تعال بالأحضان يا صديقي الوفيّ وحضنه بقوة ! فقال مروان للصغير وهو يكتم غيظه : - إذهب لصفّك ، فعليّ التحدّث مع والدك قليلاً وليد : حاضر استاذ !! وبعد ذهابه ، وجلوس سمير امام مكتب مروان : - كيف حالك يا صديقي ؟ مروان بعصبية : توقف يا سمير !! انت تعلم أننا لسنا اصدقاء فطأطأ سمير رأسه بحزن : - معك حق ، كنت ولداً سيئاً للغاية مروان بقهر : كنت متنمّراً على الجميع ، خاصّة عليّ !! - لهذا تفاجأت حين أخبرني ابني بأنك مدحتني امامه ! - لأنه ولدٌ صالحٌ وذكيّ ، ومتعاون مع زملائه .. بعكسك انت!! سمير : لاحظت ذلك ، فوالدته أحسنت تربيته بالفعل.. وربما أبعدني الله عن حياته ، كيّ لا أفسده بطباعي السيئة .. لكن أحلف لك إن السجن غيّرني تماماً - هذا واضح ! فماذا حصل لك ؟ فتنهّد سمير بألم : - تنمّر عليّ المساجين والحرس ، فشعرت بألمك انت وبقيّة الطلاّب الذين أتعبتهم بتصرّفاتي المستهترة.. وأدركت انني أفسدت مستقبلي بعدم اهتمامي بإكمال دراستي الجامعيّة.. ولولا وساطة ابي ، لما توظّفت بالضمان الإجتماعيّ التي أفسدتها ايضاً بأخذ الرشاوي من المراجعين مروان : لم يكن خطؤك وحدك ، فوالدك أفسدك بدلاله الزائد سمير : كنت ابنه الوحيد .. وهو تساهل بعدم عقابي على أخطائي المتكرّرة ، مما دمّر مستقبلي ! رحمه الله .. (ثم تنهّد بضيق).. ما يهمّني أن لا يقلّدني وليد ، فأنا أخجل كثيراً من ماضيّ القذر مروان : لا تقلق ، ابنك تربّى على الأخلاق الحسنة.. وكل الأساتذة معجبين بذكائه وسلوكه المُشرّف - جيد ان امي أجبرتني على الزواج من قريبتها المتديّنة ، بعد أن كنت مُغرما براقصةٍ فاسدة ! وهاهي زوجتي الصالحة تحمّلت غيابي لسنوات ، وربّت ابني أحسن تربية.. انا حقاً فخوراً بعائلتي ، وبك ايضاً .. يا صاحب العيون الأربعة مروان باستغراب : أمازلت تسخر من نظّاراتي ؟! سمير مبتسماً : أمزح معك ، فأنا اتيت لأشكرك على اهتمامك بإبني - هذا واجبي .. ماذا عنك ؟ ماذا ستعمل بعد طردك من وظيفتك السابقة ؟ سمير : سأدير مستودع الخردوات الذي ورثته عن والدي ..وسيساعدني موظفوه القدامى على فهم العمل الذي رفضّته سابقاً ! سأبدأ غداً - وفّقك الله - شكراً يا صديقي... أقصد استاذ مروان مروان : لا بأس ، فنحن مازلنا زملاء قدامى وسلّما على بعضهما بعد ذهاب سمير ، قال مروان بنفسه بدهشة : ((سبحان مُغيّر الأحوال ! جيد اني لم أنتقم من ابنه .. بل فزت بتلميذٍ مجتهد ، مع احترام والده .. بالنهاية جميعنا خطّاؤون ، وعفا الله عمّا سلف)) ثم توجّه مروان لصفّه وهو يشعر بالرضا ، بعد أن ساهمت مقابلته لعدوّه اللّدود بمحوّ ذكرياته السيئة التي نغّصت حياته لسنواتٍ طويلة !

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا