من العالم الاخر

  • الكاتب : محمد يحي
  • / 2022-11-14
من العالم الاخر في تلك الليلة الموحشة , حاول القمر بنوره المتواضع ان يُخفّف بعضاً من ظلمتها الكئيبة , رغم كثافة الضباب الذي خيّم حول السيارة المتوقفة هناك , بسبب نفاذ وقودها .. ليجدوا الأصدقاء الثلاثة : مالك ، أحمد , و يزن .. انفسهم بعدما انقطعت فيهم السبل , عالقين في وسط غابة يكاد لا يكون فيها شكل من أشكال الحياة , غير اشجارٍ عملاقة مُخيفة المنظر , مُتناغماً مع صوت حفيفها المرعب ! مالك مُحدِّثاً أصدقاءه : -يا أصدقاء !! يبدو أننا علقنا ! .. و لا أظن أننا سنجد أحداً هنا , خاصة بهذه الساعة المتأخرة !.. فلنبيت الليلة في السيارة منتظرين حلول الصباح , و حينها نحاول ان نطلب العون من .. يزن بعصبية : -سنطلب العون ممّن , يا مالك ؟!! الم اطلب منك : أن نبقى على الطريق العام ؟ لما اصريّت على سلوك هذا الطريق .. احمد مقاطعاً : اهدأ يا يزن !! هو اراد ان نسلك طريقاً مختصراً -يزن بغضب : و ياله من طريق !! .. انظرا الى تلك الغابة الموحشة .. لو امعنّتما النظر اليها , لاستشعرتم مثلي بوجود من يراقبنا من بين تلك الأشجار , التي تبثّ الرعب في النفس ! -أحمد ضاحكاً : على مهلك يا يزن ! لا تقل لي أنك تصدّق ما تراه في أفلام الرعب , فهي مجرد أساطير لا أكثر . -يزن بعصبية : الأساطير لا تأتي من عبث , يا صديقي !! -مالك : كفى يا أصدقاء ! هذا ليس وقتاً للجدال !! -احمد : مالك معه حق .. و لنحمد الله , على انه مازال معنا عدّة التخييم .. -يزن مقاطعاً بعصبية : اتريد ان تخييّم هنا ايضاً !! على الأقل المنطقة التي خيّمنا بها منذ ايام , كانت فيها تغطية للجوّال .. لكن هنا لا يوجد ايّ شيء .. انظر و تأكّد بنفسك من جوّالك !! -مالك : من الأفضل ان نطفىء الجوّالات , لنحافظ على شحنه … احمد !! اعطنا كشّافات النور , في حال احتجناها لقضاء حاجتنا .. و غداً بإذن الله نجد حلاً لمصيبتنا هذه -يزن بقلق : اتمنى ان امسك نفسي حتى الصباح , فأنا لا اريد الخروج اصلاً من السيارة ! و بعد دقائق .. حلّ الصمت في السيارة .. بعدما تمكّن الأصدقاء من تجاهل قلقهم , و الخلود الى النوم .. *** القمر البدر في منتصف السماء , كان يضيء جزءاً من ظلمة المكان المحيط بهم .. و بحلول الساعة الثانية بعد منتصف الليل , كان أحمد الوحيد بينهم الذي جافاه النوم …فظلّ يتأمّل بعيونه الناعسة اشجار الغابة , و طريقة تحرّكها المهيب مع الرياح .. و فجأة !! اصطدم حجرٌ صغير بزجاج السيارة (من جهته) .. فتفاجئ أحمد ! لأن الحجر لا يمكنه أن يطير لوحده هكذا ! فنظر إلى أصدقائه , و وجدهم يغطّون في نومٍ عميق zZz !!! تجاهل أحمد ما حدث , و أغمض عينه في محاولة أخرى منه للنوم ..و إذّ بحجرٍ صغيرٍ آخر يُقذف نحو نافذته من جديد ! و هنا !! قرّر ان يخرج من السيارة ليتفقّد المكان في الخارج .. و صار يمشي و يمشي حاملاً كشّاف النور , دون ان ينتبه على انه ابتعد كثيراً عن السيارة .. ثم احسّ بشيءٍ غريب , جعله يرتبك ! .. فنادى بصوتٍ معتدل : -هل من أحدٍ هنا ؟!! لكن ما من مجيب ! فصار يحدّث نفسه : ما هذا الشعور المخيف ؟! .. لما أشعر بوجود من يراقبني ؟! … يا إلهي ! هل كان شعور يزن صائباً ؟! و إذّ بصوتٍ اجشّ يجيبه : -ربما .. شعور يزن صائباً !! أحمد يكّلم نفسه : يا ويلي ! من هذا ؟! ..و كيف سمع ما قلته لنفسي ؟! ثم صرخ قائلاً : -من أنت ؟!! هيّا أظهر نفسك !! و فجأة !! يتحرّك شيءٌ ما , من بين الأشجار بسرعة غير طبيعية ! و الظلام المخيّم في المكان , زاد من رهبة الموقف ! فصار أحمد يتلفّت من حوله بفزع !.. و اذّ به يلمح عيوناً كثيرة تطلّ نحوه من خلف الأشجار ! فيرتبك و يتراجع للخلف بسرعة , ليتعثّر بحجر ..و يسقط على رأسه مغشياً عليه . *** مالك و يزن الذين كانا يغطّان في نومٍ عميق , استيقظا على صوتٍ قادم من عُمق الغابة .. صوتٌ بدأ يرتفع تدريجياً , و كان أشبه بالصياح ! هنا !! انتفض مالك قائلاً : – ما الذي يحدث ؟! -يزن : لا أدري ……. و أين أحمد ؟! فصار مالك ينظر من زجاج السيارة في جميع الإتجاهات : -تباً ..انا لا اراه ! هيّا يا يزن , علينا ان نخرج و نبحث عنه ..هناك شعوراً سيئاً يراودني ! ثم نزلا من السيارة و معهم كشافيّ النور , و صارا يناديان عليه بصوتٍ عالي : -أحمد !! اين انت ؟!!! لكن ما من مجيب ! فقال مالك : -اسمع !! سأبحث انا من هذا الإتجاه .. و انت خذّ ذلك .. يزن مقاطعاً و بقلق : -لا !! من الأفضل ان لا نفترق .. بصراحة يا مالك , انا خائفٌ جداً ! -يزن !! هذا ليس وقتاً للخوف .. قد يكون صديقنا في خطر … و بعد ان اقنعه , افترقا للبحث عن صديقهم أحمد . *** في هذه الأثناء .. استيقظ أحمد ليجد نفسه واقعاً على الأرض , و قد شجّ رأسه .. و كان مُحاطاً بعددٍ مهول من العظام و البقايا البشريّة الغارقة في بركة دماء , و مستنقعٍ من الأشلاء النتنة ! فصار يكلّم نفسه , و هو يرتجفّ من الخوف : يا الهي ! ما هذا المكان المرعب ؟! ..أين أنا ؟! و لمن تعود كل تلك الجثث المتعفّنة ؟! …(ثم صار يسعل) ..اكاد اختنق من هذه الرائحة المُقرفة !! فردّ عليه صوت من العدم : -مرحباً بك في العالم الآخر !!! ثم تبِعَ جملته , ضحكاتٌ هستيرية ! -أحمد خائفاً : من أنت ؟! … أظهر نفسك !! و لم يكد ينهي كلامه .. حتى تراءى له من بعيد ..عيوناً كثيرة حمراء اللون , واسعة و مستديرة الحدقات , مع ابتساماتٍ مخيفة جداً ! ثم علا صوت التصفيق و التصفير من كل مكان ! فصرخ أحمد بفزع : -من انتم ؟!! و ماذا تريدون مني ؟! .. انا لم افعل شيء ! ..رجاءً أخرجوني من هنا !! و دعوني اعود إلى بيتي .. أتوسّل اليكم !! فأجابه الصوت : -و هل من الحكمة أن نُخرج فأراً من المصيدة ؟ ثم تعالت أصوات الضحكات الهستيرية .. و أحمد مُتجمّدٌ في مكانه من شدّة الخوف ! *** في مكانٍ آخر من الغابة .. و بعد ان افترقا مالك و يزن كلاً في طريقه , للبحث عن احمد الضائع كان يزن يمشي بموازاة الغابة , فهو لا يريد التوغّل فيها بهذا الظلام الحالك .. و رغم انه مازال يمشي على الإسفلت , الاّ ان الضباب كان يعيق رؤية نهاية هذا الطريق الطويل .. و فجأة !! سمع صراخاً قادماً من بين الضباب : -أنقذوووووني !!!! .. أنقذووووني !!!! فركض يزن مُسرعاً نحو الصوت , ظنّاً منه : أنه صديقه أحمد ! فواصل الركض , الى ان بدأ الصوت يتضح تدريجياً .. ثم اختفى فجأة ! دقائقٌ مرّت و يزن مازال يتلفّت يُمنةً و يسرى , و هو ينادي هنا و هناك بقلق : -احمد رجاءً !! قلّ ايّ شيء لأعرف مكانك !! و اذّ به يلمحه من بعيد ! كان احمد يمشي باتجاهه ببطء , خافضاً بصره نحو الأرض ! ..فركض يزن اليه بفرح : -أحمد !! الحمد لله على السلامة .. أين كنت يا رجل ؟! ظننّا بأن مكروهاً أصابك ! فرفع احمد بصره اليه .. و لاحظ يزن على الفور : بأن عين احمد غَارَتِ في حَدَقتِها , و كانت شديدة الإحمرار ! و قد شحب وجهه تماماً .. ثم قال احمد بصوتٍ خشنٍ مبحوح : -من هو أحمد ؟! عندما رأى يزن ما حلّ بصديقه ! أطلق رجليه للريح و فرّ هارباً , في محاولة لإيجاد مالك و تحذريه من الخطر المحدّق بهما . *** في مكانٍ آخر .. مالك الذي لم يثمر بحثه عن احمد بشيء , قرّر العودة إلى السيارة لينتظر صديقاه بداخلها .. و في طريق عودته , سمع صوتاً من بعيد يقول له : -اقترب !! .. اقترب أكثر . و مالك كان اشجع اصدقائه .. لهذا الصوت لم يفزعه , بل على العكس !! صار يتتبّع مصدره بخطواتٍ ثابتة … الى ان اختفى الصوت فجأة ! *** يزن الذي ركض مسافةً طويلة , توقف قليلاً ليلتقط أنفاسه و هو مازال يفكّر : ما الذي حدث ؟! ماذا أصاب أحمد ؟! لم تغيرت ملامحه هكذا ؟! و إذّ بصوتٍ يقطع تسلّسل أفكاره : -أحمد لم يعد لكم !! فيصرخ يزن بفزع و غضب : -من هناك ؟!! .. مالك !! اذا كان هذا انت , فلا وقت ابداً للمزاح .. فأحمد اصيب بشيء .. ثم توقف عن الكلام , و صار يحدّث نفسه : لحظة ! ..كيف لمالك أن يقرأ أفكاري ؟! … اوووفّ ! ما هذه الرائحة النتنة ؟! و كأني أقف في مكبٍّ للنفايات ! ثم انتبه يزن الى اقتراب مجموعة من المخلوقات الغريبة نحوه , كانت اشبه بإشلاءٍ بشرية مُتحرّكة ! و كان من بينهم احمد .. و جميعهم ينظرون إليه , كأنه وجبة شهيّة على طبقٍ من ذهب ! يصيح يزن بفزعٍ شديد : -من أنتم ؟!! و ماذا تريدون مني ؟ انا لم اؤذيكم بشيء ! رجاءً لا تقتربوا مني !! … احمد !! اهرب منهم بسرعة , و دعنا نبتعد عن هذا المكان !!… احمد رجاءً !!! *** بعد ان اضاع مالك ذلك الصوت , وجد نفسه في وسط الغابة المُلتفّة الأغصان .. و علم انه أضاع الطريق ! فصار يحدّث نفسه بقلق : يالا غبائي ! كيف سأخرج الآن من هذه الورطة ؟! و في هذه اللحظة ! يتناهى الى سمعه سعال شخصٍ ما ! فيقترب مالك من مصدر الصوت , ليرى عجوزاً يسير بخطواتٍ مُتثاقلة ! فيدنو منه بتردّد , و يقول له : – يا عمّ !! .. يا عمّ , هل تسمعني ؟! … مرحباً !! – مالذي اتى بك الى هنا , في مثل هذا الوقت المتأخّر ؟! – بصراحة , كنت سأسألك السؤال ذاته ؟ .. ثم كيف تمشي يا عمّ , دون كشّاف نور ؟! – نور القمر يكفيني فاستغرب مالك من كلام العجوز ..فنور القمر بالكاد يستطيع ان يتخلّل بين كل هذه الأغصان المُتشابكة داخل هذه الغابة .. لكنه تجاهل الأمر , و حاول الإستفسار اكثر .. -و هل انت من سكّان .. العجوز مقاطعاً و بجديةّ : -ماذا تريد مني بالضبط , ايها الشاب ؟!! -كنت انا و صاحبيّ قد سلكنا هذا الطريق , بعد ان انهينا تخيّيمنا بالمنطقة المجاورة …لكن لسوء حظنا ! نفذ الوقود , فتوقفت السيارة امام هذه الغابة .. و بعد ساعات , ضاع صديقي الأول ! .. (ثم صار يتلفّت حوله) ..و اظنّني الآن اضعت الآخر ! و احتاج مساعدتك لإيجادهم .. فهل تستطيع ان تدلّني على .. مقاطعاً : – ما رأيك أن تأتي لكوخي ؟ فهو قريبٌ من هنا -ماذا ! ..ألم أقل لك يا عم , أنني أبحث عن صديقايّ .. فكيف تريدني ان انعم بمكانٍ دافئ ! و هما في مكانٍ ما , يواجهان برد و وحشة الغابة ؟! -بنيّ !! اسمع الكلام , و لا تتعبني معك .. فلم يبقَ على بزوغ الفجر سوى ساعتان .. و حينها نبحث عنهما سويّاً .. – و هل لديك هاتفاً في كوخك ؟ -بالتأكيد !! و يمكنك الإتصال بالشرطة ليساعدوك ففكّر مالك قليلاً , ثم قال : -تمام ..تبدو فكرة جيدة .. هيا اذا !! لنذهب يا عمّ *** بعد ان توغلا اكثر في الغابة , وصل العجوز مع مالك إلى كوخٍ خشبي قديم .. و بعد ان دخلا .. صار مالك يدير الكشّاف في ارجاء المنزل المظلم , باحثاً عن شيء .. ثم قال : -أين تضع الهاتف , يا عم ؟! لكن الرجل لم يجيب ! بل كان مشغولاً بإنارة قنديل الغاز , الموضوع فوق الطاولة في آخر الصالة .. فيعيد مالك عليه السؤال , بعد ان رفع صوته ليسمعه : -يا عم !! أين الهاتف ؟! عليّ أن اكلّم الشرطة حالاً , حتى يصلوا في الوقت المناسب . ثم التفت الرجل المسنّ إلى مالك .. و هو يرفع القنديل امام وجهه , لتظهر ابتسامته المخيفة : -عن أي هاتف تتحدّث ؟ فصعق مالك من هول المنظر ! و صار يكلّم نفسه : ما هذا ؟! هل تغيرت ملامحه فجأة ؟! ام انني لم انتبه جيداً على وجهه القبيح ! و كان العجوز يقترب منه بخطواتٍ بطيئة .. فحاول مالك الهرب , لكن قدميه تجمّدتا من الخوف .. فحدّث نفسه بقلق : يا إلهي ! مالذي يحصل معي ؟! هيا تحرّكي , أيتها اللعينة !!! لكن لا فائدة , فقدميه التصقتا بالأرض ! فلم يجد نفسه الا و قد اخرج مفتاح السيارة و غرزها بقوة في قدمه .. و اذّ بجسمه ينتفض , بعد ان شعر بالألم .. فتحرّرت قدماه , لينطلق مسرعاً نحو الباب .. لكنه يجده مقفولاً ! و صار العجوز يقترب منه ببطء , مُصدراً صوتاً يشبه الزمجرة ! فما كان من مالك الاّ ان رمى بكرسي (وجده امامه) على النافذة .. فكسرها .. ثم اسرع بالقفز منها , و الهرب من ذلك الكوخ الملعون ! و ظلّ مالك يركض في الغابة بكل ما اوتيّ من قوة .. الا انه انتبه بعد دقائق , بأنه اضاع الطريق .. فصار يبحث هنا و هناك بقلق و بشكلٍ عشوائي , الى ان وصل إلى طريقٍ كان قد مشى فيه من قبل .. فسار فيه , حتى وصل اخيراً للسيارة .. و من بعيد , لاحظ جلوس يزن في المقعد الخلفي .. فأسرع اليه !! و دخل (مالك) الى السيارة كالمجنون , و إقفل بابها بسرعة !! و قال ليزن بصوتٍ مُرتجف : -علينا ان نهرب من هنا بسرعة !! فالمكان أصبح خطيراً ! لكن يزن لم يجيب ! ..فالتفت مالك الى الخلف بغضب , ليرى يزن مُخفضاً رأسه ! -يزن !! ما بك ؟! أهذا وقت النوم ؟!! -يزن بصوتٍ خشن : من هو يزن

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا