العصر المظلم:
شهدت مصر الغزو الآشوري لمدة 14 عاماً، لم تعرف فيهم البلاد سوى الظلم والذل والانحدار، وبحلول 653 ق.م تمكن "إيبسماتيك الأول" من طرد "الآشوريين" بفضل المرتزقة اليونانيين الذين تم تجنيدهم لتشكيل أول بحرية مصرية، وهو كان أول فراعنة "سايس الست"، من الأسرة السادسة والعشرين، وكان من أحفاد "با كن رع نف". وبعد الغزوات الآشورية في عهد "طهارقة" و"تنتاماني" اعترف به كملك أوحد على كل مصر.
وطغى على البلاد التأثير اليوناني بشكل كبير، وأصبحت مدينة "نيكراتيس" (كانت توجد بدلتا النيل) وطن اليونانيين في منطقة الدلتا، وكانت مقراً جديداً وعاصمة لـ "سايس"، وكان أبسامتيك قد عقد تحالفات مع "غيغس" ملك ليديا (كانت في آسيا الصغرى)، وجنود مرتزقة من اليونان وكاريا (كانت دولة بآسيا الصغرى) ضد الآشوريين، وبعد تدمير عاصمتهم نينوى في 612 ق.م وسقوط الدولة الآشورية، حاول "إبسماتيك" وخلفاؤه إعادة بسط نفود مصر في الشرق الأدنى مجدداً، ولكن ردعتهم أيادي الإمبراطورية البابلية الجديدة بقيادة "نبوخذ نصر الثاني"، وبمساعدة المرتزقة اليونانيين استطاع "أبسماتيك" صد محاولات البابليين لغزو مصر، ولكن لم يستطع صد محاولات الفرس، ففي عام 525 ق.م، بدأ الفرس بقيادة "قمبيز الثاني" غزوهم لمصر، ثم انهزمت الجيوش المصرية وتم أسر الملك "أبسماتيك الثالث" في معركة "الفرما"، ثم تولى "قمبيز الثاني" حكم مصر رسمياً برغم أنه لم يعش فيها، فلقد حكمها من مسقط رأسه "شوشان"، وترك مصر تحت حكم أحد "الساتراب" (هو اللقب الرسمي لحاكم المقاطعة في الدولة الميدية ثم الفارسية القديمة)، وعندما جاء القرن الخامس قبل الميلاد انتشرت الثورات المصرية ضدهم، وبالفعل نجح بعضها، إلا أنها لم تكن بالقوة القادرة على الإطاحة بالفرس، وكانت مصر مع قبرص والفينيقيون تابعة لـ "الساتراب السادس" من الإمبراطورية الفارسية، وفي عام 402 ق.م انتهت الفترة الأولى من الحكم الفارسي على مصر، والمعروفة أيضاً بالأسرة السابعة والعشرين، ثم في الفترة ما بين 380 – 343 ق.م، حكمت الأسرة الثلاثون كآخر الأسر الملكية في مصر، ثم حدثت بعد ذلك محاولة ضعيفة لاستعادة الحكم الفارسي، تعرف أحياناً باسم الأسرة الحادية والثلاثين، والتي بدأت في 343 ق.م، وانتهت بعدها في 332 ق.م بتسليم الحاكم الفارسي "مازاسيس" مصر إلى الإسكندر الأكبر من دون قتال.
حكم أسرة البطالمة:
بدأت هذه الأسرة بغزو الإسكندر الأكبر مصر في 332 ق.م، والتي احتلها دون مقاومة تذكر من الفرس، وكان قد اندمج بين المصريين ورحبوا به باعتباره "المنجّي" من الحكم الفارسي البشع، وأعلن الإسكندر أنه جاء مصر حليفاً وصديقاً ولم يكن غازياً، واستند هو وخلفاؤه على النموذج المصري في الحكم. وبنى عاصمتها الجديدة "الإسكندرية"، وأصبحت مقراً للتعليم والثقافة، وتركزت المعرفة في مكتبة الإسكندرية الشهيرة، وكان الغرض الأساسي لها هو عرض قوة وسيادة وثقافة الحكم اليوناني، وازدهرت التجارة في عصر البطالمة، وأضاءت منارة الإسكندرية الطريق لكثير من السفن التجارية البعيدة، واعتبر المصريون البطالمة جزءاً منهم وأيدوهم، لأنهم اندمجوا وتزاوجوا في مصر، وعاشوا بالطريقة المصرية، وعبدوا آلهتها، وعلى رأسهم "آمون"، حتى الإسكندر نفسه كان قد نصبه المصريون ابناً للإله آمون. ولم تحل الثقافة اليونانية محل الثقافة الوطنية المصرية، حيث أيد البطالمة التقاليد الاجتماعية المصرية أيضاً، وقاموا ببناء معابد جديدة بنفس الطراز المصري لدعم المعتقدات الدينية التقليدية، وصوروا أنفسهم فراعنة، واندمجت بعض التقاليد المصرية واليونانية معاً، حتى الآلهة المصرية اندمجت مع اليونانية في إطار ديني واحد، وتأثرت الزخرفة اليونانية بالزخارف المصرية التقليدية.
في عهدهم استقرت الحياة في مصر بنسبة كبيرة، وكانت مصر وقتها تُصدر الحبوب إلى روما، تلك القوة الصاعدة الجديدة، وأولى الرومان اهتماماً كبيراً للحالة السياسية بمصر الخيرة، وعندما بدأت الفترة البطلمية بالهبوط (يعتبر العصر الذهبي للبطالمة منتهياً في وجهة نظري بعد انتهاء عهد بطليموس الرابع، ثم ما بعد ذلك انحدار) اشتدت الثورات المصرية بسبب سوء الأحوال، ثم ظهر الطموح السياسي لدى البعض، وخرجت أنياب المعارضين السوريين الأقوياء، ما أدى كل ذلك إلى عدم استقرار الأوضاع الداخلية، وأجبر روما على إرسال قوات لتأمين البلاد باعتبارها حليفاً للإمبراطورية الرومانية، وتبعت مصر الإمبراطورية الرومانية ولكن اسمياً فقط، حتى مات "يوليوس قيصر"، وانقسمت الإمبراطورية بين "أوكتافيوس" و"أنطونيوس".
هذه قصة تلك الحضارة الطويلة، والتي انتهت بقصة وقوف "كليوباترا" هذه التي تنم عن القلق والتوتر، ولا تعلم "كليوباترا" أنها تنظر من شرفة قصرها على المستحيل الذي لن يأتي. استفاقت تلك الملكة من شرودها وتفكيرها في الماضي على صوت الحارس بأن رسولها على الباب، فدخل الرسول حضرتها على استحياء، فهو مستاء جداً لأن بحوزته خبرٌ مؤسف، خبر انتحار "أنطونيوس"، نعم لقد انتحر، فلقد دس له أعداؤه رسالة كاذبة مفادها إلقاء القبض على "كليوباترا"، فأقدم على الانتحار.
انهارت "كليوباترا" انهياراً شديداً عندما سمعت هذا الخبر، ثم وقفت بهدوء تام لتقرر الانتحار هي الأخرى، وطلبت من حارسها إحضار السم، فانتحرت بعد هذا الانتظار الممل، ليكون هذا اليوم 12 أغسطس عام 30 قبل الميلاد هو نهاية آخر حاكم بطلمي، عن عمر ناهز 39 عاماً، لينتهي على يدها حكم البطالمة للأبد وحكم الأسر القديمة بصفة عامة.
وقصة موتها بلدغة الحية قد شكك فيها الكثير من المؤرخين، ورجح الكثيرون في أنها ماتت لشربها توليفة أو "كوكتيل" من العقاقير، واستند بأن لدغة الأفعى كانت ستعرض "كليوباترا" لألم شديد ومبرح وطويل قبل الوفاة، بجانب التشويه الجسدي الذي كان سيلحق بها، على عكس مبدأ "كليوباترا" تلك المرأة الجميلة والمعتزة بمفاتنها. على كل حال انتحرت "كليوباترا"، واحتل الرومان مصر، وقتلوا ابنها من يوليوس قيصر "قيصرون" خوفاً من أن يكبر ويطالب بالإمبراطورية الرومانية كوريث لأباه وولي عهده.
- ملحوظة مهمة: يعتقد الكثير من الباحثين أن الحضارة المصرية القديمة قد انتهت بالفعل عند غزو مصر من قِبل الإسكندر الأكبر، والغالبية أجمعت أن أسرة البطالمة من وُلد منهم وعاش في مصر عبر السنوات يُعتبر مصرياً، لكنه فقط مختلف في الأصول، حيث إنهم حكموا كمصريين وعبدوا الآلهة المصرية، وترابطوا واندمجوا داخل السمات والعادات المصرية، حتى إنهم تكلموا بالمصرية تماماً كما ذكرنا.
الفترة الانتقالية الثالثة (عصر الاضمحلال الثالث):
تولى الملك "سمندس" مؤسس الأسرة الحادية والعشرين الحكم بعد وفاة "رمسيس الحادي عشر" في 1078 ق.م، وفرض سلطته بالقوة على الجزء الشمالي من مصر، ثم جعل مدينة "تانيس" هي المقر السياسي للحكم، ولكن لم يكن الجنوب مخلصاً لولائه، فما زال كهنة آمون في طيبة هم المسيطرون، ولضمان مصالحهم قاموا بالاعتراف بحكم "سمندس" ولكن اسمياً فقط.
كانت هناك قوة كامنة تنتظر أي إخفاق لتنقض وكأنها ضباع متوحشة، إنها القبائل الليبية التي اندمجت واختفت ضمن قبائل منطقة غرب الدلتا، وبدأ شيوخ تلك القبائل في زيادة سلطتهم تدريجياً في السر، وما لبثوا حتى ظهر نفوذهم الأول، وأعلنوا سيطرتهم على الدلتا تحت إمارة "شيشنق الأول" عام في 945 ق.م، ومنها إلى الجنوب، وقام "شيشنق" بوضع أفراد من أسرته في مراكز كهنوتية مهمة، وأسس ما يسمى أسرة "بوباستيس" وحكموا البلاد لمدة 200 عام، بعدهم بدأت سيطرة الليبيين في الانحدار والاندثار، فظهرت قوات متعددة منافسة لهم في منطقة الدلتا، أما في الجنوب فبدأت أسرة مملكة "الكوش" النوبية تهاجمهم، ثم غزا "الكوشيون" مصر في عام 727 ق.م، على يد الملك الكوشي "بعنخي"، فاستبدل الغزو بغزو، وانهارت هيبة مصر، وقل حلفاؤها الأجانب، ثم طغى على الشرق نفوذ الإمبراطورية الآشورية، والتي استهدفت غزو مصر هي الأخرى، وبدء "الآشوريون" هجومهم وغزوهم على مصر في محاولات استمرت لمدة 4 سنوات ما بين 671 و667 ق.م، وحاربهم "الكوشيون" على يد "طهارقة" والذي حرر أورشليم لسنوات، ثم حاربهم خليفته "تنتاماني" فانهزم النوبيون الذين تمتعوا بالعديد من الانتصارات، ودفع "الآشوريون" "الكوشيين" للخلف وأجبروهم على العودة إلى النوبة وبلادهم الأصلية، واحتلوا "ممفيس"، لتبدأ حقبة مظلمة جديدة للبلاد.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا