ميلاد الدولة الوسطى:
اتسمت هذه الفترة بالرخاء والاستقرار، وظهرت المشروعات الضخمة، وعرفوا الفن والأدب، كان ذلك على يد حاكم الدولة الجديد ومؤسس الأسرة الحادية عشرة "منتوحوتب الثاني" وخلفائه، والذين جعلوا من طيبة عاصمة للبلاد. ثم جاءت الأسرة الثانية عشرة في عام 1985 ق.م، فتغيرت العاصمة وأصبحت "لتجتاوي" (تقع في الفيوم الآن)، وكان الملوك الأسرة الثانية عشرة فكراً حديثاً، فطوروا من نظام الري، ثم عرفوا استصلاح الأراضي فزاد على يديهم المدخول الزراعي للبلاد، كما انقضوا على الجنوب واستعادوا الحكم في منطقة النوبة الغنية بالمحاجر والألماس والذهب، وصنعوا "جدران الحاكم" لصد الهجمات الخارجية، وهو عبارة عن بناء هيكل دفاعي في شرق الدلتا. ثم تميز هذا العصر بالأمن السياسي والعسكري والزراعي، فارتقت الفنون، وتميز الأدب بالمؤلفات المتطورة، وظهرت موضوعات شخصية مكتوبة في أسلوب بليغ وجريء، مطعمة بالنحت النافر والذي ظهر بشكل تصويري لفترة الاعتقالات الخفية. أما الدين فكان قد علا شأنه، وظهر ما أسماه الباحثون في ما بعد باسم "ديموقراطية الحياة الآخرة"، والتي تعطي لكل فرد روحاً من الممكن أن تحيا بجوار الآلهة بعد الموت. وفي نهاية تلك الحقبة أو هذه الدولة الوسطى تولى "أمنمحات الثالث"، والذي بادر بفعل خطوة كانت هي الأخطر، حيث كان قد سمح للمستوطنين الآسيويين بالعيش في منطقة الدلتا، وكان هدفه نبيلاً، فكان الغرض هو توفير قوة عاملة كافية، خصوصاً بعد ازدهار التعدين النشط وبناء المدن. وبعد فترة لم تستقر مياه النيل ولم تكن فيضاناته كافية، ما أثر في الاقتصاد، وبدأت بوادر الاضمحلال إلى الفترة الانتقالية الثانية خلال عصر الأسرتين الثالثة عشر والرابعة عشر، ثم استغلت الطائفة الأجنبية الآسيوية التي استقدمها "أمنمحات" الموقف، وبدأوا في توحيد أنفسهم وسيطروا على منطقة الدلتا، ومنها إلى كل مصر لاحقاً، في بداية عصر مظلم سُمي بعهد "الهكسوس"، في حوالي عام 1650 ق.م.
الهكسوس - الفترة الانتقالية الثانية (عصر الاضمحلال الثاني):
انهارت الدولة الوسطى، وبالفعل سيطر المستوطنون الآسيويون الذين يعيشون في منطقة شرق الدلتا، وخصوصاً بلدة "زوان"، على المنطقة، واستطاعوا إجبار الحكومة المركزية على التراجع إلى "طيبة"، وقام الهكسوس أو "الملوك الرعاة" الذين انقضوا على الحكومة المصرية، ونصبوا أنفسهم ملوكاً بنفس طقوس المصريين. أما الحكومة المركزية المصرية المهزومة والمتراجعة ناحية "طيبة"، وجدت نفسها في مأزق كبير، فالآن أصبحوا محاصرين بين الهكسوس من الشمال، ومملكة كوش النوبية من الجنوب وهم كانوا حلفاء للهكسوس.
استمر الوضع كما هو عليه لمدة 100 عام، وكان حكم الهكسوس يتصف بالجهل والخمول الثقافي، ولم تشهد البلاد على أيديهم سوى الاضطرابات والصراعات، ثم ظهرت شوكة قوات "طيبة" من جديد، وشدوا من أزر بعضهم البعض، وجمعوا ما يكفي من القوة لتحدي الهكسوس، ونشب الصراع بينهم الذي استمر 30 عاماً، وكان هذا قبل حلول عام 1555 ق.م، ولم تشهد البلاد في تلك السنوات غير الفوضى والفتن والشرور، ثم بدأت بشائر النصر عندما تمكن "سقنن رع الثاني" وابنه الأكبر "كامس" من هزيمة النوبيين في الكوش، وعلم المصريون منذ ذلك الوقت، أنه لا يوجد شيء أكثر أهمية من الهيمنة العسكرية، وتطوير القتال بين الجيش المصري، ما استدعاهم بعد ذلك إلى توسيع حدود مصر، وتأمين هيمنتها بشكل كامل على الشرق الأدنى، لكن سرعان ما فقد "سقنن رع الثاني" حياته في إحدى المعارك معهم، ثم بعد ذلك ظهر الفارس الجديد "أحمس الأول" مؤسس الأسرة الثامنة عشرة، ابن الملك "سقنن رع" وشقيق "كامس" الأصغر من الأسرة السابعة عشر، وتعتبر الأسرات الخامسة عشر والسادسة عشر فترات انتقالية عاصرت وجود الهكسوس، واقترح العديد من المؤرخين أن للأسرة السادسة عشر فضلاً خفياً في تطوير الفكر الحربي وإعادة تكوين الجيش حتى استثمر ذلك الفكر والتطوير حكام الأسرة السابعة عشر، الذين هزموا الكوشيين ثم الهكسوس، حتى جاء أحمس الأول وقضى عليهم نهائياً في بداية الأسرة الثامنة عشر.
ميلاد الدولة الحديثة:
يعود الفضل في الحرب على "الهكسوس" والقضاء عليهم نهائياً في مصر لخليفة "كامس" الملك "أحمس الأول"، مؤسس عصر الدولة الحديثة التي تلت ذلك. وشهدت المملكة الجديدة فترة ازدهار غير مسبوقة بتأمين حدودها وتعزيز العلاقات الدبلوماسية مع جيرانها، كما زادت قوتهم واتسموا بشن الحملات العسكرية تحت قيادة "تحتمس الأول" وحفيده "تحتمس الثالث"، والتي بالفعل مدت نفوذ المصريين في سوريا وبلاد النوبة وكوش، وكان غرضها تقديم الولاء للملك، ومن ثم الهيمنة على الواردات الحساسة مثل البرونز والخشب وغيره.
كما أسس ملوك الدولة الحديثة فكراً دينياً عميق، كان هدفه تعزيز عبادة الإله "أمون"، وجعلوا من معبد الكرنك مقرا للعبادة، وبدأوا في تمجيد الإنجازات الخاصة بهم على الجدران والصروح، وعندما نصبت الملكة "حتشبسوت" على العرش بعدهم، استخدمت تلك الدعاية الدينية والخلفية العسكرية الناجحة، ليُثقل من كرسيها على العرش، والتي كانت قد حكمت بعد وفاة زوجها الملك "تحتمس الثاني" بكونها واصية على الملك الصغير "تحتمس الثالث" في البداية، ثم بكونها ملكة وابنة الإله "آمون" بعد أن نشرت قصة نقشتها في معبدها بالدير البحري، والتي تقول فيها إنها كانت نتيجة لقاء حميم بين آمون وأمها الملكة "أحمس" (إياح مس)، وشهد عصرها الإنجازات التجارية والدينية والمعمارية، ولكن بالرغم من إنجازاتها، سعى "تحتمس الثالث" لمحو إرثها قبل نهاية حكمه بشكل انتقامي بسبب اغتصابها عرشه. وعندما جاء عام 1350 ق.م، وصل "أمنحوتب الرابع" للحكم، وقام بتغيير اسمه إلى "إخناتون" ومعناه (عبد أتون)، وهاجم سلطة وقوة المؤسسة الكهنوتية وحارب الكهنة، وقام بالترويج لصالح إله الشمس "أتون" على أنه الإله الأعلى، وعلى أنه واحد لا شريك له، ثم وحد عبادة جميع الآلهة في عبادة "أتون"، ونهى عن عبادة آلهة أخرى غير "أتون"، ونقل العاصمة إلى مدينة "أخيتاتون" الجديدة (تل العمارنة بمحافظة المنيا حالياً)، ولم ينتبه للشؤون الخارجية وانشغل في نشر الدين. وبعد وفاته اختفت عبادة أتون، ثم قام من خلفوه وأشهرهم "توت عنخ أمون" و"خبر خبرو رع آي" و"حور محب" بمسح جميع التفاصيل العائدة لما أسموه "بدعة أخناتون" في تلك الفترة التي عرفت باسم "حقبة العمارنة"، وعادت البلاد لدياناتها الأولى. ثم جاء عام 1279 ق.م، حيث شهد تولي "رمسيس العظيم" كما أسموه، وهو "رمسيس الثاني"، وهو أكثر ملكاً أنجب أطفالاً في التاريخ المصري. كان فارساً شجاعاً وقاد بجراءة القوات في معركة "قادش" ضد "الحيثيين" في عام 1258 ق.م، والتي انتصر فيها بعد صراعات دامت 15 عاماً، والتي شهدت أقدم معاهدة سلام عرفها التاريخ، وعرف عصر "رمسيس الثاني" التطور والنهضة، وفيه تم بناء المزيد من المعابد، وإقامة العديد من النقوشات والتماثيل والمسلات.
شهدت مصر نهضة جبارة، وثروة عملاقة، وخيرات شتى، وشهدت تقدماً اقتصادياً واجتماعياً غير مسبوق، وكانت كل هذه الأسباب كفيلة بأن تكون مغرية للغزو من كافة القوات الأجنبية، لا سيما على رأسهم الليبيين وشعوب البحر، الذين ترصدوا للانقضاض على البلاد، وبالفعل هاجموا البلاد على مرات متتابعة، ولكن استطاع الجيش صد هذه الهجمات وردعها. ثم بعد ذلك زادت مصر في انطلاق حملاتها الخارجية بغير ترتيب، ففقدت مصر السيطرة على أراضي سوريا وفلسطين، ثم تأثرت بفعل المترصدين، وزاد تأثير التهديدات الخارجية مع تفاقم المشاكل الداخلية مثل الفساد وسرقة المقابر والاضطرابات التي عمت البلاد، وعلى رأس الفاسدين كان كبار الكهنة في معبد أمون في طيبة، حيث كانوا يقومون بسرقة مساحات شاسعة من الأرض والثروة، ما أدى كل هذا إلى انشقاق البلاد وضعفها خلال الفترة الوسطى الثالثة.
الفترة الانتقالية الثالثة (عصر الاضمحلال الثالث),َ
تولى الملك "سمندس" مؤسس الأسرة الحادية والعشرين الحكم بعد وفاة "رمسيس الحادي عشر" في 1078 ق.م، وفرض سلطته بالقوة على الجزء الشمالي من مصر، ثم جعل مدينة "تانيس" هي المقر السياسي للحكم، ولكن لم يكن الجنوب مخلصاً لولائه، فما زال كهنة آمون في طيبة هم المسيطرون، ولضمان مصالحهم قاموا بالاعتراف بحكم "سمندس" ولكن اسمياً فقط.
كانت هناك قوة كامنة تنتظر أي إخفاق لتنقض وكأنها ضباع متوحشة، إنها القبائل الليبية التي اندمجت واختفت ضمن قبائل منطقة غرب الدلتا، وبدأ شيوخ تلك القبائل في زيادة سلطتهم تدريجياً في السر، وما لبثوا حتى ظهر نفوذهم الأول، وأعلنوا سيطرتهم على الدلتا تحت إمارة "شيشنق الأول" عام في 945 ق.م، ومنها إلى الجنوب، وقام "شيشنق" بوضع أفراد من أسرته في مراكز كهنوتية مهمة، وأسس ما يسمى أسرة "بوباستيس" وحكموا البلاد لمدة 200 عام، بعدهم بدأت سيطرة الليبيين في الانحدار والاندثار، فظهرت قوات متعددة منافسة لهم في منطقة الدلتا، أما في الجنوب فبدأت أسرة مملكة "الكوش" النوبية تهاجمهم، ثم غزا "الكوشيون" مصر في عام 727 ق.م، على يد الملك الكوشي "بعنخي"، فاستبدل الغزو بغزو، وانهارت هيبة مصر، وقل حلفاؤها الأجانب، ثم طغى على الشرق نفوذ الإمبراطورية الآشورية، والتي استهدفت غزو مصر هي الأخرى، وبدء "الآشوريون" هجومهم وغزوهم على مصر في محاولات استمرت لمدة 4 سنوات ما بين 671 و667 ق.م، وحاربهم "الكوشيون" على يد "طهارقة" والذي حرر أورشليم لسنوات، ثم حاربهم خليفته "تنتاماني" فانهزم النوبيون الذين تمتعوا بالعديد من الانتصارات، ودفع "الآشوريون" "الكوشيين" للخلف وأجبروهم على العودة إلى النوبة وبلادهم الأصلية، واحتلوا "ممفيس"، لتبدأ حقبة مظلمة جديدة للبلاد.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا