مات الشاه تأليف إسلام ياسر عبدالرؤوف

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-03-09

قصة

مات الشاه

تأليف

إسلام ياسر عبد الرؤوف

عندما أتعمق في النظر إليه، أجده مكبلاً بالأصفاد مغموراً بالدماء، يجلس على كرسيه محاطاً من كل اتجاه، يبدو أنه لم يتبق سواه، على تلك الأرض ذات الرقع البيضاء والسوداء.. إنه حقاً قد مات الشاة.

(1)

حاول أن ينهي ضحكاته المتقطعة ونظر إلى (عمر) قبل أن يدلف إلى فصله وقال:

- هشوفك في الفسحة؟

- لا عندي مجموعة فلسفة مع (مينا).. هحضرها ولو اتبقا وقت ممكن أعدي عليك بس ما تعملش حساب كدا، في الأغلب مش هعرف.

حيا بعضهما البعض ثم دلف (عمر) إلى فصله وفعل الآخر الأمر نفسه، والآن بغياب الراعي عنه، قرر الكثير من الذئاب الذهاب نحو فريسة اليوم.

***

من بين كل هؤلاء الحضور كان يقف وحيداً يتحرك في الفناء بين الحين والآخر، يستمع تارة حديث بعض الفتية الذين يقفون حوله، لقد مر أسبوعان منذ التحاقه بالثانوية وبدون (عمر) هو لا يزال بمفرده تماماً، حتى معارفه من منطقة سكنه يتحاشون التعامل معه، التقطت أذناه حديث أحدهم حول الفتيات، لم يبد اهتماماً كبيراً لحديثهم لكنه أنصت باهتمامٍ إلى مغامراتٍ أخرى مع المشاكل والعرافات يدرك أنه كاذب وأن كل ما يقوله من مغامراتٍ محض خيال، لكن ما زال الحديث يروقه، كيف له أن يستطيع تأليف مثل تلك القصص بتلك البراعة؟ يبدو أن الفص الأيسر من العقل نشيط جداً، فهو المسئول عن اختراع القصص والأجوبة حول الأسئلة المبهمة، لكن لغة جسده تدل على كذبه، لوحظ أنه ينصت لهم لكن لم يبد عليه أي اهتمام، ابتسم ابتسامة استهزاء وقال محاولاً أن يقحم نفسه في الحديث ليكون صديقاً كما اقترح عليه (عمر):

- أوفر أوي اللي أنت بتقوله ده.

قالها وهو يتقدم نحوهم ليقف وسطهم:

- في حاجة؟

قال ذلك الشخص صاحب مغامرات إليس في بلاد العجائب، كانت طريقة تحدثه غريبة نوعاً ما على (سيف).. إنها ليست بالهمجية لكنها قريبة من السكر، ظهر التوتر على ملامحه وبدأت يداه تفرزان عبرات العرق، لم يعلم بما يجب أن يجيب، فأكمل ببلاهة والخوف يملأ أنامله قال بكلماتٍ متقطعة:

ق- ق.. قصتك حلوة، بس أنت محتاج تظبط لغة... جسمك عشان باين إنك بتكدب، مثلاً عينك كل شوية تبص ناحية اليمين أو إيدك اللى كل شوية تلعب بيها في شعرك، ودايماً بتحاول ما تبصش في عين حد مباشرة.. أنت ممكن توظف مهارتك دي وتألف روايات أو قصص قصيرة.

ظن أنه بذلك سيثير إعجابهم لكنه لا يعلم أن القطيع يسير حيث يسير أقواه، وكان الآخر يستمع وهو يمتلئ غيظاً بينما عيناه تلمعان كأن بهما شرر، قام ذلك الآخر بإهانته تمامًا دون أن يعلم، كما أنه لا يعلم لم قال ذلك، وهو على دراية بأنه عملة من العملات النادرة

***

آثار الكلمات قد طبعت على وجهه، حاول كتم صوت نحيبه قدر المستطاع لكنه فشل، سعى كي يجد (عمر) كثيراً حتى تعب ولم يتبق سوى الخيار الأخير الذي لا يفضله.

تمالك نفسه أمام مشرف الطابق، من كان له الإشراف في هذا اليوم، أستاذ التاريخ (عبد العزيز) ذلك الأستاذ الذي لم يحافظ على أخلاق المهنة، كل ما يعنيه هو الوصول إلى المال، لكن من يبحث عن المال لا يصل إليه بينما يجد المال من يعمل بجد، كما أنه يعلم أن ذلك الأستاذ لا يحبه بتاتاً، بعد برهة تمالك نفسه تماماً وسرد ما حدث له من تنمر، ذهب إلى الصف برفقة البغيض ولم يطرق سوى طرقتين واقتحم الفصل برفقة (سيف) وبعدما أمر التلاميذ بالجلوس الذين هبوا واقفين فور إشارة أستاذ (طارق) لهم:

- معلش يا أستاذ (طارق) هقاطعك لحظة.. شاور ليا يا ابني على اللي ضربك.

كان الأخير يقصد أن يقول (اللي ضربك) كي يجرح (سيف) ويشعره بالخزي، وكان للكلمة أثر عميق في نفسية (سيف) فقد كانت ثقيلة على كاهله حتى كاد يبكي لكنه تمالك نفسه، أشار إلى (أسامة) الذي جلس في آخر الصف، قال آخر المتحدثين:

- انزل للمرضية يا (سيف) وأطلع كمل يومك عادي.. بعد إذنك يا أستاذ (طارق) هاخد (أسامة) شوية.

نظر إلى (أسامة) بعدما ابتعدا عن الصف قليلاً، وقال:

- أنت داير ضرب في المبنى كله كدا.. الواد ده أنا مش بطيقه أصلاً بس براحة عليه.

ثم قام بضربه برفقٍ على مؤخرة رأسه.

***

مثل الثانوية كمثل غرفة مظلمة مملوءة بالكلاب الشرسة ذات أعين متوهجة حمراء، تزيدهم هيبة مع تلك الظلمة.

إن الاختيارات قليلة وأنت من تحدد إذا كنت أبيضاً أم أسوداً، إذا كنت ممن يتعرضون للتنمر أم متنمراً، لكن عندما تكون عملة نادرة فأنت لا يمكنك الاختيار بينهما بل يحدد لك مسبقاً أن تكون الأبيض، أنت ممن يتعرضون للتنمر، إذا أصبحت أبيضاً، فأنت لست مخيراً في أي شيءٍ مرة أخرى، فقط الأسود من يمكنه الاختيار أما أنت فمسير لا مخير.

إنه بالفعل أكبر خطأ قد ارتكبته منذ دخولي الجحيم، ما فعلته كان مثلما تتركه أنثى الكلب في موسم التزاوج من أثرٍ لها لتدل الذكور عليها، لكن الفرق بيننا، أنني لم أعرف أن هذا قد يدلهم علي، إن ما فعلته كان كإعلانٍ عن وجود عملة نادرة في هذا الصف وسوف يسعى كل من بصفك والصفوف الأخرى إلى نفاقك، لقد جلستُ في المقعد الأول، ظننت أنه بذلك أستطيع سماع الشرح جيداً، لكن كانت عواقب هذا الفعل وخيمة كما قلت سابقاً، لقد أعلنتُ عن توافر عملة نادرة.

دائماً ما ألاحظ الاختلاف في طريقة حديثي وطريقة حديثهم، يوجد فرق لكن لا أعرف ماهيته وليس في ذاتي فقط بل في كل من هم عملات نادرة.

منذ ذلك اليوم وقد أصابني الأرق، يصعب علي أن أستسلم للنوم وإذا تناولت منوماً أو مهدئاً، لا تكف الكوابيس والأحلام السيئة التي تذكرني بـ (أسامة) ورفاقه، منذ ذلك اليوم وأنا أحاذر من الحديث مع الآخرين حتى مع (عمر).. وكثير القلق والتوتر، وأصبحت تقريباً أسير ملتفتاً حولي كل ثانية، أصبحت قليل التركيز وعلاماتي لشهر أكتوبر كانت في غاية السوء مقارنة بماضٍ حافل، حتى التقائي مع (عمر) بات قليلاً وأصبح مع الوقت في المدرسة فقط.

ذاكرتي حول الحادث أصبحت شبه مشوشة، كل ما أتذكره هي لقطات كأنها صورت بكاميرا، لكن الحدث يظل راسخاً في مخيلتي لا يختفي، أتذكره ليل نهار وأبكي، ولا أجد أما تضمني أو أياً يحميني ويطمئنني أن كل شيءٍ سيصير بخير، في النهاية  يا حبيبتي، لقد فقدت رغبتي في الحياة، وأنت وحدك من يمنعني عن الانتحار، عزيزتي حالماً أفقد رغبتي بك سوف انتحر وإن كل ما يمنعني عن فعل ذلك الآن، هو أنت. "سيف"

***

بعد انتهاء الدوام جمع أغراضه التي بعثر معظمها على الأرض ولم يفكر في البحث عما سرق منهاـ فلكل عملةٍ نادرة رادار يستشعر الخطر مثل الرجل العنكبوت، اتجه مع (عمر) وهو يسير صامتاً إلى حيث نقطة افتراقهما، حاول (عمر)

أكثر من مرة مداعبته وفتح مواضيع، لكن كان الآخر سرعان ما يغلقها بإجابةٍ نهائية.

أصبحت مضايقتهم له شيئاً من الروتين اليومي لهم، لا يكتمل اليوم إلا إذا صنعوا حفلاً كان هو ضيف شرفٍ له، كانت بالنسبة لهم شيئاً طبيعياً وبالنسبة له أحد طرق التعذيب داخل الجحيم.

***

دوى صوت الجرس المزعج الشبيه بجهاز إنذار إعلان الحرب أيام (ناصر) معلناً عن انتهاء فترة الاستراحة، ولقد انطلقتُ قبل رنين الجرس بدقائق كي أجلس في مقعد الصف الأول، قريباً ستبدأ المسرحية ومن الجيد أنني قد وجدت المقعد الأول شاغر، دوي صوت الجرس معلناً عن بداية أجمل عرض قد تراه بحياتك، إنه موجود هنا في الجحيم.. جميع من بالأسفل يركضون بشكلٍ عشوائي كالغنم خوفاً من عصي الرعاة الذين يركضون خلف الغنم ليجبروهم على الذهاب إلى فصولهم، بالفعل هذا ما يريدونه منا، هذا ما يطمحون إليه أن نصير كالغنم، نسير حيث ترشدنا عصا الرعاة، لذلك لا تعليم لأمثالنا، وأقصد بكل من التحق بالتعليم المجاني، وبدون تعليمٍ لنا يستطيعون أن يضعوا من يشاءون على مقاليد الحكم، وبذلك يستطيعون شراء أصواتنا الانتخابية بكلمتين رقيقتين وزجاجتي زيت وكيس من السكر، وأيضاً يستطيعون أن يحافظوا على عدم غضب الأرستقراطيين، فلغضبهم عواقب وخيمة يجب تجنبها، فأبناء الأرستقراطيين أصحاب التعليم الدولي المدفوع، هم الجيل الجديد حاملو الشعلة ونحن السلم الذي يصعدون عليه، حتى أن الدولة الحديثة سواء أيام الباشا أو حالياً فهي مبنية لهم. "عمر"

***

حين دنا عقرب الساعات من أسوار الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل، وعندما هم (عمر) للنوم استلم رسالة على هاتفه، اعتدل على السرير وأمسك الهاتف والتقطت عيناه الجملة التي بصددها هرب النوم من عينيه ودفع الأدرينالين إلى عروقه دفعاً (إلى اللقاء).. لم تفلح اتصالاته بـ (سيف) ووالديه، فلم يجد إلا أن يهرع إليه وكان المتوقع.. انتحر.

***

هذا هو الجو المناسب كي أتحرش بصفحاتك عزيزتي، لقد فاح منك عبقك ليملأ رئتي حتى ظننت أنني أغرق في بحر غرامك فازددت بك لوعة أكثر فأكثر، لقد امتلأت حتى أناملي بغرام عشقك.. إنكِ حقاً لخير صديق، عندما يضيق بي الحال أهرع إليكِ كي أزج بغضبي وألمي في صفحاتك، لقد طال غيابي هذه المرة عدة شهور، بالفعل أنا مدين لكِ بالاعتذار، قد كنت أخزن ما بي من آلام خلال تلك الشهور الماضية منذ أن ضربت أول مرة من (أسامة) إلى الآن كي أطيل لقائي معك، يجب أن تعلمي أن غيابي كان حباً لكِ، لا نفوراً منك.

يجب أن تعلمي أن درجاتي خلال السنة الأولى في الثانوية غاية في السوء، لقد ساءت تماماً، منذ آخر مرة رويتُ لك بها ما جرى بيني وبين (أسامة) وقد توالت فرقته وكل من يهابه بضربي في غياب (عمر).. لقد أصبحت الأحداث مشوهة بالنسبة لي، لا أتذكر من أيامي إلا لقطات ودائماً ما أنسى أشياءً مهمة ولا أتذكرها إلا بعد إخبار أحدهم لي، كما أنني صرت أمضي ليالي دون نوم، لقد أدمنت السجائر وقد كنت سابقاً أتعجب من الناس الذي يدخنوها، ابتعدت عن حياتي اليومية، كما لم يعد والداي يهتمان لأمري، يقومان بتأمين المال دون الاكتراث لي، إن أكثر ما سيؤلمني عند فراقي الحياة هو أنتِ يا عزيزتي، لكن بالنظر إلى أن صفحاتك ستنتهي في أحد الأيام، كان يجب علي أن أحاول الكتابة في كل سطرٍ كي أحتفظ بك أكثر دون أن أكون مضطراً إلى النظر لغيرك، وقد كنت آمل عدم حدوث ذلك لكن سرعان ما تداخلت كلماتي فصرتِ كنظائرك تمارسين تلك العادة التي كرهها الذكور بل وقد لاحظها جميعهم وهي (النكد)...

لقد قررت أن أضع حداً لحياتي.. إنها حقاً لبائسة وأنتِ أكبر شاهد يا مذاكراتي.

***

إن هذا ليس بعدل، يوماً بعد يوم، ساعة بعد ساعة وشهراً بعد شهر يزداد ضحايا التنمر اللعين، إنهم مرضى مكانهم ليس بين البشر بل مكانهم الحقيقي خلف القضبان أو في اللا مكان وهو الموت، عدالة (نوح) هي العدالة الأسمى، من لم يتقِ الله ويكرم خلق الله ومن لم يتب كان مكانه الموت المؤكد مع الطوفان.

كانت نهاية (سيف) لكن كل نهاية يعقبها بداية جديدة، نعم يجب أن تكون بداية جديدة.. عدالة (نوح).

أخذت التحقيقات الكثير من الوقت حتى أسدلت ستارها بإثبات انتحار (سيف) وذلك بأن قام بحرق منزله وقطع شرايينه في حوض الاستحمام وعدم معاقبة المتنمرين عليه بحجة عدم كفاية الأدلة.

لم ينجُ إلا عزيزته- مذكراته- والتي وضعها أمام باب الشقة أسفل حذائه، ووالداه كانا غائبان عن المنزل، لم يشهد (عمر) على المتنمرين وسترهم مدلياً بأنه لا يعرف من هم تحديداً، وما خفي كان أعظم.

توالت الأيام بالانسياب كشلال الماء، قد اقتربت نهاية العام الدراسي الأول، بقي شهران، الأيام روتينية، لم يتُب منهم أحد ولم يكفوا الأذى عن باقي العملات النادرة، لذلك لم يعد هناك عذر لعدم قتلهم، فهم لم يتوبوا، لذلك يستحقون وغيرهم الموت في الطوفان.

"نوح"

***

توغلا داخل أجواء الصخب وجلسا على طاولةٍ تبعد عن الحضور بضعة أمتار، فإن مباراة الأهلي والزمالك لا تستهويهما الآن، وضع النادل كأسا بها بضعة مكعبات ثلج وبجواره علبة مشروب غازي (كولا) وأنزل للآخر فنجان قهوة ووضع على الطاولة وسطهما لوح شطرنج مزخرف وبيادقه، أمسك (نوح) الملك الأسود ووضعه على رقعته البيضاء قائلاً بصوته الأجش:

- أنت عارف، ليه الملك الأسود بيقف على المربع الأبيض؟

 لم ينتظر (نوح) إجابة الآخر، فقد اكتفى بنظرات التعجب في عينيه فأردف قائلاً:

- مش لازم عشان هو أسود يبقا هو الشر، هو ممكن يسلك طريق الشر للوصول للخير.. وده بيمثلني.

قال الآخر:

- أنت عارف إني معاك في أي حاجة، بس أنت واثق من اللي بتعمله؟

قال (نوح) بعينين باردتين:

- أيوا، أنا عارف أنا بعمل إيه... بس لازم تبقا عارف لو خنتني الطوفان هيطولك.

- أنا عمري ما أخونك يا (نوح).

كانا قد صفا البيادق جميعها، وعندما حان وقت اللعب، أمسك (نوح) ببيدق وحركه قائلاً:

- ابتدا اللعب... عدالة نوح.

***

الأسبوع الأول في شهر (مارس): يوم (الأحد) الساعة الـ (8: 32) صباحاً.

بوابة الجحيم الحديدية المرتفعة أصبحت على مرمى عيني (أسامة) بدلاً من نظرات العبوس على وجهه ليقابل زملاءه فيظهر بقوته كما عهدوه، هو مهما حدث بشر يخاف ويحزن ويتألم بل ويشعر بالندم، كان السبب في موت (سيف) وانتحاره، لم يكن يقصد أن يصل به إلى هذا الحد، لم يكن يدرك أن الأمر مؤثر في نفس (سيف) لتلك الدرجة، كان يحاول أن يظهر قوته بطغيانه على الضعيف خوفاً ممن هم أقوى منه وخوفاً من أن يصبح عملة وليست نادرة بل مهمشة يدهسها كل المارة، لطالما شعر بالندم في كل يوم يعود فيه إلى المنزل من أفعاله النكراء، وعندما سمع خبر انتحار (سيف) تمالك نفسه أمام زملائه، وظل يسخر منه ومن حمقه وجبنه لأنه قرر الانتحار وتمزيق ورقة إجابته في امتحان الراعي في ظل مراقبة ملاك الموت (عزرائيل) للامتحان، لكن حين انتهى وعاد إلى منزله، أغلق باب غرفته وبكى دون صوت كي لا يظهر بصورة الضعيف أمام أهله، كثيراً ما فكر في تسليم نفسه للضابط الذي كان يبحث عن (أسامة) وسط تلاميذ المدرسة، لكنه خاف من بشاعة وقوة المجرمين داخل السجون وكما خشي على مستقبله ومستقبل إخوته وأخواته.

لافتات طويلة معلقة على كل سور لكل طابق، تحمل كلمتين (عدالة نوح) كما دهنت باللون الأسود على كل الحوائط وكما دهنت على لوح الفصول، لم يفهم أحد معنى (عدالة نوح).. فأعتقد المدرسون والمسئولون أن هذا يعد تخريباً من قبل بعض الطلاب، فقدموا شكوى للوزارة لإخلاء مسئوليتهم من أعمال التخريب تلك.

***

نظر (نوح) إلى مقابله ثم قام بتحريك بيدقٍ آخر.

***

الأسبوع الأول في شهر (مارس): يوم (الاثنين) الساعة الثامنة ليلاً.

طرقات الباب المتتابعة أزعجت الجميع، فصرخ (أسامة) قائلاً:

- حاضر.. ما تصبر يا عم.

فهدأت الطرقات تماماً، عندما فتح الباب وجد ظرفاً سقط أمامه، كان قد وضع بين إطار الباب والباب عينه، كتب عليه من الخارج (عدالة نوح)

***

في صباح يوم (الثلاثاء).. خرج (أسامة) راكضاً نحو (عمر) فصرخ به قائلاً:

- أنت عاوز إيه مني؟

رفع (عمر) حاجبه متعجباً وقال:

- وهعوز منك إيه؟ ابعد عني عشان الغل اللي جوايا منك هيحركني لوحده.

- طب فهمني أنت إيه ده؟

فأخرج المظروف من جيبه وسلمه لـ (عمر).. ذلك الظرف الذي كتب عليه من الخارج (عدالة نوح).. افتتحه (عمر) وقرأ محتواه:

"من ظلم يظلم، ما تسببت في فعله لن يغفر أبداً، وستنال عقابك.. نوح"

اندهش (عمر) وقال مبتسماً:

- أنا معرفش إيه ده، بس أنت أحبابك كتير مش أنا بس يا (أسامة).

- لو حد تاني مكانش كل واحد من اللي اتخانقوا مع (سيف) اتبعت ليهم نفس الظرف، مفيش غيرك.

فقام بدفع (عمر) فباغته الآخر بضرباتٍ مبرحه، تركت آثارها كما تركت على وجه (سيف) بأحد الأيام.

***

قال مقابل (نوح):

- دورك يا (نوح).. بس أنت ليه حركت الوزير بدري كدا، الدور اللي فات؟

أجاب (نوح) بصرامةٍ وعينين باردتين:

- عشان الملك هيتحرك الدور ده، ولما الملك يتحرك لازم كل القطع تكون مظبوطة وفق إرادته، هدف الملك هو هدف كل القطع، عشان كدا القطع كلها بتخضع لإرادة الملك.

أمسك الملك وقام بتحريكه.

***

(من داخل مديرية أمن الجيزة)

طرق الملازم أول (عماد) الباب طرقتين قبل أن يدلف إلى مكتب الرائد (حسام الدين الهلالي) وقال وهو يبحث بين الملفات في يده والرائد (حسام) يقرأ في ملفاتٍ أخرى:

- لقينا يا أفندم، إن مدير مدرسة الضحايا الأربعة قدم بلاغ بأعمال شغب وتخريب ممتلكات عامة، أعمال الشغب دي كانت عبارة عن تعليق لافتات كبيرة الحجم في كل أنحاء المدرسة بتحتوي على كلمتين (عدالة نوح).. غير كتابة على معظم حوائط المدرسة وعلى السبورة نفس الكلمتين (عدالة نوح).

داعب الرائد (حسام) خصلات شعره الأسود الناعم، ثم هم من على كرسيه وتحرك حول المكتب وقال محدثاً الملازم (عماد):

- عدالة نوح.. الأوراق المرقمة من 1 إلى 4 اللي عثر عليها مع الضحايا، والأظرف الفارغة في بيوتهم، وأعمال التخريب في المدرسة، كلهم فيهم نفس الجملة (عدالة نوح).. العيال دول اتسببوا في مصيبة ليها علاقة بالمدرسة وموتهم كان عقاب على اللي عملوه، أو زي ما القاتل بيسميها (عدالة نوح).

أخذ الرائد (حسام) علية السجائر من جيب سترته المعلقة بجوار المكتب وتناول منها سيجارة ثم أعطى واحدة لـ (عماد) الذي كان يراوغ في البداية وأصر على أن هذا واجبه ثم في النهاية أطاع يد الرائد الممدودة وشكره ثم طلب كوب شاي من البوفيه وأردف بعد أن أشعل سيجارته:

- عاوزك تدور في ملفات كل الطلاب اللي في المدرسة والعاملين والمدرسين، أكيد هتوصل لحاجة.

قال (عماد):

- تمام يا افندم.

واستدار للرحيل، فقال له الرائد (حسام):

- ابقا اشرب الشاي اللي أنا طلبته عشان هروح أنا بقا.

***

الأسبوع الثاني في شهر (مارس).. يوم (الأحد) الساعة العاشرة ليلاً. رفع المذيع ذو الشعر الرمادي عينيه من على الورق، ونظر إلى الكاميرا ثم قال:

- أهلاً بكم أعزائي المشاهدين.. موضوعنا النهاردة هو ظاهرة اجتماعية جديدة، أول أمس اللي بيوافق يوم (الجمعة) الساعة الـ (3: 36)..  أربعة من الطلاب الثانويين، اللي بتجمعهم مدرسة ومرحلة دراسية واحدة، اتقتلوا بطريقة بشعة وفضلت جثثهم مختفية حتى صباح اليوم اللي بعديه ووجد فيه الأهالي الجثث في الشوارع، إحدى مناطق الجيزة.

استعد الرائد (حسام) للخروج من المنزل حينما سألته زوجته:

- أهل العيال دول صعبانين عليا.

- العيال دول سمعتهم في المنطقة بتاعتهم في المدرسة زبالة، يستاهلوا اللي حصل ليهم، الله يرحمهم بردو.

- بردوا صعبانين عليا، الصور بشعة، اللي عمل كدا استحالة يكون إنسان. اقترب منها وقبل جبينها، وقال مبتسماً بود:

- ربنا يزيد حنيت كدي يا قلبي.

- وصلتوا للقاتل؟

- لا بس عرفنا هو مين.. في شهر (ديسمبر) طالب من فصلهم انتحر، كان اسمه (سيف).. العيال دي فضلت تضربه وتهينه ويحفلوا عليه في الرايحة والجاية، لحد ما قرر ينهي حياته ومكانش ليه صحاب خالص غير واحد في الفصل اللي جنبه اسمه (عمر).. الواد ده حالياً مختفي ومحدش يعرف هو فين، وقال لأهله إنه مسافر إسكندرية يومين.. مسيره هيظهر.

ألقت زوجته اللمسة الأخيرة على ملابسه، قبل أن يخرج ويغلق خلفه الباب.

نزل الرائد (حسام) إلى المرأب ليأخذ سيارته، فإذا بأحدهم يضع فوهة مسدس على عنقه، وآخر يضع سكيناً على رقبته وكلاهما يرتديان قناعين، من يمسك بالمسدس يرتدي قناعاً مبتسماً بلاستيكياً أسود اللون بينما الآخر صاحب السكين يرتدي قناعاً أبيض اللون، قال الأسود ذو الصوت الأجش:

- أنا مش عاوز حاجة غير تسمعني لثانيتين.. في cafe هحط ليك عنوانه في جيبك هستناك هناك الساعة 3 الفجر، وبعد كدا اقبض عليا ومش هظهر أي مقاومة.. على فكرة أنا (نوح)

وضع الأبيض الورقة في جيب الرائد ثم ركضا، حاول الرائد أخذ مسدسه من (تابلو) السيارة ليلحق بهما لكنهما فرا بدراجةٍ نارية قادها الأبيض.

***

الساعة الـ (04: 3)

كان المقهى شبه فارغ إلا من العمال و(نوح) الذي ارتد قناعاً أسوداً وجلس على طاولة تتوسط المقهى بمفرده دون شريكه، وبمجرد دخول الرائد (حسام) وبعد أن جلس مقابلاً له، على الطاولة الدائرية الخشبية التي توسطها لوح شطرنج يحتوي على الملك الأسود فقط من الجانب الأسود والجانب الأبيض تواحد به العديد من البيادق، كان الملك قد مات من الحصار الذي فرض عليه من العدو... قال الرائد (حسام):

- جيت ليك لوحدي أهو يا (نوح)

- وأنا مقولتش ليك تيجي لوحدك.

قالها بصوتٍ هادئ، فتعجب الرائد (حسام).. لاحظ (نوح) ملامح الرائد، فابتسم من خلف القناع وقال بصوتٍ أجش:

- لازم أكلمك كدا عشان تصدق إني (نوح)؟.. ثم أنت فاكرني مغفل؟ على أساس إني مش ملاحظ إن اللي شغالين هنا متغيرين وإن الزباين القليلة الموجودة مركزة معايا؟ ولا فاكرني ملاحظتش إن في كل شارع من الشوارع اللي حوالين الـ Cafe في عربية Toyota  واقفة؟.. لو بصيت على الشطرنج قدامك هتلاقي إن الملك الأسود ميت ومحاصر من كل اتجاه ولوحده وده اللي حاصل.

قال الرائد (حسام) مبتسماً:

- غلبتني في النقطة دي.. (عمر) أنا مقدر إنك زعلان على صاحبك، والحقيقة العيال دي كانت تستاهل تتعاقب عشان كدا مقبتضش عليك على طول وقعدت اتكلم معاك، بس مش بالطريقة دي والعقاب مش بالموت.. كنت اعترف عليهم في محضر انتحار (سيف) وكنا هنتعامل معاهم.

- ومي نقالك إني (عمر)؟ (عمر) مالمسش ضافر منهم.. كل اللي عمله أنه ضرب (أسامة) يوم (الثلاثاء) اللي فات.

قام (نوح) بنزع القناع عن وجهه ليسود وجه الرائد (حسام):

- (سيف)! بس أنت نجيت أزاي؟ ومين اللي لقناه محروق وقاطع عروقه ده؟

***

حين دنا عقرب الساعات من أسوار الثانية عشرة عند منتصف الليل، وعندما هم (عمر) للنوم، استلم رسالة على هاتفه، اعتدل على السرير وأمسك الهاتف والتقطت عيناه الجملة التي بصددها هرب النوم من عينيه ودفع الأدرنالين في عروقه دفعاً (إلى اللقاء).. لم تفلح اتصالاته بـ (سيف) ووالديه، فلم يجد إلا أن يهرع إليه.

ظل (عمر) يطرق الباب حتى فتح له (سيف).. تركه واتجه نحو الحمام فتبعه (عمر) وهو يحادثه ويسأله ويصرخ به تارة أخرى، لكن الآخر لا يجيب، عندما دلفا إلى بيت الخبث وجد جثة لشاب بمثل عمرهما تقريباً قد قطع رسعه لكن لم تسقط نقطة دم واحدة، صرخ به (عمر) مستفسراً مرعوباً، أجاب الآخر ببرود:

- اشتريتها من تربي، لسه ميت النهاردة وأنا قطعت ليه عروقه عشان يبان أنه انتحر أو أبان إني انتحرت.

قال (عمر):

- مش فاهم.

- هزور موتي، أنا اشتريت كيس دم من نفس فصيلتي من ممرض في مستشفى حكومة وهرميه على الأرض وإيده وشوية في الـ (بانيو) وعلى جسمه.. وبعدين هغرق البيت بنزين بالجثة بكلو واطفي الغاز عشان باقي العمارة ما يحصلش فيها حاجة، بعد كده هحط لمبة w 200  على الأرض منورة ولما هتسخن هتولع في البيت.

***

سرد (سيف) تفاصيل تزويره لانتحاره دون ذكر (عمر).. قال الرائد (حسام):

- وأنت ليه سلمت نفسك؟ ما أنت برا الموضوع؟

- عشان سببين، الأول، أبعد الشبهة عن (عمر).. والتاني عشان كرهت الحياة وشعور الذنب اللي مش بيفارقني، بس كان لازم أكمل.

-  يعني أنت مثلت بجثمان واحد ميت وولعت في بيتكم وقتلت أربع أشخاص ومش عاوز تحس بالذنب؟! كل ده عشان ضربوك في المدرسة وأهانوك؟!

غضب (سيف):

- أنت ما كنتش مكاني، محستش بالألم والخزي والعار وكرهك لنفسك، أنا كنت هانتحر فعلاً لولا إني قررت أخد حقي قبل ما انتحر.

صمت قليلاً ثم عاد إلى طبيعته:

- أنا مش عاوزك تصدق أني مظلوم ولا أي حاجة.

قال الرائد:

- طب ليه جبتني هنا؟ كنت تقدر تسلم نفسك وتشرح الكلام ده عادي هناك؟

أخرج من حقيبته مذكراته، وقال بعد أن ارتدى القناع:

- كنت عاوز الموضوع بس ينتهي زي منا عاوز وافتح آخر صفحة هتفهم.

- المذكرات دي مرصودة؟

- اللي معاكم دي نسخة مطابقة يا افندم، مفيش حد بيتخلى عن حبيبته بالسهولة دي.

أدار الصفحات حتى وصل إلى الصفحة الأخيرة، فقام (سيف) بقطع رسغه بواسطة شريحة حادة، كانت في يده.

عندما أتعمق في النظر إليه، أجده مكبلاً بالأصفاد مغموراً بالدماء، يجلس على كرسيه محاطاً من كل اتجاه، يبدو أنه لم يتبق سواه على تلك الأرض ذات الرقع البيضاء والسوداء.. إنه حقاً قد مات الشاه.

تمت

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا