(6)
لم يكن الألم سيئاً وبدأ في الاختفاء سريعاً، بدله ضغط من داخل رأسه ثم بمعجزة ظهر النور ثانياً، وضع يديه على عينيه وكانتا سليمتين، لم يعد يشعر بألم أو نزيف فيهما، رؤيته مشوشة لكنها تتحسن سريعاً، رأى شخصاً يقف أمامه، امرأة.. شعر أسود طويل.. رداء أبيض فضفاض، بدأت ملامحها تظهر أكثر، وجهها شاحب مائل للزرقة وشفتاها حمراوان باهتتان، وعيناها بنيتان واسعتان، كان واضحاً أنها ليست إنساناً.
ابتعد (آدم) عنها ورفع ذراعه أمامه ليدافع عن نفسه، نظر حوله ووجد أنه بداخل كهف يدخله النور من فتحة قريبة منه، ركض تجاهها وسمع صوتاً يصدر من المرأة يدل على القلق ثم تبعته، وقف أمام الفتحة وتجمد، كان من الصعب على عقله استيعاب ما يراه، في الخارج كان عالم آخر، جبال صخرية مليئة بالكهوف المتراصة لا نهاية لها على مرمى بصره، وأضواء ملونة تخرج منها، شلال في الأفق تصب مياهه في قاع عميق لا يراه، ومخلوقات مثل المرأة في كل مكان، وبعضهم يركب شيئاً يشبه التنين، خطا إلى الخلف في خوف وسقطت قدمه في بركة مياه صغيرة وبها رأى وجهه المرتعد، وعينيه اللتين كانتا غريبتين، لونهما أصبح أزرقاً باهتاً، هرع عائداً داخل الكهف ووجد المرأة تنظر إليه ليس في تهديد أو غضب بل لاحظ في عينيها عطفاً وشفقة، مدت ذراعها ووضعت يدها على وجنته، جفل من لمستها، وفوراً غمر عقله مشاعر وكلمات ليست له.
- لن أؤذيك؟
سمع الكلمات في عقله، وفكر أنه أذته بالفعل.
- اضطررت لأريحك من عينيك البشريتين حتى ترى الحقيقة.
- أين أنا؟
- في عالمنا.
سمع في عقله، ظن أنه أصابه الجنون، ربما هو في مشفى الآن يحدق بالسقف ويسيل لعابه، وشعر بيأس لكنه لا يصدر منه، أدار رأسه لكنها لم تتركه.
- لا تخف مني، أعرف حقيقتك.
ظهرت ومضات في عقله ورأى مشاهد متتالية، رأها تعبر بوابة كالتي عبرا منها منذ قليل إلى بستان من الأشجار، هذه ذكرياتها، سيطرت عليه حتى فقط القدرة على التمييز بين أفكارها وأفكاره، ظهر أبوه أمامه خائفاً وركض بين الأشجار، رآها تظهر له ولصديقه، رأى أباه رسم الرموز على جدران الغرفة وهي تقف خلفه، بينهما الكتاب تتحرك صفحاته بإرادتها، كانت ترشده، ثم وقف أمامها عندما انتهى، وكأنه يراها لأول مرة ولم يكن خائفاً بل كان مبهوراً.
- لم يخف من حقيقتي، وأصبحنا سراً... عن عالمه وعالمي، ورغم كونه محرماً، وجدت سعادة معه، حتى خانني.
اجتاحته موجة غضب ثم تبدلت بحزن وحرقة بينما شاهد الذكرى التالية، في الغرفة جلس أبوه على ركبتيه يحمل رضيعاً يبكي بين ذراعيه، استلقت هي على الأرض في ألم وتحتها بركة من الدماء وبطنها منتفخ، نهض أبوه وتراجع للخلف بينما مدت ذراعها تجاهه متوسلة، بدأ في الكلام ورسم على الأرض بدمائها رمزاً وصرخت في استنكار، اشتعلت ناراً في الرمز عندما انتهى ثم ابتلعها الظلام.
عاد (آدم) لنفسه.
- ماذا تقولين؟
آلمه رأسه وقلبه، فكر في والدته، في صورة لهما وهي تحمله مبتسمة، شعر بثورة غضب منها.
- ليست منك.. أنت لي، أخذك مني ونفاني.
دارت بينهما ذكرياته، حادثة السيارة وكل ما حدث بعدها، وعلم أنها تراها أيضاً.
- هل قتلتها؟ هل سببت كل هذه الحوادث للانتقام؟
- لم أرد الانتقام، أردتك، عاقبوني وسجنوني لأنني اخترته، فلم أقدر على العودة إليك، البوابة تفتح من ناحية واحدة فقط، الحوادث كانت بسببك.. لأنك لا تنتمي إليهم، جسدك يحمل قوتنا، قوة تؤذي كل إنسان حولك لمجرد أنك أردت ذلك، كنت غاضباً وقلبت السيارة، خاف الحصان منك كما يفعل كل ما هو من عالمهم... الحريق...
- لا... لا.. أرجوك، توقفي.
بكى فلا يستطيع تحمل الزيد، لكن لم يستطع التوقف عن التذكر، كان غاضباً من والده يوم الحريق، كان غاضباً من جد (مروان) عندما سقطت عليه الثريا، هل عرفت جدته وأنهت حياتها خوفاً منه؟
تبدلت ذكرياته بذكرياتها، والده على الأرض في البستان ليلة وفاته، كان ما زال يتنفس.. بالكاد، رأت كل ما حدث.
- كان يحاول التواصل معي، أراد أن يوقفك قبل أن تؤذي شخصاً آخر، ورفضت مساعدته.
شعر بحنقها وكرهها، لم يدافع حتى عن نفسه.
- قتلتيه؟
- لأجلك، كان سينفيني ثانياً ويبعدني عنك، كانت فرصتي الوحيدة للعودة، وكل ما فعلته هو محاولة التواصل معك، لم أعرف شكلك لكنني وجدتك في النهاية.
سقط (آدم) على ركبتيه باكياً، كل ما حدث بسببه، جسده يرتعد، يفكر في (مروان) و (ندى).. كاد أن يقتلهما مراراً.
- كنت أنا اللعنة.
- لا تبك، أنت معي الآن، هنا لن تقلق من قوتك، بل ستزدهر وحولك أهلك الحقيقيين.
لا مفر الآن، لا يمكنه العودة ولا يستطيع تعريض (ندى) و (مروان) للعنته ثانياً، تركها تضمه بين ذراعيها ودفن نفسه بحضنها في استسلام.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا