(قصة)
الميراث
(1)
"الحوادث تلاحق عائلتي، هل سمعت عن لعنة (آل كينيدي)؟ أظننا سنغلبهم ببراعة، أول ذكرى لي كانت حادثة فقدت بها أمي، كنت في الخامسة من عمري وأختي كان عمرها سنتين، كان أبي يقود السيارة، ويغني أغنية وأمي تغني معه وتضحك، ما زلت أعرف لحن الأغنية، تتردد كثيرًا على كوابيسي، فجأة تحول الغناء إلى صراخ، أتذكر صياح أبي وبكاء أختي الصغيرة، كان يصيح ويتوسل "أرجوك..."
سمعت صوت تحطم زجاج وانحرفت السيارة بشدة، ولم تعد أمي بها، قضينا بعض الوقت مع جدنا وجدتنا والدي أبي، بينما كان هو في المشفى، خلال هذا الوقت سقط جدي من فوق حصانه وتوفي بعدها ببضعة أسابيع جراء جراحه، ولم تمر سنة وأنهت جدتي حياتها بالقفز من شرفة البيت.
تزوج أبي ثانيًا بعد مرور عشرين سنة وبعد إلحاح منا، لم نرد له الوحدة بعد الآن، كنت سأترك المنزل للدراسة في الخارج وستلحقني أختي، فقريبًا سيأتي الخطاب بالطوابير، رزقنا بأخ صغير مليء بالبهجة، حقًا لم أر طفلًا بهذه السعادة من قبل، وقد أعاد لأبي روحًا ظننته فقدها بعد وفاة أمي.
ثم جاء الحريق، وأخذ بيتنا ووالدة أخي، ثلاثة أعوام وأصبح بدون أم مثلنا، وترك الحريق آثاره على كتف أختي للأبد، عدنا لنعيش بمنزل جدي، هذا القصر الصغير في هذا المكان الهادئ، تحطم أبي وأنعزل عن العالم، قضى طوال الوقت وحيدًا في غرفته أو في الكوخ دون أن يدع أحدًا يدخل، الكوخ كما ندعوه هو بيت ضيوف خارج القصر، لم يعد يتحدث معنا، كان أحيانًا يقضي وقتًا مع أخي الصغير وكانت أختي تصر على الكلام معه في أي شيء حتى لو لم يجبها، الآن بعد سنة واحدة نحن في عزائه، أتعرفين ما حدث؟ لم نقل لأحد كيف مات، كيف وجدوه وجسمه مليء بالكدمات ملقى وسط الأشجار، في بستان مهجور على بعد عدة كيلومترات من منزلنا، لقد استيقظ ليلًا وقاد سيارته إلى هناك، تركها وسط الطريق ودخل البستان، لا نعرف ماذا كان يفعل! مات بسبب نزيف داخلي، إثر صدمة قوية، وكأنه تسلق أعلى الأشجار وقفز، لم يعد يتحمل حياتنا.
يجب أن تفهمي ما أقوله لك، أنا أتيح لك فرصة الهرب، الخروج من هذه العلاقة وهذه العائلة، ما زالت الفرصة أمامك، إذا أردت أن نلغي الزفاف وتنجين بحياتك."
قال (آدم) ولم ينظر في عينيها ولا مرة طوال حديثه، يعقد كفيه ويضغط أصابعه في توتر.
تنهدت الفتاة وقالت محاولة إخفاء ألم وقع كلامه:
- أعرف أنك في حالة سيئة، لذا لن آخذ هذا الكلام بجدية.. لن أتركك لأنك مررت بظروف سيئة في حياتك ليس لك ذنب فيها.
تركته وراقبها وهي تبتعد، لم يستطع منع نفسه من التفكير، كيف ستلحق بها هذه اللعنة؟ كيف ستأخذها منه؟
لم يشعر بالوقت إلا عندما بدأ الناس في المغادرة، وسريعًا وجد نفسه يجلس وحيدًا في حديقة بيتهم، بدأت (فاطمة)، و(سعيد) العاملان بالمنزل في التنظيف، دخل البيت ورأى أخته تجلس مع أخيه، نهضت عندما رأته وقالت:
- لم قلت هذا الكلام لــــ (سارة)؟
- هل أخبرتك بهذه السرعة؟
قال ولم يرد إجابة حقًا، وأكمل طريقه للطابق العلوي. سمعها تقول:
- هي لا تستحق هذا. ولم يتوقف، ارتمى على الفراش في غرفته وترك نفسه للنوم.
استيقظ على طرق شديد على بابه، نهض وأسرع لفتحه، ليجد أخاه، والنوم في عينيه.
- ماذا بك؟
- أظن أن هناك شخصًا في غرفتي.
أسرع معه إلى غرفته، أضاء المصباح ودخلها، تجول فيها يفتشها ليطمئن أخوه ثم قال:
- أرأيت؟ لا أحد هنا، مجرد حلم سيئ.
قال ثم حمل أخاه ووضعه في فراشه، أغلق الإضاءة وخرج عائدًا إلى غرفته، لكن شيئًا أوقفه.. شعر بشيء يتحرك في غرفة والده القديمة، وقف أمام بابها المغلق واستمع، لا شيء.. ثم حركة، فتح الباب ونظر خلال الظلام، كان هناك خيال أسود يقف أمام الفراش، أسرعت يده لتجد مفتاح النور ولكنه لم يضئ، أغلق الباب وركض لغرفة أخيه، حمله رغم اعتراضاته، ثم ركض لغرفة أخته، وقال:
- أغلقي الباب خلفي، ولا تفتحي حتى أقول لك.
في الممر بين الغرف كان باب غرفة والده مفتوحًا، تحرك بحذر وتمنى أن يكون معه شيء ليحمي نفسه، الغرفة فارغة.. سمع خطوات تتحرك بسرعة على السلم، تصعد وتقترب أكثر، في أي لحظة الآن سيكون أمامه، لكن لم يظهر أحد، والصوت الوحيد كان صوت أنفاسه السريعة.
نادي (سعيدًا) وفتشوا المنزل بأكمله، لم يجدوا أي دخيل، لكنه لم يستطع النوم تلك الليلة، شخص ما كان في بيتهم بينما كانوا نائمين.
جاءت (سارة) في الصباح التالي ومعها مفاجأة صغيرة، سمع صوته قبل أن يراه، مخلوق صغير مليء بالفرو بين يدي أخيه.
- ما هذا؟
- صديق جديد لــــ (مروان). قالت (سارة) مبتسمة.
- لا أحب الحيوانات.
- إنه جرو صغير، لن يؤذيك. رفعته (سارة) أمام وجهه وفورًا بدأ بالنباح.
- الحيوانات لا تحبني أيضًا.
- أرجوك يا (آدم).. أرجوك...أريده.
بدأ أخوه في التوسل، ولم يستطع (آدم) الرفض، لم ير تلك الابتسامة على وجه أخيه منذ فترة، وأرادها أن تدوم
- سأعتني به ولن تشعر بوجوده.
أضافت (ندى).
تنهد ثم قال:
- حسنًا، لكن يبقى بالحديقة. جلسا في صمت بينما يلعب إخوته مع الجرو.
- (آدم)...
بدأت (سارة).
- ما قلته لي بالأمس، أنا سعيدة لأن هذه أول مرة تثق بي وتحكي ما بداخلك.
استمع لها في صمت.
- وأريد أن تعرف أنني موجودة دائمًا لأجلك، ويمكنك أن تحكي لي ما تشعر به.
- لقد طلبت منك أن تتركيني!
قاطعها قائلًا: - فاجأتني بالعودة بهذه السرعة، كلامي كان مخيفًا. لم تجب وكأن (آدم) وضع صخرة في حلقها.
- أنا لا أخاف بسهولة، وأنا هنا من أجل (ندى) و(مروان).
نهضت ومشت بعيدًا، أراد أن يوقفها ويعتذر، لكن تلك الصخرة استقرت معه الآن، أوصلتها (ندى) ثم اندفعت تجاهه.
- ماذا قلت لها؟ سألت في استياء، ولم تترك له فرصة للإجابة.
- أعرف أنه وقت صعب لنا جميعًا، لكن لا تفعل هذا، لا تكن مثله وتدفع بالناس بعيدًا، أنت تحتاجها.
أومأ لها (آدم) في هدوء، ابتسمت وعادت للعب مع (مروان)... نظر إلى الكوخ المغلق في آخر الحديقة، للحظة شعر أن والده بالداخل يفعل ما يفعله دومًا، وحيدًا، بعيدًا عنهم، كم يكره هذا الكوخ! ربما سيهدمه قريبًا.
قضى النهار في تركيب أقفال جديدة وحماية أبواب القصر، حتى لا يتكرر ما حدث، وحتى إذا لم يجدوا أثرًا لأي اقتحام أو وجود أي شيء غريب، لكن شيئًا بداخله جعله يرتعد خوفًا.
(2)
صعدت (ندى) إلى غرفتها فورًا بعد العشاء ووضعت (مروان) في غرفته للنوم، سمعت (آدم) يتحدث بانفعال في الهاتف، كان جد (مروان).. لم تسأله ماذا أراد، فهي تعرف، فور موت والدهم، سيأخذه منهما، فلقد حاول ذلك كثيرًا بسبب حالة والدهم الغير مؤهلة للاعتناء بطفل، وأنها ما زالت تدرس و(آدم) سيتزوج قريبًا، لديه قضية جيدة.
جاء جد (مروان) لزيارتهم قبل وفاة والدهم بقليل، وسمعت صياحه وتهديده بالقضية وسمعت رد والدهم بنبرة هادئة:
- افعل كل ما تقدر عليه.
لم يصرخ به ويقاتل من أجل ابنه، ظنت أنه لم يعد يهتم بهم، وأسرع بعدها لينهي حياته، هل يمكنهم الفوز في قضية كهذه؟ هل سيصمد (آدم) أم سيستسلم مثل والدهم؟ بكت خوفًا وحزنًا حتى غلبها النوم.
أيقظتها يد تهزها، فتحت عينيها، وجدت (مروان) يجلس بجانبها على الفراش ثم قال:
- هل يمكنني أن أنام بجوارك؟ ابتسمت واحتضنته حتى ناما.
استيقظت وما زال الليل صغيرًا، ورأت أمامها في نهاية الفراش عينين لامعتين لا يظهر صاحبهما، تحدقان بهما في الظلام، لا تتحركان،
شعرت بقلبها يقفز فزعًا، وتجمدت، لم تقدر على الصراخ أو الحركة، وشعرت بدموع تسقط على وجنتيها. (مروان) نائم لا يتحرك، وما زالت العينان تحدقان تخترقاها وتحرقاها، هذا كابوس، أغلقت عينيها وفتحتهما ثانيًا، اختفت العينان، تنفست بعمق محاولة تهدئة نفسها، ولم تنجح، فوجدت يدًا سوداء رفيعة تتسلق الفراش وتزحف ببطء مخالب طويلة سوداء امتدت تجاه ساق (مروان) المكشوفة، حاولت الصراخ مرة بعد مرة حتى صدر الصوت منها أخيرًا، وانتفضت من على الفراش وسقطت، استيقظ (مروان) صارخًا، أضاءت الغرفة، وما كان في الظلام، لم يعد موجودًا، أجهش (مروان) بالبكاء.
فتح الباب بعنف ودخل (آدم) الغرفة صائحًا: ماذا حدث؟
لا تدري ماذا تقول! حملت (مروان) واحتضنته محاولة تهدئته، هذه الليلة ناموا جميعًا في غرفة (آدم) وتركوا مصباحًا صغيرًا مضاء حتى الصباح.
في الصباح جلسا في الحديقة يتناولان الإفطار، طاردها هذا الكابوس طوال اليوم، هو كابوس، لا يوجد تفسير آخر.
- هل تحدثت مع (سارة)؟ سألت (آدم) ولم تنتظر إجابته.
- لم لا تعرض عليها قضاء اليوم معنا غدًا؟
أومأ لها في استسلام، فهو لا يريد الخوض في نقاش ستفوز فيه على أي حال، ثم قال:
- لم لا نحاول تنظيف الكوخ اليوم.
- اليوم!
لم ترد الدخول إلى هذا المكان، لم تكن مستعدة وفوجئت بطلب أخيها، ظنت أنه يشعر بالمثل ثم قالت:
- انتظر (سعيد) و(فاطمة) سيساعدانك.
قالت ونهضت نحو (مروان) النائم، لم يكن في غرفة (آدم) ولا في غرفته، لكنها سمعت صوتًا قادمًا من غرفة والده.
- (مروان).
كان الباب مغلقًا، ضحك (مروان) من الداخل، فتحت الباب ووجدته على الأرض محاطًا بصور وإطارات.
- ماذا تفعل؟
قالت وجلست على ركبتيها بجانبه، كانت صورًا من أنحاء المنزل، لا تعرف متي جمعها كلها هنا، وكلها ممزقة وبعضها عليه آثار حرق
- كيف؟
قالت في ذهول.
- لماذا فعلت هذا؟
- لم أفعل.
قال (مروان) متعجبًا من نبرتها. أمسكت بصورة كان وجه والدها فيها محروقًا.
- إذًا من فعل هذا؟
- المرأة.
قالت بنبرة صارمة:
- (مروان).. لا تكذب.
- لا أكذب.
قال غاضبًا.
نهضت وأخذته إلى غرفته، ثم قالت في غضب:
- لا تدخل إلى هذه الغرفة ثانيًا. لم تعتده كاذبًا، وهذه الصور! هل هذه طريقته في التعبير عن مشاعره؟ ربما يكون غاضبًا مثلهما، من والدهم، من كل ما حدث لهم، من كل من تركهم.
رأت دموعًا تسقط على وجنتيه، لم تصرخ به هكذا أبدًا، شعرت بالحزن واحتضنته سريعًا بين ذراعيها.
لم ينتظر (آدم) (سعيدًا) أو (فاطمة) وقرر دخول الكوخ وحيدًا لأول مرة منذ رحيل والده، كان كل شيء كما تركه، وكأنه سيعود قريبًا، وجد كتابًا مفتوحًا وكوبًا نصف فارغ من القهوة، وملابس على الأرض، وقف يحدق بكل شيء، وكأنه سيجد إجابة ما بين أنقاض والده، جلس على مكتبه أمام النافذة وفتش في أدراجه، لم يجد شيئًا ذا معنى، نظر تجاه سلة مهملات بها بعض الورق، أخذ ورقة نصفها ممزق، امتلأت بكلمة واحدة وكاد يسمع صوته يقولها ويكررها: "آسف".
رماها وأمسك بأخرى، وارتجف جسده عندما قرأ كلماتها: "أولادي، سامحوني."
شعر (آدم) بالغضب والحيرة، يريد الغفران؟ لتركهم! لم يقلها مرة حيًا، رمى الورقة على الأرض ونهض سريعًا، لا يقدر على الجلوس مكانه، فتح إحدى الغرف وبدأ يجمع الملابس وأغراض والده الشخصية في كومة، كان غاضبًا يؤذي ما يجمعه، يرمي ويقذف كل ما يراه في الكومة، اتجه إلى الغرفة الأخرى، ولكن الباب كان مغلقًا ومكان المفتاح مكسورًا، وصدر صوت من الداخل.. بكاء.
(3)
ركض (مروان) بسرعة، يلعب مع صديقه الجديد في الحديقة، عندما سمع من ينادي اسمه، إذا كانت (ندى) لن يجيبها فما زال مستاء، لكن عندما سمع النداء ثانيًا، لم يكن صوت أخته، صوت آخر يعرفه، توقف وبحث حوله عن مصدره ووجدها، على حافة الحديقة بين الأشجار، ابتسم وركض تجاهها في لهفة متجاهلًا نباح كلبه الصغير، فقد عادت من أجله، كان متأكدًا أنها لن تتركه طويلًا، فهي أمه وتحبه.
وقف (آدم) أمام الباب لا يتحرك يحاول التركيز، هل صدر هذا الصوت من الداخل؟ لم ير هذه الغرفة مفتوحة أبدًا، تعالي نباح الكلب من الخارج وقضى على تركيزه، خرج من الكوخ عازمًا على إسكات هذا المخلوق، ركض الكلب بجانبه سريعًا إلى بستان الأشجار خارج حديقتهم، وظن (آدم) أنه رأى خيالًا يتحرك بين الأشجار، نظر إلى الحديقة متوقعًا أن يجد أخاه يلحق بكلبه لكن لم يجده، عاد إلى البيت وقابل (ندى) عند الباب، وسألت:
- أين (مروان)؟ كان يلعب منذ قليل هنا.
انقبض صدره عند سؤالها، ابتعد صوت الكلب، وكان يتبع (مروان).. ركض تجاه الأشجار وتبعته (ندى) في فزع، طارد (آدم) نباح الكلب حتى توقف فجأة، ووجد نفسه وحيدًا وسط الأشجار لا يعرف إلى أي طريق يذهب ولا يعرف أين (مروان)!
- لا.. ليس هو، ليس (مروان). قال متوسلًا وكأنه يتحدث إلى اللعنة التي تلاحقهم.
سمع أصواتًا تنادي من بعيد.. (سعيد) و(ندى) يبحثان ثم سمع صرخة ضعيفة، صرخة طفل وكان أثرها كضربة في صدره، ركض تجاهها وهو يتوسل ألا يصل متأخرًا، رأى خيالًا صغيرًا وسط الأشجار كما رأى خلفه خيالًا آخر طويلًا أسودًا.
- (مروان)...
صاح وسمع بكاءه، وجده على الأرض وحيدًا، سقط على ركبتيه بجانبه وضمه إليه يبحث حولهما عن الخيال الآخر، ثم قال:
قال ولاحظ أن ملابسه ملطخة بطين أسود، ثم سمع صوت أغصان تنكسر وشعر بحركة سريعة خلفه، اختفى شعور الارتياح سريعًا وحل محله الخوف، شخص ما كان يراقبهما، يتحرك أسرع من أن يراه، أمسك بغصن مكسور ورفعه أمامه للدفاع عنهما، ثم سمع صوتًا أنثويًا يتمتم بلحن يعرفه جيدًا، حدق تجاه الصوت الذي كان يقترب أكثر، كاد صوت ضربات قلبه يغطي على الغناء، يضغط على الغصن بشدة ويضم (مروان) إليه أكثر، حتى رآها، لم يصدق عينيه لكنها كانت أمه، تقف على بعد عدة أمتار منهما، تنظر إليه فقط، سقط الغصن من يديه، ما زال (مروان) يبكي، نظر إليه ووجده ينظر تجاهها في خوف.
- (مروان).
اندفعت (ندى) من خلفهما وركض (مروان) تجاهها، احتضنته بقوة، ظهر (سعيد) وراءها واختفت والدته، بحث حوله عنها لكن لم يجدها.
- أنت بخير؟
سأله (سعيد) ولم يجب.
نظر إلى (مروان) وسأله:
- هل رأيتها؟
لم يرد (مروان) العودة أو الكف عن البكاء حتى يجدوا كلبه، ولم يطل غيابه، فعاد سريعًا إلى الحديقة بعد وصولهم، هذه الليلة لم يرد (مروان) النوم وحده ولم ترد (ندى) تركه، حاولوا فهم ما حدث منه
لكن حكايته كانت لا تصدق، والدته أخذته إلى الغابة وأخافته وأذته، ولم يستطيعوا إجابته عندما سأل:
- لماذا أوجعتني أمي؟
فقط حاولوا إقناعه أنها لم تكن والدته، بل امرأة سيئة تشبهها، لكن هل كانت تشبه والدة (آدم) أيضاً؟
سألته (ندى) إذا كان رأى شيئاً وماذا كان يقصد بسؤاله لــ (مروان)؟ لكنه تهرب من الإجابة.
أعادوا تفتيش البيت وما حوله ثانياً بلا فائدة، مهما كان تفسير (مروان) لما حدث، هناك امرأة كادت أن تختطفه، وإذا وصل هذا الحدث إلى جده، سيستخدمه أكيد لضمه إلى حضانته.
جاء النوم بصعوبة لكل سكان البيت و (آدم) آخرهم، طاردته صورة والدته بين الأشجار تحدق به في أحلامه، نهض من على فراشه ونظر من النافذة، صدر ضوء من الكوخ، شخص ما بدخله، سريعاً وجد نفسه أمام باب الكوخ، فتحه وخطا إلى الداخل في حذر، الضوء كان قادماً من مرآة معلقة على الحائط، ولا انعكاس لهذا الضوء في الحقيقة، وقف أمامها ورأى فيها مصباح المكتب مضاء، ويجلس على الكرسي رجل، نظر خلفه وضربات قلبه سريعة، الغرفة فارغة، عاد إلى المرآة، هذا الرجل كان والده، لكنه بدا صغيراً، ربما في مثل سنه الآن، لمس المرآة ووجدها باردة، والده كان متوتراً يبحث في كتاب كبير مفتوح أمامه.
- أبي.
لم يعره والده في المرآة اهتماماً، كان منهمكاً في القراءة، شيء آخر خلفه سرق عيني (آدم).. كان باب الغرفة المغلقة مفتوحاً، ورأى شخصاً آخر يتحرك داخلها، ذا شعر أسود طويل وله هيئة امرأة طويلة، لكن لا تظهر ملامحها، فيغطيها السواد بالكامل، راقبها في ذعر وهي تخرج من الغرفة وتتقدم ببطء، بينما أبوه لا يتحرك، لا يرى، أراد أن يصرخ به ويحذره، فيهرب من هذا المسخ، لكنها تجاهلت أباه، وتوجهت إلى المرآة، رأى عينين سوداوين لامعتين تحدقان به، هي تراه من خلف المرآة، خطا إلى الخلف بصعوبة، فكل أطرافه باردة متيبسة من الخوف، توقفت أمام المرآة بالضبط تتأمله من الجانب الآخر، أراد أن يركض لكنه خاف إن أقدم على أي حركة، أن تهاجمه، استجمع شجاعته وخطا للخلف، اصطدم بشيء أوقفه، التفت ووجدها خلفه، صرخ وباشر بالركض لكنها أمسكت به بقوة ودفعته إلى الأرض، حاول الزحف لكنها ثبتته وطافت فوقه، اقترب وجهها منه وشعر بحرارة تهب منها.
سمع نباح الكلب يقترب ثم اقتحم الكوخ مكشراً عن أنيابه الصغيرة، نظرت إليه وأرخت قبضتها عن يديه قليلاً، فاجأها الجرو الصغير، ثم هجم على ذراعه بدلاً منها، وأخذ يجذب كم قميصه بأنيابه، الآن عليه أن يقاوم المخلوق والكلب.
- ماذا تفعل؟ ابتعد.
صاح بهما، ودفعها بذراعه بكل قوته، ترنحت للخلف قليلاً وطار الكلب ليصدم بالحائط في صوت موجع، أمسكت بوجهه وفتحت فكيه حتى شعر أنها ستنتزعهم، ثم فتحت فكيها لحدود غير طبيعية وخرج من فمها سائل لزج أسود، ملأ فمه وشعر به يتسلل إلى حلقه وأنفه، لم يقدر على التنفس كما لم يقدر على التحرك أو الإفلات، وبدأ العالم يظلم من حوله سريعاً، وآخر شيء رآه: عينيها المضيئتين.
عندما فتح عينيه كان في فراشه، انتفض فزعاً عندما عادت له ذكرى ما حدث، كيف جاء إلى هنا؟ نظر في مرآته وتفقد وجهه وجسده، لا يظهر عليه شيء.
- (آدم).. استيقظ.. (سارة) على وشك الوصول.
قالت (ندى) من خلف الباب.
- كابوس، مجرد حلم حقير.
حدث نفسه وحاول نفض الذكرى عن عقله، بمجرد انتهائه من تغيير ملابسه، سمع (مروان) يصيح باسم (سارة) في بهجة، فقد أصبحت شخصه المفضل مؤخراً، صافحها وحاول نفض الذكرى عن عقله، صافحها وحاول رسم أكبر ابتسامة يقدر عليها في هذه الظروف، وبادلته الابتسام.
قالت (ندى):
- لقد أعدت لنا (سارة) إفطاراً عملاقاً.
قال (آدم):
- رائع.. شكراً.
مع إبقاء الابتسامة محاولاً إرضاء أخته، فلديها الكثير من التوتر في حياتها ولا يريد أن يزيده بقلقها على علاقته بـ (سارة).. بالرغم من أنه يشك في استمرارها، جلسوا حول مائدة الطعام وتعددت أمامهم أطباق ذات رائحة شهية.
قال (آدم):
- عمل جيد، لم أعلم أنك تتقنين الطهو.
- انتظر لتتذوق.
قالت (سارة) ثم وضعت له بعض الطعام في طبقه. والتفتت إلى (مروان) ثم قالت:
- كيف حال كلبك، لم أره في الحديقة؟
أجابها (مروان):
- هو رائع، أحبه كثيراً، ربما هو نائم.
تذكر (آدم) حلمه والصوت الذي صدر من الكلب وهو يصطدم بالحائط، مجرد حلم، سنسمع نباحه المزعج قريباً، لكنه شعر بالإعياء من فكرة وجود الكلب الآن ميتاً في الكوخ.
كانت (سارة) تراقبه، تنتظر رأيه في الطعام، وضع الملعقة في فمه وابتسم، لكنه سريعاً شعر بأحشائه تتقلص، اختفت ابتسامته ولم يقدر على البلع، آلمته معدته وشعر بدوار، نهض سريعاً وهرع إلى الحمام ثم أفرغ كل ما في معدته، مادة سوداء لزجة، تأوه من الألم والفزع وسقط على الأرض.
- لا.
طرقت (ندى) الباب وقالت:
- (آدم).. أنت بخير؟
أسرع إلى الباب وأغلقه، لا يريد أن ترى هذا المشهد.
- أنا بخير؟
قال بصوت مرهق، نظف الحمام ولملم أعصابه ثم خرج، جلس على الطاولة شارداً لا يأكل أو يسمع ما يقولون حوله، كل ما يفكر به هو الكوخ والحلم الذي لم يكن حلماً.
قالت (ندى) محاولة قتل الصمت:
- سلمت يداك يا (سارة).
ضربت ندى ساق (آدم) من أسفل الطاولة لتلفت انتباهه، انتفض وقال:
- ماذا؟
- كنت أقول كم هو لذيذ الطعام.
قالت (سارة) في إحراج:
- يبدو أنه لم يعجب (آدم).
- لا، معدتي تؤلمني فقط، اعذراني.
نهض وغادر الغرفة.
لم تطل (سارة) البقاء ثم رحلت ورحل معها أي أمل في إصلاح هذه العلاقة، وكان الاستياء واضحاً على (ندى).. لكن (آدم) لم يترك لها الفرصة للتحدث، أسرع إلى الكوخ وبمجرد فتح الباب صدمته الرائحة، وجد المرآة محطمة وبجانب الحائط جسد الكلب الصغير، كان كل شيء حقيقياً، جلس بجانبه وتنهد في حزن، هذا سيحطم (مروان).
طلب من (سعيد) أن يدفن الكلب بعيداً، وأمره ألا يخبر أحداً أنه مات، الكلب هرب وربما سيعود، سيبحث قريباً عن آخر يشبهه ويعيده إلى (مروان).. لكن الآن عليه أن يكتشف ماذا يحدث هم، ويبدو أن الجرو لم تعجبه الخطة.
(4)
كان (آدم) في مكتب جده يبحث عن أي شيء في أوراقه القديمة لتساعده في تفسير ما يحدث، أي شيء متعلق بتاريخ هذه العائلة وهذا البيت، هل هي حقاً لعنة أم أن البيت مسكون؟ لم يصدق هذه الخرافات من قبل، وجد في أحد الأدراج صورة قديمة لوالده مع شاب داخل الكوخ، ومكان عيني أبيه آثار حرق، وجد (سعيداً) في الحديقة وسأله عن الصورة إذا كان يعلم عن الرجل الآخر، بعد تعجبه من الحرق الذي في الصورة، وعدم التفسير من (آدم).. قال له ما يعرفه.
- أظن هذا (محمود).. والده كان يعمل هنا قديماً.
- هل تعرف كيف أجده الآن.
- نعم أعرف عنوان بيتهم القديم.
قاطعهما نباح كلب صغير بالخارج، نظرا ليجدا (مروان) يحمل كلبه في سعادة عارمة ويصيح:
- لقد عاد كما قلت يا (آدم).
- بسم الله الرحمن الرحيم.
قال (سعيد) في فزع، وواجه حيرة (آدم).
- لقد دفنته بيدي.
- اتركه، ضعه أرضاً الآن.
قال (آدم) بنبرة صارمة تعجب لها أخوه، وترك (مروان) الكلب الذي بمجرد لمسه الأرض ركض تجاه (آدم).. ظن (آدم) أن جلده على وشك مقابلة أنياب الكلب، لكن ما فعله كان أكثر رهبة، بدأ الجرو في لعق قدمه والقفز على ساقه مع هز ذيله بحماس.
- ماذا يفعل؟
سأل (آدم) متوتراً.
قالت (ندى) في تعجب ثم أضافت مبتسمة:
- أخيراً نهاية سعيدة.
- لا تدخله البيت.
قال (آدم) ونفض الكلب العائد عنه.
هذه الليلة، وقف أمام النافذة يراقب (مروان) يلعب مع كلبه أو على الأقل يحاول، فلم يتجاوب معه الكلب، وظل جالساً أمام الباب، أراد أن يبعده عنه، لكن كيف؟ ولم يبد خطراً بالنسبة لكلب ميت، هل دفنه (سعيد) حقاً واضطر المخلوق المسكين لحفر طريقه لأعلى.
- جدو.
قال (مروان) في حماس.
همس (آدم) لنفسه في سأم:
- ماذا يريد هذا العجوز الآن؟
دخل وحفيده بين ذراعيه، وانضمت لهم (ندى) سريعاً.
قال الجد:
- أريد أن أتحدث معك وحدنا.
لم تنتظر (ندى) وأخذت (مروان) ثم خرجت من الغرفة، دخلت المطبخ وأغلقت الباب ثم وقفت تحاول الاستماع، لم تمض دقائق وعلا صوتهما.
- لن تأخذه.
- وهل أنتظر حتى يضيع المرة القادمة؟ حفيدي كاد أن يختطف، لن أخرج من هنا إلا وهو معي.
سيطر الغضب عليها، ليس له حق! لا أحد لديه حق تفريقهم، اندفعت خارج الغرفة وصاحت:
- لن تأخذ أخانا منا، لن نتركه لثوان، وافعل كل ما تقدر عليه.
- أنتم أطفال، وما أقدر عليه كثير.
وقف (مروان) ووجهه على وشك البكاء، رآه (آدم) وارتجف جسده غضباً، فجأة ارتعشت إضاءة الغرفة، ولم تخف من حدة الموقف، لكن عندما بدأت الغرفة في الاهتزاز توقفوا، أسرعت (ندى) لتمسك ب (مروان).. استند جده على أقرب كرسي، الذي تحطم سريعاً تحت يده وسقط، توقف الاهتزاز ونهض الجد متعجباً، ثم هجم الكلب عليه.
- لا، لا تؤذه.
صاح (مروان).. وأسرع (آدم) لنزع الكلب الذي التصق بأنيابه ومخالبه في ساق الرجل، وفوجئ بقوة هذا الكائن الصغير، لكنه أطاع (آدم) وتركه، وضع الكلب على الأرض بعد تحمل لعقه ليديه لثوان مريرة.
- كيف تبقون هذا الشيء المتوحش مع طفل؟
سأل الجد في انزعاج وهو يتفقد ساقه التي كانت تنزف.
صاح (مروان) غضباً:
- كلبي ليس متوحشاً.
قال (آدم):
- أظن من الأفضل أن تذهب.
- لم أنته.
قال الجد وعرج تجاه الباب، لاحظ (آدم) الثريا تتأرجح في طريقه وراقب الوضع في صمت، شاهدها وهي تتخلص من رباطها وتسقط، سمع صوت تحطمها وصراخ الرجل، بعدها ذهب لنجدة الرجل، كان يتألم وذراعه يظهر عظمها، نادى (سعيداً) وأسرعوا إلى المشفى.
جلست (ندى) مع (مروان) في غرفته تحاول إلهاءه بوضع كل الألعاب أمامه، ولم تلق نجاحاً كبيراً، كلبه اختفى في مكان ما ولم ترد إدخاله البيت بعد ما حدث، حدق (مروان) بالألعاب دون لمسها، وعيناه حمراوان من شدة البكاء.
قالت (ندى):
- هل أحضر شيئاً لتأكل.
هز رأسه نفياً، فأضافت:
- ماذا عن الشوكولا؟
فوافق، عندما عادت (ندى) وجدت (مروان) يقف أمام الحائط يحدق ببقعة سوداء صغيرة عليه.
وقفت بجانبه تفحصها بعينيها، لم تكن هناك منذ قليل، لم ترد لمسها فبدت كسائل لزج، فجأة تحركت وتوسعت، خطت (ندى) للخلف ووضعت (مروان) خلفها، أخذت البقعة تتسع أكثر وأكثر، وخوف (ندى) يتزايد معها، بدت كأنها ستبتلع الحائط بأكمله، لكنها توقفت وبدأت تتشكل حتى ظهرت عينان مضيئتان وصدرت صرخة مكتومة من داخل الحائط، صرخت معها (ندى) وبسرعة حملت أخاها على كتفها وركضت خارج الغرفة، وآخر شيء رأته هو كائن أسود يخرج من الحائط قبل أن تغلق الباب.
عاد (آدم) إلى المنزل فور مقدرته، لم يرد أن يتركهما طويلاً وحدهما، وجد المكان مظلماً والكهرباء لا تعمل، ناداهما لكن لم يجد إجابة، بدأ القلق يتسلل إليه، هاتفها وسمع نغمة هاتفها في الطابق العلوي ولم يجبه أحد، أشعل كشاف هاتفه وركض إلى أعلى، كانت الجدران مغطاة برموز ورسومات غريبة وسوداء، ناداهما وهو يفتش الغرف واحدة تلو الأخرى وعقله يثور ويمتلئ بأبشع السيناريوهات، وجد هاتفها على الأرض وسط ألعاب (مروان) في غرفته، أمسكه وعاد ليفتش باقي الغرف، وقف أمام غرفة والده المغلقة، وسمع تأوهاً داخلها، فتح الباب سريعاً وتجمد، فبجانب الفراش وقف رجل يواجه ظهره.
- من أنت؟
سأل (آدم).. التفت له الرجل ببطء ورأى وجهه، كان يبكي دماءً ويسيل سائل أسود من فمه، مكان عينيه فراغ، ويصدر منه صوت بكاء موجع، لكنه تعرف عليه.
- بابا.
مد ذراعه تجاه (آدم) متوسلاً وأصدر صوتاً كأنه يحاول أن يقول شيئاً ولا يقدر.
- لا يمكن أن تكون حقيقياً.
رفضه (آدم).. فتعالى صوت بكائه حتى أصبح صراخاً حاداً، غطى (آدم) أذنيه بيديه وركض، تبعه السائل الأسود يرسم رموزاً على الجدران والسقف، وطارده صوت الصراخ الذي لا يتوقف.
- (ندى).. (مروان).
نادى مجدداً، وخشي الأسوأ شعر بأنفاسه تختنق، ثم بدأ البيت في الاهتزاز، وظهر الكائن الأسود خلفه.
- ماذا تريد؟
مد الكائن ذراعه تجاهه مشيراً إليه، ركض (آدم).. قدماه يحركهما الفزع حتى خرج من البيت، توقف البيت عن الاهتزاز وبدا هادئاً من الخارج، ظل (آدم) في الحديقة يتحرك ذهاباً وإياباً، يراقب البيت والكوخ ولا يستطيع الدخول كما لا يستطيع الهروب دون أن يعرف ما حدث لـ (ندى) و (مروان).. عيناه تحرقاه وجسده يرتعش، يخنقه عجزه وخوفه، رن هاتفه وأظهر (سارة) كمتصلة، أجابها وصوته يرتعش، لكن لم تكن (سارة) من أجابته.
(5)
وصل (آدم) إلى منزل (سارة) وفتحت له أخته الباب ثم رمت نفسها بين ذراعيه باكية، ضمها بقوة وربت على ظهرها محاولاً تهدئتها، ظهر (مروان) من خلفها وقال في دهشة:
- هناك عفريت في البيت.
حاولوا شرح ما يحدث لهم لـ (سارة) ووجود شيء يرعبهم في البيت، لكن رأوا في عينيها عدم التصديق، ليس ظناً أنهم يكذبون بل أن شخصاً ما يخدعهم، لكنها ستساعدهم رغماً عما يصدقون، ولم يخبروا والدتها بالحقيقة، فقط أن هناك تصليحات بالقصر ولا يستطيعون البقاء فيه.
في اليوم التالي حصل (آدم) على عنوان العامل القديم من (سعيد) وتوجه إليه، لا يعلم ماذا سيقول، فتح له الباب رجل عجوز ودعاه في ترحيب قبل أن يعرف من هو.
- العم (سليم)؟
- اعذرني يا بني، لا أتذكرك لكنني أعرف وجهك.
- لا أظن أنك تعرفني، لكنك كنت تعرف عائلتي، كنت تعمل لدى جدي (صلاح الكردي).
تغيرت ملامح العجوز، وقال:
- هذا منذ زمن طويل، ماذا تريد؟
قال (آدم) في تردد:
- أريد أن أسألك عن والدي (خالد الكردي).. هناك أشياء لا أستطيع تفسيرها.
قاطعه العجوز في انفعال شديد:
- شيطان نجس، لن يترك الشر بيتك لأنه دعاه بسحره.
قال (آدم) متفاجئاً من كلامه:
- ماذا تقول؟
نهض الرجل وأشار إلى الباب:
- أقول اخرج من بيتي، لقد قطعت علاقتي بتلك العائلة الملعونة للأبد.
نهض (آدم) وقال متوسلاً:
- أرجوك، اريد أن أفهم فقط.
صاح العجوز حتى ضعف صوته:
- اخرج.
دخل الغرفة رجل متوسط العمر وأمسك بذراع العجوز ثم قال:
- أهدأ يا أبي، سأخرجه، اجلس.
أطاعه العجوز، وفتح الرجل الباب لـ (آدم) وخرج معه.
- لم أقصد أن...
قاطعه الرجل:
- هل أنت ابن (خالد الكردي) فعلاً؟
قال (آدم) وهو يربط هذا الوجه بالصورة:
- نعم، وأنت (محمود) كنت تعمل في القصر مع والدك، أليس كذلك؟
- لم أعمل في القصر، كنت صديق لوالدك في وقت ما.
قاده بعيداً عن البيت وأكمل:
- سمعتك تخبر والدي أن هناك أشياءً غريبة تحدث في بيتك.
حكى له (آدم) ما حدث باختصار مراقباً تعابير وجهه، يتوقع عدم التصديق أو الرفض، لكنه بدا قلقاً خائفاً.
- هل تصدقني؟
- نعم، لأنني مررت بهذا مع والدك.
لم ينتظر زوال دهشة (آدم) أو بدء أسئلته، وقال:
- ما سأقوله لك لا يعرفه أحد غيري ووالدك، حتى شك أبي لم أؤكده.
- لقد قال إنه شيطان.
- والدك لم يكن... ساحراً شريراً، فقط كان شاباً مغامراً ومدللاً ويمل سريعاً، كنت صديقه الوحيد، فلم يتحمله الكثير ليصبحوا أصدقاء، كنا نخرج نبحث عن المتاعب والمشاكل ودوماً نجدها، لقد عانى جدك معه كثيراً لوقت طويل.
تعجب (آدم) لكلامه، فكل ما يعرفه عن والده، أنه كان هادئاً مسالماً يفضل الوحدة، وكان باراً بوالدي.
- في أحد الأيام جاء لي (خالد) ومعه كتاب قديم غريب، أخبرني أنه وجده، وأنه يحتوي على سحر، طلبت منه أن يتخلص منه لكن أراد اللعب وأكد لي أنه مجرد خرافات ولا ضرر من هذا المزاح، حاولنا فهمه معاً، كان مليئاً بالرموز والرسومات، ووالدك كان ذكياً، تمكن من ترجمة بعض الأشياء والكلمات، وكان محقاً، كان يحتوي على سحر وتعاويذ وطرق للاتصال مع ...
أوقفه توتره قليلاً ثم قال:
- عالم آخر، جربناه ما فهمناه ولم يحدث شيء وتأكدنا أنه خرافات ثم ضحكنا وأخفنا بعض العمال، اختفى (خالد) بضعة أيام فذهبت لزيارته، جدتك قالت أنه في الكوخ ولا يخرج إلا للطعام، ذهبت إليه وكان في حالة مزرية، متوتراً وخائفاً، أخبرني أن الكتاب حقيقي، وأنه استدعى شيئاً لعالمنا وهذا الشيء يرهبه، لم أصدقه في البداية، ظننته يخدعني كما فعلنا مع بعض العمال، طلب مني أن أساعده للتخلص من هذا الرعب، وافقت ليس لأنني صدقته لكنني أردت أن أريحه، عبثنا بالكتاب وما فيه وكالمرة السابقة لم يحدث شيء... لحظتها، ففي هذه الليلة زارني...
اهتز صوته وتنفس بعمق ليكمل:
- هذا الكائن الأسود الرهيب في بيتي، أمضينا أياماً في رعب خالص، لاحظ من حولنا، لكن لم نقدر على قول أي شيء، ابتعدت عنه، لم أقدر على التحمل، ظننت أن هروبي سيخلصني من هذا الرعب، وفجأة توقف كل شيء، كلمني والدك وأخبرني أنه تخلص من المشكلة ولن يلاحقني هذا الشي بعد الآن، وهذا ما حدث، لا أعرف كيف فعلها! لكنني لم أره بعدها ولم أعد صديقاً لـ (خالد).
بدا الرجل وكأنه كبر سنوات بعدما أنهى قصته، وجهه مليء بالحزن والندم، وبالنسبة لـ (آدم) فعجز عن الكلام، عقله يجد القصة لا تصدق وخصوصاً أن بطلها والده، كيف أخفى هذا الماضي كل هذا الوقت. تذكر الورقة وما كتبه: "سامحوني."
هل كان يعلم أن هذا الشيء سيعود لإرهابهم؟ هل تخلص منه على الإطلاق؟
- ماذا أفعل؟ ساعدني؟
- ليس لدي شيء آخر أقدر على فعله، ابحث عن الكتاب... ربما ستجد ما يساعدك فيه.
ربت الرجل على كتفه وتركه، جلس (آدم) على الرصيف يفكر ماذا سيفعل! أين سيجد هذا الكتاب وهل يمكنه فعل ما فعله والده.. سحر؟! يوجد مكان واحد يمكن أن يكون قد خبأ به الكتاب.. الغرفة في الكوخ، هل يستطيع العودة وهذا الشيء هناك؟
هاتفته أخته وسألته عما حدث، حكى لها ما سمعه، وعندما انتهى، استمع إلى أنفاسها القلقة، كانت القصة صعبة عليها أيضاً، سألته بعد فترة من الصمت:
- هل تصدق هذا الكلام؟
- لا أعرف، ليس لدينا إجابة أخرى، ثم أظنني رأيت هذا الكتاب... في مكان ما في الكوخ.
- هل ستعود؟
- ليس لدي خيار.
- إذاً سأذهب معك.
- لا يا (ندى).. لا أعرف ما سيحدث.
-ولهذا سأذهب معك ولا نقاش في هذا، أخاف عليك مثلما تخاف عليّ، ونحن في هذه المشكلة معاً، ليس عليك أن تتعامل معها وحدك.
لم يستطع إقناعها ووجدها أمام بوابة القصر عندما وصل، قالت:
- كلمت (سعيداً) ويبدو أنه لا يريد العمل معنا ثانية، ربما رأى شيئاً.
- ربما.
كان القصر مظلماً وكئيباً، وقفا في الحديقة يحدقان به متحفزين لأي حركة، لكنه ظل هادئاً، بحث (آدم) في أدوات الحديقة عن شيء يساعده في كسر باب الغرفة ووجده.
- (مروان) يسأل عن كلبه، أتمنى أن نجلبه معنا.
- انسى الكلب.
قال (آدم) بنبرة قاسية وندم فوراً، يعرف أنها تكلم كي تخفي خوفها، لكنه يتمنى ألا يرى هذا الكلب أبداً، دخلا الكوخ في حذر وأضاءت (ندى) كل مصباح مرت به حتى وقفا أمام الغرفة المغلقة، أشار لها (آدم) بالابتعاد قليلاً، ونزل بالفأس على الباب مرة بعد مرة، ومع كل مرة تزداد قوته وغضبه، حتى انصاع له الخشب وأصبحت الغرفة أمامه مكشوفة، خطا للداخل وتبعته، قابلتهما رائحة الغبار القديم ورائحة حمضية غريبة، فراش صغير وكرسي ومرآة مكسورة وصندوق خشبي، وامتلأت جدرانها المتهالكة برموز ورسومات كالتي ظهرت في المنزل، بدت مرسومة بطلاء لا بسائل خارق للطبيعة، وبقعة سوداء كبيرة على الأرض، وكأنها خرجت من فيلم رعب، وتلاقت عيونهما المليئة بالأسئلة ولم ينطقا شيئاً.
كان خوفه شديداً، لكن رغبته في إزاحة هذه الغمة أعطته الشجاعة، توجه إلى الصندوق وكسر قفله بالفأس، وبداخله رقد كتاب ذو غلاف جلدي أسود ضخم، ارتعشت يداه وهو يمسكه ويرفعه ويفتحه، تأمل الرموز ورأى ملاحظات بخط والده على هوامش بعض الصفحات، يقلب الصفحات وعيناه تمر على الرسومات وكأنها تبتلعه، رن هاتف (ندى) وكاد يسقط الكتاب فزعاً.
- (سارة)... ماذا؟
قالت (ندى) ثم فتحت مكبر الصوت ليسمع (آدم).
- (مروان) حبس نفسه في الغرفة ولا يستطيع الخروج.
قالت (سارة) في توتر وسمعا صوت بكاء ضعيف في الخلفية.
- أسمعه يقول: "لم أفعلها"... لا أظن أنه وحيد بالداخل.
أسرعت (ندى) خارج الغرفة وتبعها (آدم).. لكنه توقف عند بابها، فظهر أمامه في المرآة الكائن الأسود، خرج منها وتقدم ناحيته في هدوء، أطرافه تنتفض ويشير إليه، صرخا وابتعد (آدم) للخلف حتى التصق بالجدار وسقط الكتاب.
- (ندى)... اجري.
وقف الكائن أمامه لثوان ثم تحول شكله إلى امرأة.
- أمي!
قالت (ندى) من خلفه.
- لا.. توقف.
صاح (آدم).
- أنت لست هي.
تحول وجه الكائن ثانياً، هذه المرة ظهر وجه جده مبتسماً ابتسامة عريضة لدرجة غير طبيعية، أغلق (آدم) عينيه ثم فتحهما ليرى والده وهو يرفع ذراعه ليلمسه، ابتعد (آدم) عنها، وتحول رأس الكائن لرأس الكلب على جسده الأسود.
- لا.
صرخ (آدم) وسقط على ركبتيه وزحف مبتعداً، صرخ الكائن بصوت حاد لا يطاق، غطى (آدم) أذنيه وفعلت (ندى) مثله.
- توقف... ماذا تريد؟
توقف الصراخ ورأى (آدم) نفسه يقف أمامها، لقد أخذ شكله، لكن بطريقة مشوهة، عيناه سوداوان تنزفان دموعاً سوداء ووجهه مائل للزرقة وشفتاه بيضاوان، حدق (آدم) بوجهه المروع صامتاً لا يقدر على الحركة، وفجأة هوى الفأس عليه و (ندى) تمسك بطرفه، صرخ الكائن الذي تشوش وجهه بين وجوه عديدة حتى ذاب للسواد، وبسرعة أمسك بذراع (ندى) وغرز مخلباً طويلاً حاداً في كتفها، صرخت وتركت الفأس ونزل دمها على يد الكائن الذي دار بها ووثبتها ضد الحائط، نتفض (آدم) من مكانه وهرع لنجدتها، لكنه دفعه إلى الأرض بقوة، حاول النهوض ثانية وغرز الكائن مخالبه الحادة أكثر في كتفها، صرخت ولم يتحمل صراخها.
توسل إليه:
- توقف... اتركها.
أشار الكائن بيده الثانية إلى الكتاب، فتقلبت صفحاته حتى ثبتت عند صفحة معينة، أمسك (آدم) بالكتاب وقال:
- ماذا؟ ماذا تريد؟
لمح (آدم) بطرفي عينيه حركة في المرآة، التفت ورأى والده يقف في انعكاس مختلف للغرفة ويمسك بالكتاب متأهباً، ثم بدأ في القراءة بكلمات غير مفهومة، لوى الكائن شفرة يده داخل جرح (ندى) وصرخت من الألم..
- اقرأ.. مثله.
أعاد (آدم) الكلمات التي يقولها والده محاولاً مطابقتها مع ما يراه في الكتاب من ترجمة والده، تحرك الهواء في الغرفة بطريقة غريبة واهتزت الرسومات على الحائط، شعر (آدم) بأنفاسه تنقطع، لكنه لم يتوقف، شعر بحرقة في عينيه، وفي المرآة بدا على والده أنه يعاني أيضاً، بدأت حفرة سوداء تظهر في الحائط وتتسع مع تقدمه، ثم انتهى والده واختفى الانعكاس، توقف (آدم) معه وسقط على ركبتيه من الإرهاق يلتقط أنفاسه، ترك الكائن (ندى) وزحف (آدم) لجانبها، ضمها إليه وثبت يداه على جرحها.
- لا تقلقي... ستكونين بخير.
قال لها وبكت على كتفه.
فجأة شعر (آدم) بيد الكائن تطبق على قدمه وتجره للخلف.
- لا... اتركه.
صرخت (ندى).
شاهد الحفرة السوداء تقترب أكثر، نظر نظرة أخيرة إلى أخته التي تحاول الزحف تجاهه، دخل الحفرة وأصبح على الجانب الآخر ورأى الحفرة تضيق حتى اختفت وساد الظلام.
- لا... (ندى).
صاح في جزع.
تركه الكائن ونهض (آدم) على ركبتيه وتحسس الأرض تحته وحوله، الأرض ترابية ناعمة، شعر بالشيء يدور حوله، التقط أنفاسه بصعوبة وحاول الاستماع إلى وقع خطواته.
- ماذا تريد؟
تسارعت حركة الكائن حوله ومعها نبضات قلبه، يداه كانتا باردتين ومتعرقتين، حاول استجماع شجاعته للنهوض والركض ولا يعنيه أين سيصل في هذا الظلام! لكن فجأة دفعه وسقط على ظهره.
- هذه النهاية، سيحصل هذا الشيء على انتقامه.
شعر بثقل يثبته ولم يستطع الحركة ثم صعقه ألم حارق من مقدمة رأسه لآخرها، وشفرات حادة تخترق عينيه، سقتلعهما، صرخ حتى آلمته حنجرته ونفدت أنفاسه، انتهى الأمر سريعاً وشعر بالشفرات تترك جلده وسائل ساخن يغطي وجهه، وأدرك أن هذا الظلام من حوله ليس انعدام إضاءة بل فقدان بصره.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا